الخليج – لبنان: الرسالة الأخيرة

أسباب محلية وإقليمية ودولية للقطيعة التاريخية بين الرياض وحلفائها مع بيروت؟

محمد قواص

تفاجأ لبنان، كل لبنان، بأصدقاء المنظومة الخليجية وخصومها، بالموقف شبه الجماعي الذي اتخذته دول مجلس التعاون الخليجي حيال لبنان في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. والحال أن أسباب المفاجئة تتعلق بالسلوك الخليجي التقليدي الذي عرفه البلد منذ نشأته، بحيث لم تتسبب كل القلاقل الكبرى التي عرفها لبنان خلال العقود

قطيعة تاريخية بين الخليج ولبنان

الأخيرة، ولا سيما منذ انفجار الحرب الأهلية عام 1975 على الأقل، بهذا الحرد الجماعي الذي أفرجت عنه قرارات السعودية والبحرين والإمارات والكويت بسحب سفرائها من بيروت وشجب الدوحة للإساءات التي تعرضت لها السعودية من لبنان وأسف سلطنة عمان لتدهور العبلاقات الخليجية مع لبنان.

ولئن تعاملت حكومة بيروت، كما كامل الطبقة السياسية بارتباك وصبيانية، بحيث بات الحدث مادة سجال اعتاد الفرقاء اللبنانيون على خوضها، فإن حلفاء الخليج في لبنان كما خصوم السعودية وحلفائها تعاملوا مع القرار الخليجي بسطحية وتسرّع، على أمل أن يكون هذا التوتر مجرد غيمة صيف تجري إزالتها بخطوات تجميلية شكلية، على طريقة تبويس اللحى، وعلى النحو الذي استُخدم في أزمات سياسية وإعلامية وأمنية سابقة، من وعود بترميم ما انكسر أو بالادّعاء السرمدي أن ما يصدر عن حزب الله وحلفائه في لبنان لا يمثل الحكومة اللبنانية ولا موقف الرسمي للدولة اللبنانية. غير أن ما فات اللبنانيين أن الزمن تغير، وأساليب الحكم في دول الخليج تبدلت، كما أن الظروف الجيوستراتيحجية باتت تملي قواعد تحل مكان قواعد عتيقة تقادمت.

مسؤولية بيروت

تملك إيران منذ سقوط نظام صدام حسين نفوذا متقدماً وفاضحا داخل العراق. ومن هذا البلد درج أن تخرج أصوات معادية للسعودية ودول الخليج. غير أن تلك الأصوات التابعة لطهران لطالما كانت جزءا من الفصائل العسكرية الضاربة التابعة للحرس الثوري الإيراني التي بات يتفقدها (بعد مقتل قاسم سليماني) الجنرال إسماعيل قآاني هذه الأيام. ورغم سطوة إيران على الحكم في بغداد لا نذكر أن الأصوات المعادية لدول الخليج كانت تخرج يوما من أعضاء في الحكومة العراقية أو حتى من قبل منبر أو شخصية رسمية في العراق.

والنقاش حول أزمة العلاقة الحالية بين لبنان من جهة والسعودية ومنطقة الخليج من جهة أخرى لا يتعلق فقط بالصراع الأكبر بين إيران ودول المنطقة، بل بوضاعة أداء الحكومات اللبنانية التي لم تستطع، حتى في ظل هيمنة

ما علاقة حرب اليمن بالازمة الخليجية اللبنانية

إيران وحزبها في لبنان، تقديم أداء حرفي متوازن وحتى صوري، على الأقل بالنسخة التي تناقلتها حكومات بغداد، لمقاربة علاقة توازن ومداراة مع دول لطالما ارتبطت تاريخيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا مع لبنان.

والأزمة الراهنة التي ارتقت إلى حدّ القطيعة بين دول الخليج وبيروت لا ترتبط بحدث تصريحات وزير الإعلام اللبناني الحالي، وهي تصريحات أدلى بها قبل أسابيع من تعيينه، بل تتعلق بنمط رسمي عبّر عنه رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون، ثم طوّره صهره (رئيس تياره الرئيس السياسي) جبران باسيل والذي أفصح عنه لدى المنابر العربية والدولية حين شغل منصب وزير الخارجية. ينعطف الأمر أيضا على سلسة مواقف سياسية وإعلامية وأحداث أمنية (أبرزها تهريب المخدرات) لم تتوان عن التعبير عن عداء للسعودية واستخفاف بتحذيراتها وهواجسها، ولم تفصح عن عدم التناقض الجديّ مع الحملات الممنهجة، بمناسبة وبدون مناسبة، التي كانت تُشن من لبنان ضد الرياض ودول الخليج.

