لبنان تحت مطارق الخلافات حول الحوار وإصلاح النظام

شهر شباط بين التسويات أو الاشتباكات الانتخابية

بيروت – غاصب المختار

مع بدء مسار الانتخابات النيابية بتحديد مواعيدها في ايار (مايو) على ثلاث دفعات: تصويت الموظفين ثم المغتربين فالمقيمين، إشتدت سخونة الاشتباك السياسي بين التيار الوطني الحر من جهة، وبين حركة امل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية من جهة اخرى. بينما وقف حزب الله في وسط لهيب معارك الحلفاء المفترضين (امل والتيار) محاولاً ترميم العلاقة لنسج تحالفات إنتخابية قوية في الدوائر الانتخابية المشتركة.

لكن هذه المرة كان الخطاب السياسي عالي السقف جداً، وذهب بالرئيس ميشال عون ورئيس التيار الحر النائب جبران باسيل الى طرح خيارات تعديل اوإصلاح أو تغيير النظام السياسي القائم حالياً على “الديموقراطية التوافقية السياسية والطائفية”، التي اثبتت عقمها إن لم يكن فشلها في بناء دولة ومؤسسات تدير البلاد بطريقة سليمة ومنتجة، خلافاً لوثيقة الوفاق الوطني في مؤتمر الطائف والدستور الذي انبثق عنها. بينما تحول  طرح عون وباسيل شعار “اللامركزية الادارية والمالية الموسعة” الى شعار للمرحلة المقبلة ومصدرخلافات جديدة كما بدا من ردود الفعل الاولى عليه.

تأثيرات قرار عزوف الحريري

على هذا، سيكون العام الجديد عام الانتخابات النيابية وعام معركة إصلاح النظام بامتياز. لكن موقف رئيس الحكومة السابق سعد الحريري “بتعليق العمل في الحياة لسياسية وعدم ترشحه شخصياً اواي منتسب لتيار “المستقبل” للإنتخابات النيابية، خلط الاوراق مجدداً، لأنه يعيد خلط التحالفات بين القوى السياسية التقليدية،لا سيما وان للتيار امتداداته الحزبية والشعبية في الكثير من الدوائر الانتخابية من بيروت الى الجنوب والشمال والبقاع، وعليه كان يُعوّل سياسيون كثر للفوز بمقاعد نيابية بالتحالف معه في اكثر من دائرة تضم اصوات مناصري”المستقبل”.

وقد ترك قرار الحريري صدمة لدى اغلبية جمهور الطائفة السنية في لبنان، لكن تم استيعابها خلال ايام بتأكيد مرجعيات تيار “المستقبل” ان الحريري خرج من معركة الانتخابات حصراً ومن الحياة السياسية مؤقتاً. وقال عضو كتلته النيابية الوزير الاسبق والنائب الحالي سميرالجسر لـ “الحصاد”: انه لم يُنهِ حياته السياسية بل أخذ استراحة محارب لترتيب اوضاعه لحين تسمح الظروف الداخلية والخارجية بعودته بوجه جديد واداء جديد، وان قيادة الطائفة السنية مازالت معقودة له ولو يكن في الحكم.

ولاحظ احد مسؤولي تيار المستقبل ان الحريري كتب تغريدة مع فيديو لـ “نسريولد من جديد”، ما يعني انه سيعود للمسرح السياسي وان حياته السياسية لم تنتهِ، ولن يغيب تيار المستقبل عن جمهوره. مشيراً ان تيار المستقبل استوعب صدمة خروج الحريري من الحياة السياسية مؤقتاً، وبدأ يؤقلم جمهوره وانصاره على غيابه.

