تنامي الدين وخروج “الأموال الساخنة” يؤرقان اقتصاد مصر

دعم سعودي لاحتياطات القاهرة النقدية.. وعين “المركزي” على الفائدة الأميركية

هلا صغبيني

خمس سنوات مرت على توقيع مصر اتفاق قرض لثلاث سنوات مع صندوق النقد الدولي قيمته 12 مليار دولار في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 2016 والذي استهدف “معالجة نقاط الضعف في الاقتصاد الكلّي وتعزيز النمو الشامل وتكوين فرص العمل”، لتعود مجدداً إلى هذه المؤسسة الدولية عام 2020 من أجل مواجهة تداعيات فيروس كورونا الذي ضرب مصادرها من النقد الأجنبي. فأين الاقتصاد المصري اليوم بعد هذا الدعم المالي الكبير والذي

السعودية أودعت 3 مليارات دولار في المصرف المركزي المصري

تُوّج مؤخراً بوديعة سعودية قيمتها 3 مليارات دولار في المصرف المركزي المصري توازياً مع تمديد أجل الودائع الحالية البالغة 2.3 ملياري دولار؟

بداية، أتى لجوء مصر إلى صندوق النقد الدولي في العام 2016 بعد معاناة مالية عميقة تمثّلت في ارتفاع عجز موازنتها العامّة ليسجل نسبة 12.47 في المئة من الناتج المحلي، وفي بلوغ العجز في الحساب الجاري 20.4 مليار دولار. الأمر الذي أدى إلى نزيفٍ حادّ في احتياطاتها من العملات الأجنبية التي انخفضت بحوالي 20 مليار دولار عما كانت عليه قبل ثورة 2011 وتصل إلى 16.4 ملياراً في نهاية 2015، بسبب اضطرار المصرف المركزي للدفاع عن قيمة الجنيه في وجه تراجع الطلب على الصادرات المصرية. مع العلم أن مصر كانت اعتمدت في السابق على دول عربية، وهي السعودية والإمارات والكويت، لتمويل العجز في موازنتها وتقديم الدعم النقدي لمصرفها المركزي.

برنامج “تسهيل الصندوق الممدّد” (Extended Fund Facility) الذي قدّمه صندوق النقد الدولي (وتلقت مصر قسطه الأخير البالغ ملياري دولار منتصف العام 2019)، تضمّن شروطاً أساسية وضعها الصندوق يمكن تعميم عناوينها على الكثير من الدول المَدينة وافقت هي أيضاً على تصحيح سياساتها الاقتصادية للتغلب على المشكلات التي دفعتها إلى طلب المساعدة المالية من المجتمع الدولي. أبرز هذه الشروط تحرير نظام سعر الصرف (أي تعويم الجنيه المصري)؛ وضبط أوضاع المالية العامة لخفض نفقات الموازنة؛ وضبط الأجور؛ وتقليص حجم القطاع العام؛ وزيادة الضرائب؛ وإجراء إصلاحات هيكلية عميقة؛ وإلغاء تنظيمات مرتبطة بشركات الأعمال لتحفيز النمو الاقتصادي. وبالتالي، فإن الهدف من هذا البرنامج كان تحسين عمل أسواق النقد الأجنبي، وخفض عجز الموازنة والديون، وزيادة معدل النمو، وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي لحماية الفقراء ومحدودي الدخل.

بعد هذا البرنامج، كانت لمصر عودة من جديد إلى صندوق النقد عام 2020 بعدما بدأت خزنتها من العملات الأجنبية تتقلص بسبب كورونا الذي ضرب مصادرها من النقد الأجنبي، من السياحة إلى التحويلات الخارجيّة والاستثمار الأجنبيّ المباشر وصادرات الغاز الطبيعيّ وتدفقات رؤوس الأموال الدولية. فحصلت منه على قرضين، الأول في مارس (آذار) بقيمة 2.77 ملياري دولار استحق بعد عام. والثاني في يونيو (حزيران) بـ 5.2 مليارات دولار لـ12 شهراً يبدأ سداد شريحته الأولى في سبتمبر (أيلول) من العام 2023.