العراق – لبنان

في الحالة العراقية تبرّعت الشخصيات الحكومية الأكثر ولاء لإيران في طرق باب الرياض لفتح صفحات الودّ والتعاون بين العراق والسعودية من حكومة إياد علاوي إلى حكومة مصطفى الكاظمي. حتى أن نزوع تلك الشخصيات الموالية لطهران (حالة قاسم الأعرجي مثالا) لادعاء استقلالها عن طهران، كان يحتاج إلى توجّهات، ولو شكلية، في استخدام التعابير واللغة على الأقل، التي تعبّر عن إرادة في تطبيع علاقات العراق بالسعودية ودول الخليج. أما في الحالة اللبنانية فتصرفت حكومات بيروت على نحو مرتبك مرتجل في إدارة علاقة لبنان مع الخليج وكأنها عيب يمارس في الظلام، على النحو الذي يبقي تلك العلاقة التاريخية تفصيلا روتينيا داخل سياق يأخذ توجهات إيران بعين الاعتبار ويحرص بإفراط على عدم التميّز عنها.

وفق سياسة “النأي بالنفس” المشؤومة والمزيفة اتخذت السياسة الخارجية اللبنانية داخل المنظومة العربي وجامعة الدول العربية، كما داخل المنظومة الدولية ومنظمة الأمم المتحدة، المواقف التي تجاري تماما مصالح طهران في

ما الذي تغير في الخليج

القضايا مثار الخلاف والتي تكون إيران جزءا منها. وحتى المواقف التي تؤيد فيها بيروت الدول الخليجية أتت بروتوكولية دبلوماسية لا تغضب طهران أو تحظى بتفهمها ورعايتها.

هناك مشكلة مع إيران نعم. لكن هناك وضاعة حكومية لبنانية في الامتناع عن تقديم وجبة غير مستفزّة لدول الخليج على الرغم من علم كل الدول العربية بمدى سقوط قرار لبنان ضمن دائرة الحكم في إيران. فأن يتم تعيين وزير خارجية يكتشف أن “البدو” تهمة تكال إلى دول الخليج بما يعبر عن حقد ثقافي وتعصّب استعلائي وجهل سياسي خبيث، فذلك أن هناك عداء لتلك المنطقة تستدعي تعيين هذا النوع من المخلوقات لقيادة السياسة الخارجية للبلد. وأن يتم تعيين جورج قرداحي وزيرا للإعلام ناطقا رسميا باسم الحكومة على الرغم من مواقفه السابقة المعادية للرياض لصالح دمشق وطهران، فذلك إثم تمّ ارتكابه مكافأة له، وعن سابق تصور وتصميم، لا بل لا يقصد به إلا استفزاز الرياض وحلفائها.

طهران – الرياض

موقف السعودية ودول الخليج حيال السقوط اللبناني ليس موجهاً ضد طهران، بل موجّه بالشكل والمضمون والتوقيت ضد بيروت ونخبها السياسية والحاكمة. يتجادل الخليجيون مع إيران بأشكال متعددة مختلفة، بما في ذلك السياسي والإعلامي والأمني والعسكري والاقتصادي منذ أن أقام روح الله الخميني جمهوريته الإسلامية في ذلك البلد عام 1979. وما حرب اليمن إلا إحدى الواجهات الحديثة التي تسخدمها إيران ضد اليمنيين أولا (وهذا ما لا يفقه به وزير الإعلام الحذق) وتهدد بها السعودية وكل منطقة الخليج. ولئن يقف العالم مرتبكاً متعثراً عاجزا عن اجتراح أو فرض

عبد الخالق عبد الله: لحظة الخليج

أي حلّ ينهي تلك المأساة، فإن موقف الوزير اللبناني، حتى لو قاله قبل التعيين، يعبر عن نية سيئة لدى حكومة بيروت التي عينته في هذا المنصب للتبرّع في التدخل في شأن عربي لصالح الرواية الإيرانية. ناهيك من أن هذا الوزير وكل الطبقة السياسية في البلد لا يملكان ترف المحاضرة بالدروس وهم الذي يقودون دولة فاشلة بمختلف المعايير.

