رثاء متأخر لرجل عادي

لم يحتج فيصل فرحات إلى ملعقة دواء ، لمي يشفى من ألم . ألم لا يرى ، لأنه كالسحاب . ثم إنه لا يكوم الكلام امام أحد ، لأنه لا يكلم الرفاق والزملاء والأهل والأصدقاء ، إلا كواقف على نافذة ، يستعد لإغلاقها ، لكي لا تفزع من الكلام . هذا رجل الظل في المدينة . يكثر رجال الظل في العاصمة ، ولكنهم لا يتشابهون . أدرك الآن أن فيصل فرحات ، لا يشبه أحداً، لأنه لم يمشِ ، لأنه لم يحلق سوى في دمه ، مذ ترك القرية لآلة النسيان المرهفة. آلة مرهفة في مواجهة ذكريات ، لفحته كما تلفح النار عصفوراً في غابة تحترق . وجد نفسه في صدريتها . هكذا ، إذا حاول

يوقع أحد كتبه

النجاة ونجا لن يرقد في الهواء الساخن ، وهو يقرص أذنيه ليتذكر أن عناصر النجاة تعيش في رأسه قبل أن تعزف في جسده .شققه ذكريات القرية ، بحيث جعل والده حتى الريح تقسو على أنفه وجفنيه واللحم تحت أظافره . والد قاس كالبرد القارص . لن يسأل أحد الصائغين ، لأن ما فعله بولده سقط على الولد كتمثال من صنع إله الحدادة .

لم يستطع الوالد ، على الرغم من كل شيءٍ ، أن يسرق كل شيء في حياة ولده ،من لم يتخل عن أناه لأنه لم يمتلكها يوماً .كما لم يخسر نعمة الصمت، لأنه صامت ، حتى في الأنفاس . سقط فيصل على المدينة كما يسقط الثلج على القرية . دام في المدينة ولو أن الثلج لا يدوم في القرية . بقي وحده يدحرج الأيام ، كل يوم ، كل يوم .يدحرج اليوم حتى يولد الفجر . إذاك ، يخرج نصف جسده من النافذة ، ثم يخرج كاملاً من الباب ، بعد أن يلحظ أن الباب يغار من النافذة . فيصل حساس ، كأنه معلق على زهرة . لم يلحظ من يصدقون أن للماء أصدقاء ، أن هذا الرجل صادق ،ملهم ، يقول ما يشاء ، يؤلف ما يشاء ، يودع سماء الله وهو يمشي على الأرض ، لا يدير ظهره للبحر ، لم يلحظوا أنه كل ذلك إلا بعد أن مات . سقط كثمرة نسيت أن تدعو القطافين إلى قطافها . فجأة ، مات فيصل . فجأة ، لم يره سكان شارعه في شارع الحمراء يورث الأرض خطواته ولا الصحف أصابعه . إذ أنه بقي مخلصاً لعاداته القديمة ، بعد أن أضحى البشر كالحجر ، بلا قلب . لم يشاهد على مدى أيام ، يمشي بقدمين مستعارتين على أرض مستعارة . لم يشاهد يوزع نعمه اليسيرة على شحاذي الهواية والإحتراف ، على شحاذين احتاجوا المال ، بحيث استووا في الطرقات ينتظرون من يراهم نجوماً تنادي ، من لا يلتفتون إلى الوراء . حتى إذا التفتوا لا يغسلون حاجات الناس سوى قليلاً.

لم يعاد فيصل الحنين حين باع قطعة أرض في القرية بثمن بخس ، ليسد ديونه . لم يفكر وهو يجلس في حديقة الصباح بالآخرين ، إذ قصدهم مباشرة ، ليعلمهم علوم الدمع بعد أن ظهر كينبوع مال ، لا هم له سوى مشاركة أرواح المكان أمواله . وزع ريشه الأبيض عليهم لكي يطيروا . ولكنهم لم يفعلوا ، لأنهم لا يعرفون نشيد هذا الطائر الأحمر . رجل يعبر اللغات ، ثم القارات ، ثم المعاني القوية وهو يعيش في ما اعتبره أفكاراً مشمسة . لا فرق عنده ، في أن يبيع الصحف ، أو يصلح مخطوطات الكتب في دار الفارابي أو يؤلف الكتب أو يستقر على ماركسيته أو يهاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية ، ليطرد منها لأنه أن يرمي خضرته على واحدة من ولاياتها ، حين ظنوا أنه يد تنفجر ما أن ينبلج الصباح . قضى بعض أعوامه هناك ، ثم عاد وهو يضع رأسه على شرفة يده ، خفيفاً كجناح فراشة .