وإلى هذه المبالغ الكبيرة، كان لمصر حصة ايضاً من حقوق السحب الخاصة التي وزعها الصندوق من أجل دعم التعافي العالمي من جائحة كورونا والتي بلغت قيمتها 2.8 ملياري دولار.

أين الاقتصاد المصري اليوم؟

نجحت مصر في تنفيذ إصلاحات عديدة لطالما فشلت الحكومات السابقة في إنجازها، من بينها تعويم سعر صرف الجنيه، وخفض الدعم على الوقود والغذاء، وتنفيذ تدابير تقشّفية معيّنة، ورفع أسعار الفائدة لتعويض الأثر التضخمي لخفض قيمة العملة.

كما أنجزت الحكومة مشاريع بنى تحتية كبرى كان له أثرها الكبير على بيئة الأعمال ولاسيما على قطاع السياحة الذي استعاد بريقه قبل أن يقعده فيروس كورونا مجدداً.

كل ذلك ساهم في تقليص العجز المالي وانخفاض التضخم بشكل كبير عن المعدّل الذي بلغه بعد خفض قيمة العملة. كما تعافى النمو الإقتصادي ليسجل 3.3 في المئة عام 2020 على رغم التحديات التي فرضتها أزمة كورونا، وإن

خروج التضخم عن السيطرة قد يدفع “المركزي” الى زيادة الفوائد

بتراجع قليل عن معدله الذي سجله في العام 2019 (3.6 في المئة) و5.6 في المئة عام 2018. وتستهدف الحكومة تحقيق نمو بأكثر من 5.5  في المئة مع نهاية السنة المالية الحالية.

أما الاحتياطات بالعملات الأجنبية، فارتفعت بشكل ملحوظ لتصل إلى 45.5 مليار دولار قبل أن تضطر مصر إلى السحب منه لمواجهة الأزمة الناتجة عن كورونا، ما أدى إلى تراجعه إلى حدود 36 مليار دولار ليعود إلى الإرتفاع مجدداً فيصل إلى 40.8 مليار دولار في سبتمبر (أيلول) 2021.

ولعل أهم النتائج الإيجابية لتجربة مصر مع صندوق النقد الدولي، هي في عودتها الناجحة إلى الأسواق المالية والتي ساهمت في تحسّن تصنيفها الائتماني بشكل شبه فوري. إذ اكتسبت ثقة محلية ودولية تجلّت بتدفقات كبيرة من النقد الأجنبي جعلتها في فترة قصيرة إحدى أكثر الوجهات المقصودة لتدفقات رأس المال قصيرة الأجل والتي ساهمت في خفض سعر صرف الدولار أمام الجنيه. وكان أن تهافت المستثمرون في الأسواق الناشئة لشراء سندات الخزانة المصرية بسبب معدلات فائدتها المرتفعة مقارنة مع تلك المنخفضة – وحتى السلبية – التي كانوا يتلقونها في تلك الأسواق.

من جانبها، المصارف المصرية نجحت في تحقيق أعلى مستوى من التدفقات الدولارية في تاريخها، ما مكّنها من تلبية طلبات زبائنها وتغطية حاجات الدولة، والأهم المساهمة في رفع مستوى الإحتياطي النقدي. وهي لا تزال اليوم تحتفظ بمخزون احتياطي كبير من العملات الأجنبية والذي من شأنه أن يسمح لصانعي السياسة بتخفيف الضغوط على الجنيه في حال حدوث المزيد من التقلبات في التدفقات الأجنبية في الأشهر المقبلة.

تحديات تنامي الدين

على رغم المؤشرات الجيدة، إلا أن التوقعات بالنسبة للاقتصاد المصري لا تزال ضبابية نتيجة استمرار تنامي الدين العام وارتفاع نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي، والاعتماد الكبير على رأس المال المستثمر الذي تجتذبه أسعار الفائدة.

