خيال علمي

قالت مُدرسة اللغة العربية: دعونا نتخيل العالم سنة ٢٠٠٠م، كيف ستكون الحياة حينئذ، وما سيكون فيها من جديد؟

كان ذلك في منتصف سبعينات القرن الماضي حيث كنا في اول الصبا، تملأ الذهن احلام كبيرة و تتسع المخيلة بلا حدود. بعد لحظات قصيرة من الصمت والتفكير توقدت الاذهان وانهالت الاجوبة التي وجدنا بعضها مضحكا دون أن نعلم انّ بعض ما اضحكنا حينها لغرابته سوف يتحول الى حقائق ملموسة. قالت احدانا سوف يصبح القمر قريبا جدا بحيث يذهب الطلبة اليه في رحلات مدرسية. قالت الاخرى سوف يكون لدينا (تليفون ابو التلفزيون)، لا ازال اذكر عبارتها بوضوح حيث كانت تقصد امكانية سماع حديث المتكلم عبر الهاتف مع رؤيته في نفس الوقت، و غير ذلك الكثير مما تسرب من الذاكرة و اختفى عبر منافذ النسيان.

كان العقد من الزمان يبدو الينا و كأنه دهرٌ طويل حين كنا في ذلك العمر الغض، لكن السنوات مرت سراعاً، يسابقها التطور العلمي ويجري اسرع منها في احيان كثيرة، وها نحن في اوائل العقد الثالث من عمر الالفية الثالثة وقد تحول بعض نتاج مخيلة  الطالبات في ذلك اليوم البعيد الى امور اعتيادية في حياة الانسان اليومية. تذكرني خفة وزن جهاز الهاتف النقال النحيف المسطح بالصورة التي رسمتها في ذهني في ذلك الدرس للـ (التليفون ابو التلفزيون) حيث تخيلت سماعة هاتف بيتنا معلقة على جانب جهاز التلفاز الضخم (من حيث الحجم وليس من حيث اتساع مساحة شاشة العرض)، يربطهما نفس السلك الحلزوني، وقد احترت في حينها اي موضع يكون اجمل لقرص الارقام الدوار. أعاد تلك الذكريات الى ذهني مقال قرأته مؤخرا حول تمكن العلماء من التحاور مع أشخاص نيام!

عُرض قبل اكثر من عشر سنوات واحد من أفلام الخيال العلمي حيث امتلك البطل فيه القدرة على التسلل الى احلام الاشخاص الذين كان يهدف الى سرقة معلومات مخزونة في اللاوعي لديهم. يبدو الان ان تلك الفكرة الخيالية كانت نبوءة بما سوف يتمكن العلم من تحقيقه بعد سنوات لا تُعد طويلة.

يصنف العلماء الاحلام الى عدة اصناف منها تلك الاحلام التي يعي الحالم خلالها انه يحلم، وهذه الاحلام غالبا ما تكون واضحة صافية، تسمى باللغة الانكليزية lucid dreams. تمكن العلماء ولأول مرة من التواصل مع اشخاص نيام خلال استغراقهم في تلك الاحلام الواضحة، كان ذلك خلال تجربة محدودة اجريت في اربعة مختبرات على ستة وثلاثين متطوع أجابوا و هم نيام على اسئلة حول بعض الروايات وكذلك بعض المسائل الرياضية، مما يجعلنا نعيد التفكير في التعريف العلمي التقليدي للنوم انه الحالة التي ينفصل فيها العقل عن الواقع المحيط به فلا يعي الشخص النائم ما يدور حوله.

انتبه الانسان الى تلك الاحلام الواضحة وعرفها منذ القدم، حيث ورد ذكرها في كتابات الفيلسوف الاغريقي ارسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، و قد تكثفت حولها الدراسات منذ سبعينيات القرن الماضي، حيث ركز العلماء على دراسة الحالات التي يمر بها الانسان خلال النوم وبالتحديد خلال مرحلة حركة العين المتسارعة والتي تحصل معظم الاحلام خلالها. وقد حاولوا خلال تلك الدراسات والتجارب (الدخول) الى احلام الاشخاص المشاركين في التجارب عن طريق استخدام محفزات من الصوت والضوء الا ان استجابة النائم كانت محدودة جدا.

اجريت مؤخرا تجربة قام بها علماء وباحثون في كل من فرنسا وهولندا والمانيا والولايات المتحدة الاميركية و بشكل مستقل. شارك في  التجربة ستة وثلاثون من المتطوعين الذين تفاوتت تجاربهم مع الأحلام الواضحة ما بين من مروا بها لمرات عديدة وبين من  لم يختبرها ولم يمر بها ابدا لكنهم يتذكرون تفاصيل حلم واحد في الاسبوع على الاقل. كان الهدف من التجربة ارساء طريقة للتواصل مع الشخص النائم عن طريق الكلام وتوجيه اسئلة لم يسمع بها المتطوعون ابدا خلال فترة التدريب والاعداد للتلك التجربة المثيرة!