مشكلة الخليج في بيروت ليست مع طهران. فالعلاقة مع إيران قد تزداد تعقيدا أو تنزع نحو الانفراج وفق تطور المشهدين الدولي والإقليمي، على الأقل بالطابع الذي تمثله فيينا في استضافتها لمفاوضات الاتفاق النووي أو ذلك الذي تمثله بغداد برعايتها للحوار بين السعودية وإيران. والأرجح أن المشكلة تكمن بالدور الذي ما زال ساسة لبنان يلعبونه، وهو أكبر من حجمهم وحجم بلدهم، في الإفتاء بقضايا العالم والصراعات الأممية بحيث بات البلد مصدّرا للمقاتلين لتسوية النزاعات من أفغانستان إلى اليمن مرورا بالعراق واليمن، وهو الذي يستجدي من العالم أجمع، ومن دول الخليج خصوصا، عونا ومددا ينتشل البلد من مصاب تاريخي لا سابق له.

الخليج تغيّر

في كتابة “لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر” الصادر عام 2018، يشرح الدكتور عبد الخالق عبد الله بإسهاب مدعّم بالحجة والبيان، كيف باتت منطقة الخليج قوة قائدة لتطورات المنطقة. ولا نحتاج الكثير لتبيان الدور الذي لعبته دول مجلس التعاون (وخصوصا بعضها) في ساحات عربية شهدت تحوّلات جذرية في العقد الأخير، حتى أن مقاربة تلك التحولات وقفت وراء الانقسام الخليجي الذي أنهته قمة العلا في كانون الثاني (يناير) من هذا العام.

و “اللحظة” وفق الأكاديمي والباحث الإماراتي ليست بالضرورة ترفا، بل هي حاجة ترتبط بنضج منطقة الخليج وترقي طموحاتها، وهي بالأساس حاجة تتعلق بالأمن الاستراتيجي الذاتي والجماعي لدولها. بات الأمر يتطلب سياسة خارجية ذات دينامية حيوية فاعلة تحوّل بلدان المنطقة إلى صُنّاع سياسة إقليمية ودولية لا مستهلكين لسياسات تصنّع في الخارج. ولئن يستعر جدل بشأن حجم هذه “اللحظة” ونجاعة قوتها ونفوذها، غير أن الثابت أن سياسات، لا سيما تلك التي انتهجتها دول مثل السعودية والإمارات وقطر، تغيرت على نحو انقلابي لا تشبه تلك التي اعتمدت في ظل الحرب الباردة وصراع الأنظمة داخل العالم العربي ما بين ملكية وجمهورية وتنافس الايديولوجيات المحافظة والتقدمية المحلية والمستوردة.

صحيح أن عبد الخالق عبد الله تكلم عن “لحظة” بما يعيد لبحثه التموضع داخل سياقات الموضوعية والعقل، فإن بلادةً عربية، شاهدنا مثالا لها في لبنان، ما زالت لم تنتبه إلى هذه “اللحظة” وما زالت لم تعترف لهذا الخليج بالواجهات الصاخبة التي أفرج عنها، ليس فقط في إدارته لمسائل التنمية والاقتصاد والسياسة، بل في نظرة “الإقليم” الخليجي الصغير إلى “الإقليم” العربي الكبير، كما في تمدد حدود الأمن الخليجي إلى أقاصي آسيا والغرب، بحيث تتم مقاربة العالم بصفته جبهات متعددة وجب الصمود فيها وتذليل تحدياتها.

طفح الكيل

في الحالة اللبنانية درَج البلد على التعامل مع دول الخليج بصفتها ثابتا فيما العوامل المحيطة كلها لا تتوقف عن التحوّل. ولئن يتفاجأ لبنان بموقف القطيعة الدبلوماسية التي اتخذتها بعض الدول الخليجية، فذلك أن السعودية وحلفاءها بقيت ثابتة في تعاملاتها مع لبنان على الرغم من سلوك فصائلي معادٍ انتشر في لبنان، خصوصا منذ قيام الظاهرة الإيرانية في المنطقة عام 1979، فيما الإجراءات الأخيرة تعتبر تحولا جذريا لافتا لم يعهده اللبنانيون.