حين انتبه الأصدقاء أنه لم يطعم الهواء منذ أيام ، على غير عادته ، ظنوا أنه في عزلة صغيرة . ولكنه ضد العزلات .ظنوا أن يحكي كلماته أو يجلس فيها كما لو أنها كرسي هزاز .غير أن نعش اليوم ظهر لأصدقاء هذا الطائر الصغير ، ما استدعاهم سؤال الجيران . قالوا ، أنه ما خرج منذ أيام. ثم ، حين تجسسوا عليه في غرفته الصغيرة وجدوه على جنبه . ثم ، وجدوه على الجنب نفسه بعد يومين . راحوا يقولون أن فيصل نائم ، نائم لا يتحرك . هكذا ، استدعي رجال الدفاع المدني . خلعوا باب الغرفة ليجدوه في لحظته السوداء . مات فيصل ،تردد الكلام في بيروت ، بعد أن اتصل جسده من جديد بسحاب الجبل . لم يقف الجيران على غيابه ، لأنهم وجدوه على أسلاك الغيب دوماً. ذات يوم ، طرق باب الجيران . وإذ فتحوا الباب ، راح يراسلهم ويراشقهم باليأس . أطلبوا الدفاع المدني ، الصليب الأحمر ، قال . ليدركوا بعد لحظات أنه مهجور . وأن هجرته من الآخرين ، سوى قلة نادرة ، حملته بالخوف وبأصوات البواخر البعيدة الهادرة بالرحيل . لم يعش في قصر أبيض ولا في قصر أسود . عاش في غرفة لا تقدر على تسمية الغد .لم يكتب على بابها كلمة . كتب الموت كلمته على باب الغرفة ، بعد أن صعد من أسفل الدرج إلى الروف . لم يحمه ثلج العتبة من الموت . ولا الجدار . مات فيصل على جنبه ، كما يموت رجل لا يعرف سوف أن يدير ظهره للمصابيح . لا تزال غرفة العمليات في واحدة من مستشفيات العاصمة تنتظره ليجري عملية لوركه، بعد أن جعل الموت ينساه لفترة . وبعد أن جمع تكاليف العملية ، وهو لا يعرف أنه على طريق المقبرة . ذاب كما يذوب الهواء في اليد . وجد كإظفر مغروز في فراش لم يحرس حياته ، إذ مدده في الموت .طوق الأخير المنزل ، بدون مهابة من مستأجر البيت . طفل بقدمين حافيتين ، حتى حين يرتدي حذائه . عاش حافي القدمين ومات حافي القدمين . لم يهمه شيء حتى ماكينات الأشرار . مات، وحين مات لم يجعل الموت ينسى أنه بلا نعلين .

مات فيصل فرحات بدون أن ندرك أنه عاش . لم يخجل وهو يدور على المقاهي والمؤسسات بنسخ كتبه ، لمد يبيعها للأصدقاء بأسعار لا تقاوم . جعلت الأسعار من الكتب هدايا . هكذا ، اخرى فيصل كتبه بدل أن يبيعها .بيع بنصف سعر الغلاف ، ربع السعر . وإذا وجد أن أحداً لا يملك سعر الكتاب تركه بين يديه ، كما يضع السحرة الكائنات العجيبة. كتب تأتي كبيض الطيور وتذهب كالطيور . هدايا للاحباب يا عناب ، كا ينادي وهو يحول يديه إلى مصنع مفتوح على حياة بيضاء . لم نحدق بالرجل كما حدق في كتبه ، قبل أن يتركها كما يترك اليتامي على بوابات دور الأيتام . مولع بالكتب ، هذا صحيح ، مولع يحولها إلى تفاح ، لن يحكم ثعبان أنيابه فيه إلا إذا تسلق شجرها .

عسكري ثقافة مصنوع من نسخة رجل مدني بخدين ضاحكين ، بخدين لا يتوقفان عن الضحك . أزعج الأمر من لم يعرفوا الضحك ، ولا يمتلكون خدوداً ضاحكة. أرداهم صرعى ضحكته وضحكه ، بعد أن رأوه يخرج الضحك من تحت إبطيه . يا لهذا الرجل ، من بوسعه القفز مع التلال بعكازيه ، بدون أن يقوم بإخراج فيلمه الخاص من ظلامه الخاص . مولع بالكتب والطبخ . يطبخ ، بدون أن يضع مئزر الخصر لكل من أحبهم. أبقى رفاقه احياء في الردهات في عام الإجتياح الإسرائيلي ، ١٩٨٢، حين طهى لهم مأكلهم كل يوم ، كل يوم . طباخ أحلام ، مطرة خيال ، ناقوس يقوم على خدمة الآخرين . بالكلوب هاوس ، طهى لمن بقوا يؤمنون حاجات المحاصرين ، بعادة الغراب . لم يحمل قلق الشارع إلى الداخل ، حتى حين جرى سؤاله عن مصدر المواد المفقودة ، ما يجلبها من مصادر لم يعرفها أحد قط.