يبدو ان الواقع يختلط مع الحلم بالنسبة للشخص النائم اثناء فترة الاحلام الواضحة، لذلك قام الباحثون في بداية تلك التجربة بتدريب المتطوعين على تمييز مرحلة دخولهم حالة الحلم، والتي تقع غالبا خلال فترة الحركة المتسارعة لعيني النائم. استعرض العلماء عدداً من الاشارات التي سوف يستخدمونها مع المتطوعين اثناء نومهم للإيعاز اليهم انهم بدأوا مرحلة الاحلام مثل النقر بالاصابع او ايعازات صوتية او ضوئية محددة حيث استخدم كل مختبر من المختبرات الاربعة ايعازات مختلفة خاصة به.

حُددت فترات مختلفة للقيلولة، بعضها كانت في المساء في الوقت المعتاد لذهاب الشخص الى النوم وبعضها في الصباح الباكر. اتفق الباحثون مع المتطوعين على اشارات يستجيب بها النائم عند دخوله مرحلة الحلم الواضح كأن يحرك رأسه بطريقة معينة او يحرك عينيه ثلاث مرات نحو اليمين مثلا. اجريت التجربة باستخدام الخوذ الخاصة لاجراء التخطيط الدماغي حيث رصد العلماء من خلالها فعاليات ادمغة النائمين بالاضافة الى مراقبتهم لحركات العيون و تقلصات عضلات الوجه.

تم توجيه اسئلة بسيطة الى النائمين حال دخولهم مرحلة الحلم، اسئلة تتم الاجابة عليها بنعم او لا، او اسئلة رياضية بسيطة مثلا حاصل طرح ستة من ثمانية. اما بالنسبة للاجابة فقد تم تدريب المتطوعين على الاستجابة عن طريق تحريك العيون او عضلات الوجه ؛ كتحريك العين مرتين لاعطاء ناتج الطرح المذكور او الابتسام او التقطيب للرد بنعم او لا. لا بد من الاشارة الى تدريب المتطوعين في المختبر الالماني على الاستجابة عن طريق تحريك العيون بما يتوافق مع شفرة مورس!

اجريت سبعة و خمسون جلسة من جلسات النوم، ان صح التعبير، كانت النتائج ايجابية في خمسة عشر منها، حيث أشار ستة متطوعين خلالها الى كونهم في حالة حلم واضح! وجه الباحثون اليهم اكثر من مائة وخمسين سؤالا كانت استجاباتهم لها صحيحة بنسبة ١٨٪. اما عن التجربة بشكل عام فقد سجل العلماء النتائج التالية:

٣,٢٪ من الاسئلة كانت اجاباتها مغلوطة،

١٧٫٧٪ من الاجابات لم تكن واضحة،

٦٠٫٨٪ من الاسئلة لم تلق اي استجابة.

هذه النتائج، رغم قلة الايجابية منها و صعوبة الحصول عليها، الا انها كانت كافية لتؤكد امكانية التواصل مع انسان خلال نومه.

عمل الباحثون على ايقاظ الشخص بعد توجيه بضعة اسئلة اليه وهو في حالة الحلم ثم سؤاله ان يصف الحلم، بعضهم تذكر الاسئلة وكأنها جزء من الحلم، مثلا قال احدهم انه سمع اسئلة الرياضيات تأتي من راديو سيارة كان يقودها في الحلم!

يأمل الباحثون ان تفتح هذه التجربة آفاقا واسعة لدراسة الاحلام، حيث كل ما كان يعرف عنها قبل تلك التجربة اتى من خلال ما يرويه الشخص بعد استيقاظه، اما دخول عالم الحلم فهذا بعد جديد قد يساعد الشخص على التعامل بشكل افضل مع القلق والتوتر والصدمات النفسية، وربما تمكنه من تعلم مهارات جديدة وتزيد من مقدرته على الابداع!

يحاك عالم الاحلام ويبنى من خزين الذكريات في ذاكرة الانسان، او هكذا يقول العلماء. يا ترى كيف سيكون عالم الاحلام عام ٣٠٠٠م؟ ماذا سيعرف الانسان حينئذ عنه وكيف سيتعامل معه او يستغله في الخير او الشر؟ لا أملك الا ان أقول “وما اوتيتم من العلم الا قليلا.”

العدد 122 / تشرين الثاني 2021