تحمّل الخليجيون أعمال خطف وتهديد مورست ضدهم في لبنان، كما تلقوا بذهول حملات إعلامية تحريضية قاسية شنّها أمين عام حزب الله، وراقبوا تحرّك حزب الله الناشط لزعزعة الاستقرار في الكويت (خلية العبدة مثالا) والبحرين والسعودية والإمارات، ناهيك من دور الحزب الفتّاك في تدريب وتسليح الحوثيين والإشراف على هجماتهم الصاروخية ضد السعودية أولا وترويع كل الخليج تاليا. ومع ذلك أبقت السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي صلات الوصل الرسمي والاقتصادي المعتاد مع لبنان، كما لو أن السلوك اللبناني أمر من واقع لبنان الذي يجب القبول بقدره.

رعت السعودية عام 1989 في مدينة الطائف في غرب المملكة الاتفاق الشهير الذي حمل اسم المدينة والذي انتهت بموجبة الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990). لم يجد اللبنانيون في الهمّة السعودية حدثا لافتا، ذلك أن تدخل الرياض السياسي والمالي لطالما كان داعما للبنان والسلم الداخلي ورافدا لازدهار البلد. بدا الاتفاق حينها خلاصة شراكة بين الرياض ودمشق تتأسس على علاقة متينة بين العاصمتين وعلى علاقة شخصية لاحقاً كانت تربط ولي العهد السعودي عبد الله بن عبد العزيز بالرئيس السوري حافظ الأسد.

نهاية الاستثناء اللبناني

وفي عاديات الرعاية السعودية للبنان ظهر رفيق الحريري بصفته يمثّل توافقا مستمراً سعوديا سوريا لإدارة مصالح البلدين وصون شراكتهما. ويُحكى أنه في مرحلة التوتر الشديد بين النظام السوري بقيادة بشّار الأسد والحريري، أوصى العاهل السعودي الرئيس السوري برعاية وحماية “ولدنا”. وحين اغتيل الحريري في شباط (فبراير) 2005 استشاط غضب الرياض من “خيانة” شريكها. غير أن العاديات السعودية أملت في 9 كانون الأول (ديسمبر) 2009 ضغوطا مورست على سعد الحريري لزيارة دمشق والمبيت في قصر المهاجرين، وقيام العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز باصطحاب الأسد إلى بيروت في 30 تموز (يوليو)2010. وهنا أيضا لم يجد اللبنانيون في السياسة السعودية ما هو مفاجئ صاعق، بل على العكس وجدوا في تلك السياسة دليلا على الاستمرار في هذا الثابت في وقت أطاح المتحوّل بـ “ولدنا”.

السلوك السعودي الخليجي الراهن تجاه لبنان هو السلوك العادي الذي تنتهجه الدول التي تتعرض للضرر من قبل دول أخرى. ولئن تدّعي بعض القيادات السياسية والحكومية صدمتها من الإجراءات التي أتخذت بحق بيروت، فذلك أن منظومة السياسة في لبنان لم تقرأ بعد “اللحظة” التي تمر بها دول الخليج برمتها.

لم تستطع تلك المنظومة البليدة أن تستوعب أسلوب الحكم في السعودية منذ اعتلاء الملك سلمان بن عبد العزيز سدّة العرش وما يعدُ به ولي العهد الأمير محمد من طموحات تتعلق بمستقبل السعودية ودورها ووظيفتها في المنطقة والعالم. لم يكن منطقيا أن يتدفق السياح الخليجيون إلى لبنان وتُضخّ الاستثمارات الخليجية داخل أوردة الاقتصاد اللبناني وتُمنح المنظومة الخليجية لبنان شبكات الأمان السياسي والمالي في وقت تحوّلت فيه بيروت إلى قاعدة تصدّر المؤامرات والمخدرات والصواريخ المهدِّدة لعيش الخليجيين في بلدانهم.

العلاقة غير المفيدة

تتمدد “لحظة” الخليج صوب لبنان. باتت لعلاقات الخليج مع لبنان حسابات الربح والخسارة. لم يقل وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أن هناك أزمة مع لبنان، بل أن “التعامل مع لبنان وحكومته الحالية أمر غير مفيد وغير مجدي”. ويتبرّع الحدث اللبناني للخليجيين بمناسبة لتأكيد تلك المصالحة التي تمت في العلا والتي تتعزز، منذ أوائل هذا العام، يوما بعد يوم بما يكثف “اللحظة” الخليجية. أتى التضامن مع السعودية جماعيا سواء في سحب البعثات الدبلوماسية أو في التصريح بإدانة الاداء اللبناني تجاه الرياض أو بالتعبير عن الأسف من تدهور تلك العلاقات التاريخية بين لبنان والخليج. على هذا استفاق لبنان كل لبنان على “لحظة” اقتحمت يومياتهم ولم تعد همّا إقليميا بعيداً عن رتابة “اللحظات” اللبنانية التي تتدحرج نزولا من الكارثة إلى مشارف العدم.