مات فيصل بدون تقدير . لم يقدر لأن من لم يقدره لم يرَ جماله. رجل جميل،بتقديره أن الجمال لا يوضع على طاولة ولا على كرسي هزاز من زجاج . هذا رجل جميل ، ميشيمي الجمال . رد ميشيما على الفضوليين ، حين علق الجمال الخارجي على الجمال الداخلي . الخارجي انعكاس الداخلي . هذه معادلته . خرج جمال فيصل من هذه المعادلة . الجمال ، لا أن تنفخ بالناي ، أن تخرج الآخر من غار الشتاء الطويل وأن يحمل الشمس إلى بابه . الجمال روح لا تحفة . جمال فيصل من جمال روحه . لذا ، لم يره أحد كتحفة .روح حرة ، هذا هو الجميل في فيصل .جنراله ، من جلس بثيابه وهو ينتظر زائراً ليس من هذا العالم. زائر لم يأت .

الآن ، تمتلك الرغبة الأصدقاء والزملاء والرفاق بأن يحضنوه ، بعد أن فوتوا الأمر وهو لا يزال حياً. لن يحضن أحداً شبحاً ولا شجرة تقع عليها الطيور من كل الأشكال ، بدون أن تدري بأن ثمة كرم في شجر يحوي الطيور . كثرت الأيدي وهي تحمل الورد لكي تهديه لبائع الورد . وردة واحدة في كل يد ، وردة بعظمة آلهة اليونان . جرى الأمر بعد أن كتم الليل صباح فيصل ، بعد أن رفض أن ينفخ في صخرته حتى يقوم من خلف الصخرة ، لأن في فيصل خطوة من خطوات يسوع ، من تقدم مسافات على خطواته السابقة ، ليوجد مصلوباً ، وحيداً، لا صديق له سوى دمعة ، لم

على عكازين بضحكة دائمة

يرها من رآها على ما هي عليه . إنها ماء المفكر ، القديس . ماء الطيف . من يرثي طيفاً ، سوف يجد القصائد تطير في فضائه كما يطير الهواء فوق الجسور . لن يمرض الكلام إذا ما قال قائله ، أن الناس تهدي الأموات باقات ورد ، حين تتردد في إهدائهم وردة واحدة في حياتهم .

لا تكفي وردة لفيصل ، هذا المساء ، ولا في الصباح . وردة كالمساء، كالصباح ، لن يكفي كل الورد فيصل ، بعد أن جلس على حصان الأمبراطور / الموت كما يجلس قلب أبيض على وردة سوداء.

حط بالمدينة ليضيء جزءاً منها ، وهو لا يعلم أن جسده الملقى في بيروت ترك روحه في القرية . بقي هناك ، على الرغم من تنمر والده عليه وهو بالكاد يقدر على تصيد سمك حزنه من ماء روحه المكلومة . المدينة متحف فيصل الضخم . القرية قصيدته ، لا يراها سواه وهي تخرج من جليد الجلد في المدينة .

فتح الكتاب أوراقه له ، لكي يعيش فيه . ولكن الأول كساؤه الثاني ، حين أن كساءه الأول هو المسرح . لم يجر في المجالين خلف أتعاب الدنيا ولا أتعاب الآخرة . العمل فيهما تخفف من اعباء الحياة . ملهمه في المسرح جلال خوري . الأخير بريشتي، تغريبي . إذن ، فيصل بريشتي ، تغريبي بدوره . “معو حق إبني” ، متحولة عن جحا في القرى الأمامية لخوري نفسه . وهي أول مسرحية يتلقفها الجمهور بأكثر من عرضين أو ثلاثة عروض كما قضت العادة في التجربة اللبنانية وهي لا تزال تبحث عن جمهورها. كتبها وأخرجتها سهام ناصر .مذاك راحت أصابعه تملأ الأوراق والمنصات بكلامه ، بصراخه المكتوم . له ” مزرعة معزولة ” أخرجها أنيس سماحة في احتفال دراما مين ، احتفال اجتمع فيه اليسار اللبناني بأطيافه دفاعاً عن ما ادخرته البلاد في صناديقها. حرية ، ديمقراطية ، عدالة ، مساواة. الإحتفال في قاعة الويست هول في الجامعة الأميركية في بيروت ، مع دخول قوات الأمن العربية إلى لبنان ، إثر الجولة الأولى من الحرب الأهلية بالعام ١٩٧٥. كتب وأخرج كفرجبروت ، ثم سقوط عويس آغا. ألف العديد من مسرحيات نشرت في كتب ولم يقدم على الخشبات أو بقيت على ورقها الأصلي كمخطوطات . نايم الأخ، خمسة بتاخدهم ستة، كمثالين . أجمل ما كتب في ادب السيرة . اجزاء من سيرته الذاتية في مجموعة اصدارات . ابرزها ، رهبة الكتابة وعمر الولدنة . كتب في الأدب والأدب السياسي ، حيث واظب على توزيع منشور يومي في أرجاء المدينة ، لكي يسقط غضبه على ورق الدفاتر ، لا في فضاء يمنع الكلام .