فالدين العام الخارجي ارتفع من 55 مليار دولار في العام 2015، إلى 129.1 مليار دولار في ديسمبر (كانون الأول) 2020، وليواصل ارتفاعه في النصف الأول من العام الجاري إلى 137.8 مليار دولار أي بزيادة 8.7 مليارات دولار. وقد ارتفع الدين طويل الأجل بواقع 6.9 مليارات دولار منذ نهاية العام 2020 ليصل الى 124.1 مليار دولار، فيما سجل الدين قصير الأجل ارتفاعا بقيمة 1.8 مليار دولار ليصل الى 13.7 مليار دولار في يونيو (حزيران).

وبحسب تقرير للبنك الدولي، فإن ديون مصر قفزت من 36.77 مليار دولار نهاية العام 2010 إلى نحو 131.58 مليار دولار نهاية 2020، بنسبة زيادة بلغت 257 في المئة.

هذا الارتفاع المقلق للدين العام دفع بصندوق النقد الى تحذير مصر من أنها قد تكون عرضةً للصدمات الخارجية، كمثل ارتفاع تكاليف الاقتراض بالمستويات العالمية مع سحب الاقتصادات المتقدمة إجراءاتها لتحفيز النشاط الاقتصادي تدريجاً.

وهو تحذير مبرر سيما وأن توقعات الصندوق تشير إلى الدين القومي المصري، أي بجزئيه المحلي والعام، يمكن أن يمثل 92 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2021. لكن الحكومة المصرية أبدت ثقتها من احتواء نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي، بدليل نجاحها  في خفضها من 108 في المئة خلال العام المالي 2019 – 2020 إلى نحو 88 في المئة في العام المالي الجاري، وهي نسبة كان يفترض أن تصل إلى مستوى الـ82 في المئة لولا تفشي كورونا.

تخارج “الأموال الساخنة”؟

هناك مخاوف جدية أيضاً من تداعيات تخارج الأموال الأجنبية من مصر والتي كانت دخلت على شكل إستثمارات في أدوات الدين، ويطلق عليها توصيف “الأموال الساخنة” كونها تغادر البلد بسرعة في حال وجود أسواق أكثر فائدة لها. علاً أنه بين مارس (آذار) ويونيو (حزيران) من العام 2020، خرج من مصر أكثر من 20 مليار دولار نتيجة التقلبات في الأسواق الناشئة وتأثير جائحة كورونا.

هذه المخاوف قد يكون لها ما يبررها مع الترقب الكبير لزيادة أسعار الفائدة الأميركية العام المقبل والقرار الذي اتخذه أخيراً الاحتياطي الفدرالي – الذي يواجه أعلى مستوى تضخم في ثلاثة عقود – في إبطاء عمليات شرائه للأصول في نوفمبر (تشرين الثاني) والتي كان منحها لمواجهة الوباء. وستُخفض من 120 مليار دولار شهرياً في الوقت الحالي بواقع 15 ملياراً كل شهر إلى أن تبلغ الصفر.

فمصر تعتمد على الاقتراض المباشر وعلى التدفقات الأجنبية والتوجه إلى أسواق الدين لتوفير سيولة بالنقد الأجنبي للإيفاء بالتزاماتها، والحفاظ على احتياطيٍ آمن من النقد الأجنبي، ما يجعلها من ضمن الأسواق الناشئة المعرضة لتداعيات خروج المستثمرين. بوضوح أكبر، فإن ارتفاع معدلات الفائدة الأميركية قد يؤدي إلى خروج هائل لرؤوس الأموال من مصر ومن الأسواق الناشئة، وكذلك إلى ارتفاع الدولار، مما يضعف الجنيه المصري ويثقل سداد الديون الخارجية المصرية.