الانهيار الكبير

يكشف هذا الحدث الدراماتيكي والخليجي في علاقات لبنان مع السعودية ودول الخليج عن حالة العفن التي وصلت إليها المنظومة السياسية اللبنانية ما يهدد الصيغة اللبنانية نفسها التي أنشأها بناة البلد الأولون. المسألة تأتي متّسقة مع المشهد العام للانهيار الكبير والذي كشفه انفجار انتفاضة الناس في 17 تشرين الاول (اكتوبر) 2019، والذي توّج بكارثة انفجار مرفأ بيروت وما يقف وراءها من شبكات فساد وتسيّب إداري بامتياز، ثم تلاشي انخراط الدائرتين العربية والولية لانتشال لبنان من أزمته التاريخية واشتراط ذلك بالقيام باصلاحات جراحية عامة لم تنجح المنظومة السياسية، على الرغم من مآسي البلد، ولو صوريا، على الشروع في تحقيقها.

أزمة لبنان مع دول الخليج تشكّل معضلة حيوية لا يمكن للبنان أن يستمر ويقوم في ظل استمرارها. تقوم دورة اقتصادية كاملة داخل لبنان بالاعتماد الكلي على العلاقات الاقتصادية مع الشبكات الاقتصادية الخليجية. تعتمد نسبة كبرى من منتوجات البلد الزراعية على عمليات التصدير إلى دول الخليج، ناهيك من أن صناعات لبنانية قامت في

نجيب ميقاتي: التسوية المفقودة

لبنان لأن لها سوق في الخليج، بما يعني أن إقفال ذلك السوق يصيب تلك الصناعات بمقتل في لبنان، ما يستدعي إقفالها أو نقلها إلى دول أخرى (يتم الحديث عن نقلها إلى الإمارات أو سلطنة عمان). ويضاف إلى كل ذلك أن دول الخليج تحتضن نصف مليون عامل لبناني يؤمنون تحويلات إلى لبنان تقدر بملياري دولار سنويا.

غير أن الكارثة الاقتصادية تذهب أكثر من ذلك. فالمجتمع الدولي لم يتوقف عن ممارسة الضغوط لتشكيل حكومة لبنانية. ولئن طالب، عبر مبادرة فرنسا ورئيسها إيمانويل ماكرون، بشكيل حكومة تقنية مستقلة عن الطبقة السياسية، إلا أن هذا المجتمع عاد وانصاع للعناد الداخلي وقبل بتشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي خاضعة تماما للمنظومة السياسية وإن كانت وجوهها تدّعي التقنية والاستقلال. والهدف من قيام حكومة، أي حكومة، هو إيجاد شريك شرعي لبناني بإمكانه التفاوض مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية لضخ العون العاجل الذي بإمكانه معالجة الأزمة اللبنانية بالاسعافات الأولية.

والمشكلة هذه الأيام أن قطيعة دول الخليج مع لبنان توجه ضربة موجعةلأي تمارين لإيجاد اتفاق مع صندوق النقد الدولي بسبب غياب الكتلة المالية الهائلة لدول الخليحج عن أي خطط يرسمها صندوق النقد والبنك الدولي. إضافة إلى ذلك فإن الوعود التي قطعتها مؤتمرات دعم لبنان، لا سيما مؤتمر “سيدر” الشهير، كما أن المؤتمرات التي يمكن أن تدعو إليها فرنسا، صاحبة المبادرة، لدعم لبنان من جديد لا يمكن أن تنجح دون الوجود السعودي الخليجي، ناهيك من أن هذا الغياب سييردع دولا مانحة عن الانخراط في ورشة لدعم دولة عربية فيما دول الخليج مقاطعة للبنان ودولته وحكومته.

أمام لبنان كثير من الأسئلة وجب أن يجد لها أجوبة شافية. لم يقتنع اللبنانيون بنظرية الحياد التي ما فتئء يدعو إليها البطريك بشارة الراعي، كما أنهم لا يمتلكون وحدة الموقف والإمكانات للتعامل مع الرياح العاتية التي تهب على المنطقة والتي تجد في لبنان ميدانا خصبا لتبادل الرسائل حتى لو أن الأمر قد يؤدي إلى احتراب أهلي أو إلى حالة إفلاس كبرى تهدد أمن البلد واستقراره.. وحتى وجوده.