لم يأخذ فيصل الميت صندوقه بيديه. لم يأخذ أصدقاءه إلى حيث زرع الصندوق في تراب لا يجزع من تلقف طيب ، مواظب ، أجير ما دامت الأجرة تخيط حاجاته . وردة سوداء على قبر مجهول . قبر من لا يفكر في مدى ادراك الناس لأدواره. وهي كثيرة . لطالما طرد كما يطرد الخدام ، على الرغم من الحاجة إليهم . لطالما ألف وطبع ما له علاقة بالإخبار لا بالمخبرين ، على المرقنة ، ووزعه في الطرقات والمقاهي . أن ما يؤلفه ويطبعه لا كلامه القاطع . إنه احتجاجه المكتوم على عدم افساح مساحة ولو ضئيلة له ، على أرض المؤلفين الصابونية، من يرتدون المعاطف والسترات لكي يعيشوا حيواتهم الأخرى .

حبة قمح في سهول الشيوعيه ، بشيوعيين ارستقراطيين ، عاملوه كما لو أنه شعيرة نافرة على قدم سيدة فاخرة .عاملوه كما يعامل الأسياد العبيد ، وهو يخدمهم ، ما يجعلهم في استراحاتهم يتحدثون مع زوجاتهم أو مع عشيقاتهم أو مع أنفسهم بحرية أكبر . يبحث عن ناره في بردهم بدون أن ينتبهوا . بدون أن يروا الرجل كشمعة منسية، تغسل وجوههم الميتة يمطرها . ماكر هذا الرجل القصير في هذا الاختلاف بين المُشَغِّل والمُشَغَّل . سهل في التعامل ولكنه ليس خفيفاً ، يدور على حاجاته في حاجات الآخرين ، من ظنوا أنهم في عيد بأيد مليئة بجواهر ماركس وانجلغز ولينين، حين أدرك فرحات أنه لن يكون لهم يوم آخر إذا ما استمروا في هذه السياسة وعلى هذا المنوال .

صنع فيصل في ذلك الزمن ما تعلمه من نفسه لا ما علمه والده له . كتب ما كتب ، أخرج ما أخرج . اجزاء رواية من سيرته الذاتية، أجمل ما كتب . لا ما ألف . لأنها مؤلفة قبل أن تؤلف . إنها كتب زواج عن حب . كتب ضد المخيلة ، تجعل الخيال واقعاً والواقع خيالاً . ولكن فيصل فرحات في البوم صوره ، لم يأخذ سيجارة من علبة سجائر ، لم يخترها له صاحبها . ترى هل تزوج ؟ . لا أحد يدري، من تلكؤه خلف جرس لا يعرف لمن يدق. لعله تزوج نفسه واكتفى بزواجه هذا . لن يعمل ، لم يعمل بالحقول النفطية ولا بصنع الكعك . سعد بما صنعه وهو يغيب في أيامه ، ثم غاب في وادي النوم كالنوم . ما يجيء على غفلة، يذهب على غفلة . جاء الرجل كالغفلة. ثم ذهب في الغفلة . لم يعرف الأزهار المنزلية وهو يجهد ويجاهد لكي ترى أصابعه المهملة في فضاء العالم . غير أنه ترك جمهوراً قال ويقول ، أنه وحده عرف كيف يدخل بيت النار وكيف يخرج منه، بدون أن يعرف كيف دخل وكيف خرج . لن يحكوا عن مدى ثقافته ، لكي لا ينافسهم ، غير أنه صديق ، نسخة ثرية من البشر ، لن يشبهه أحد حتى في رقدته الاخيرة .

لم يحسب على ابناء العائلات الثرية ولا المهندسين .ولكنه أثرى حياة فقيرة وهندس حياة من اكشفوا حبهم له الآن. لذلك ، سوف يعود سعيداً ذات صباح ، ذات مساء ، ولو لم تسعده الحياة قط . ولن تسعده . هو الأدرى بذلك .