لكن في المقابل قد تكون الزيادة المحققة في الاحتياطات الأجنبية الصافية أخيراً عاملاً مطمئناً بعض الشيء إلى قدرة مصر على مواجهة أي تقلبات في سوق الديون، يضاف إليه أن لديها نشاطات اقتصادية أخرى ستساعدها على التعامل مع أي انخفاض في تدفقات الاستثمارات الأجنبية. وهو صراحة ما عبّرت عنه وكالة “ستاندرد أند بورز”. فهي رأت أنّ مصر تمتلك “مصدات” كافية لمواجهة ارتفاعات أسعار الفائدة عالمياً، وتحصر المشكلة في الحجم المرتفع لخدمة الدين الذي تحض على خفضه في حال اضطرت إلى تحمل هذا التطور المالي العالمي المحتمل. في المقابل، عبّرت وكالة “موديز” عن قلقها الكبير من الارتفاع المستمر لمشاركة المستثمرين الأجانب في سوق السندات المصرية، على اعتبار أن هذا الامر يشكل “نقطة متنامية للضعف الخارجي المحتمل” حتى ولو كانت تدعم التمويل المالي والحساب الجاري.

وقد وصلت الحيازات الأجنبية من أذون الخزانة الحكومية وسندات الخزانة إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق حيث بلغت 34 مليار دولار في سبتمبر (أيلول) 2021 (أكثر من 12 في المئة من الدين المحلي الحكومي و85 في المئة من الاحتياطات الأجنبية للمصرف المركزي المصري)، من أدنى مستوياتها التي تقل عن 10 مليارات دولار في يونيو (حزيران) 2020. علماً أنه بين يناير (كانون الثاني) ويونيو (حزيران)، ضخ المستثمرون الأجانب نحو 3.5 مليارات دولار في أذون الخزانة على خلفية الانتعاش القوي الذي شهدته الأسواق الناشئة.

لكن هذه التدفقات الكبيرة قد تنعكس بسرعة استجابة للصدمات التي تؤثر على ثقة المستثمرين، مما يؤدي إلى الضغط على سيولة النقد الأجنبي وأسعار الفائدة وسعر الصرف.

صحيح أن مصر تتمتع بأعلى سعر فائدة حقيقي (الذي يمثل الفرق بين معدلات التضخم وسعر الفائدة الاسمي) في العالم، مما يجعل سنداتها وأذون خزانتها ضمن قائمة الأدوات المفضلة لدى المستثمرين الدوليين المتعطشين للعائد. لكن أعلى معدلات الفائدة الحقيقية في العالم تأتي أيضاً مع تكلفة مالية مرتفعة مما قد يترك مصر عرضة للتدفقات الخارجية الكبيرة إذا ارتفعت معدلات العائد في الدول المتقدمة، وهو أمر بديهي مع الاجراء المرتقب بزيادة معدل الفائدة الأميركية وخفض سياسات التيسير الكمي وتقليص الاحتياطي الفدرالي لمشترياته من السندات تدريجاً أسرع مما كان متوقعاً. من هنا كانت خطوة مصر الاستباقية بلجوئها في سبتمبر (أيلول) الماضي الى الأسواق العالمية للمرة الثانية خلال العام الحالي محقِّقة نجاحاً كبيرا في جمع 3 مليارت دولار. إذ لاقت سنداتهاا معدل تغطية حوالي 3 مرات مما ساهم في خفض معدلات أسعار الفائدة لتقل عن المحقق خلال الإصدارات السابقة التي تمت خلال العام الماضي.

في الختام، لا بد من مراقبة تطور منحى التضخم في مصر في الأشهر القليلة سيما وأنه يشهد موجة عالية دولياً، لأن من شأن ارتفاعه عن المعدل المرسوم له قد يدفع المصرف المركزي المصري الى تشديد سياسته النقدية والعمل على زيادة معدلات الفائدة التي تم تثبيتها مجدداً في الاجتماع ما قبل الأخير للجنة السياسات النقدية في المصرف للمرة السابعة خلال هذا العام. وهو أمر سيكون له بالطبع تأثيرات غير مباشرة على معدل النمو الاقتصادي.

العدد 123 / كانون الاول 2021