في الحالة العراقية تبرّعت الشخصيات الحكومية الأكثر ولاء لإيران في طرق باب الرياض لفتح صفحات الودّ والتعاون بين العراق والسعودية من حكومة إياد علاوي إلى حكومة مصطفى الكاظمي. حتى أن نزوع تلك

لماذا نجحت بغداد وفشلت بيروت في العلاقات مع الرياض

الشخصيات الموالية لطهران (حالة قاسم الأعرجي مثالا) لادعاء استقلالها عن طهران، كان يحتاج إلى توجّهات، ولو شكلية، في استخدام التعابير واللغة على الأقل، التي تعبّر عن إرادة في تطبيع علاقات العراق بالسعودية ودول الخليج. أما في الحالة اللبنانية فتصرفت حكومات بيروت على نحو مرتبك مرتجل في إدارة علاقة لبنان مع الخليج وكأنها عيب يمارس في الظلام، على النحو الذي يبقي تلك العلاقة التاريخية تفصيلا روتينيا داخل سياق يأخذ توجهات إيران بعين الاعتبار ويحرص بإفراط على عدم التميّز عنها.

مشكلة الخليج في بيروت ليست مع طهران. فالعلاقة مع إيران قد تزداد تعقيدا أو تنزع نحو الانفراج وفق تطور المشهدين الدولي والإقليمي، على الأقل بالطابع الذي تمثله فيينا في استضافتها لمفاوضات الاتفاق النووي أو ذلك الذي تمثله بغداد برعايتها للحوار بين السعودية وإيران. والأرجح أن المشكلة تكمن بالدور الذي ما زال ساسة لبنان يلعبونه، وهو أكبر من حجمهم وحجم بلدهم، في الإفتاء بقضايا العالم والصراعات الأممية بحيث بات البلد مصدّرا للمقاتلين لتسوية النزاعات من أفغانستان إلى اليمن مرورا بالعراق واليمن، وهو الذي يستجدي من العالم أجمع، ومن دول الخليج خصوصا، عونا ومددا ينتشل البلد من مصاب تاريخي لا سابق له.

و “اللحظة” وفق الأكاديمي والباحث الإماراتي ليست بالضرورة ترفا، بل هي حاجة ترتبط بنضج منطقة الخليج وترقي طموحاتها، وهي بالأساس حاجة تتعلق بالأمن الاستراتيجي الذاتي والجماعي لدولها. بات الأمر يتطلب سياسة خارجية ذات دينامية حيوية فاعلة تحوّل بلدان المنطقة إلى صُنّاع سياسة إقليمية ودولية لا مستهلكين لسياسات تصنّع في الخارج. ولئن يستعر جدل بشأن حجم هذه “اللحظة” ونجاعة قوتها ونفوذها، غير أن الثابت أن سياسات، لا سيما

الازمة ليست مع لبنان بل في لبنان

تلك التي انتهجتها دول مثل السعودية والإمارات وقطر، تغيرت على نحو انقلابي لا تشبه تلك التي اعتمدت في ظل الحرب الباردة وصراع الأنظمة داخل العالم العربي ما بين ملكية وجمهورية وتنافس الايديولوجيات المحافظة والتقدمية المحلية والمستوردة.

والمشكلة هذه الأيام أن قطيعة دول الخليج مع لبنان توجه ضربة موجعةلأي تمارين لإيجاد اتفاق مع صندوق النقد الدولي بسبب غياب الكتلة المالية الهائلة لدول الخليحج عن أي خطط يرسمها صندوق النقد والبنك الدولي. إضافة إلى ذلك فإن الوعود التي قطعتها مؤتمرات دعم لبنان، لا سيما مؤتمر “سيدر” الشهير، كما أن المؤتمرات التي يمكن أن تدعو إليها فرنسا، صاحبة المبادرة، لدعم لبنان من جديد لا يمكن أن تنجح دون الوجود السعودي الخليجي، ناهيك من أن هذا الغياب سييردع دولا مانحة عن الانخراط في ورشة لدعم دولة عربية فيما دول الخليج مقاطعة للبنان ودولته وحكومته.

العدد 123 / كانون الاول 2021