وبرغم ردود الفعل المحلية الاولى على قرارالحريري التي تراوحت بين الاسف والدعوة للعودة عنه او الصمت المطبق، استوقف المراقبين تصريحٌ للناطقة بإسم وزارة الخارجية الفرنسية ردت فيه على سؤال عن اعلان الرئيس سعد الحريري تعليق عمله في الحياة السياسية، والذي قالت فيه: هذا القرار يعود له، ونحترمه ولا يعود لنا التعليق عليه. ويجب ألا يؤثر ذلك على ضرورة إجراء الانتخابات التشريعية اللبنانية في موعدها المقرر في 15 أيار، بشفافية وحيادية. ان الأولوية يجب أن تعطى لتنفيذ القادة اللبنانيين للاصلاحات اللازمة لتحسين الأوضاع المعيشية للبنانيين والخروج من الأزمة. وتبقى فرنسا من جانبها مع جميع شركائها الدوليين والإقليميين مصممة على دعم الشعب اللبناني.

ورأى متابعون للموقف الفرنسي، ان كلام الناطقة الفرنسية يعني امراً واحداً هو “ان إجراء الانتخابات النيابية والاصلاحات البنيوية في كل مرافق لبنان هي اولوية وأهم من إبتعاد اي مسؤول عن المسرح السياسي”.

وقال هؤلاء لـ “الحصاد”: ان الموقف الفرنسي بعدم التعليق يعني ترك الحرية للحريري بإتخاذ القرار الذي يريده، شرط ألّا يؤثر على مسار المرحلة المتوقعة المقبلة، سواء بحضوره او بغيابه، واشاروا الى عبارة “تنفيذ القادة اللبنانيين للإصلاحات اللازمة” ما يعني ان فرنسا ما زالت تعتمد على القادة والزعماء الموجودين في السلطة حالياً لتنفيذ المطلوب منهم.

لمن الاكثرية النيابية؟

سترتسم في شباط (فبراير) ملامح المرحلة المقبلة والتي ستتظهر بشكل عملي بعد الانتخابات، لجهة من ينال الأكثرية النيابية او التساوي بين الفريقين التقليديين، او بروز دور المستقلين والمجتمع المدني. و ستكون الانتخابات مختلفة هذه الدورة نظراً لحدة الاشتباك السياسي الذي عطّل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي فترة طويلة. وبعد قرار الحريري عدم خوض الانتخابات.

وفي تقدير خبراء الانتخابات ومراكز الدراسات والإحصاء، قد تكون لها نتائج مختلفة عما سبقها لجهة شكل المجلس النيابي المقبل وتوزيع القوى فيه، وسطوة القوى الاقليمية التي ستكون حاضرة  داعمة لهذا القريق او ذاك، لا سيما وان المجلس النيابي الجديد هو الذي سينتخب رئيس الجمهورية الجديد نهاية هذا العام، ولهذا يشتد الصراع السياسي المحلي والاقليمي. عداعن اختلاف التحالفات بين حلفاء الامس، نتيجة الخلافات لا سيما بين تيار المستقبل والقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. فيما يحاول رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ان أن ينسج تحالفاً موضعياً مع حزب “القوات” في الدوائر المشتركة والمختلطة كـ بعبدا والشوف – عاليه.لكن الطرفين يحتاجان الى اصوات الناخبين السنّة الذين يمثل تيارالمستقبل اكثرهم.

ثمّة ضغط دولي كبير لإجراء الاستحقاق الانتخابي في وقته، ولو أنّ حماسة بعض الدول المعنية، وتحديداً فرنسا والولايات المتحدة، تتراجع دون إعلان، لأنّها لم تعد تأمل حصول نتائج انقلابية من شأنها أن تغيّر المشهد السياسي بشقّيه التنفيذي والتشريعي، رأساً على عقب. على اعتبار أنّ أفضل التوقّعات تعطي القوى المعارضة والمستقلين، وتحديداً الجديدة منها، بين عشرة وإثنا عشر نائباً منهم 8 مستقليين. وهو ما يعني أنّه يستحيل رسم مشهديّة مختلفة كثيراً عمّا هو قائم. وبالتالي لا مكان للانقلابات الكبرى على المسرح اللبناني. وثمة معلومات عن أنّ الإدارة الفرنسية أنجزت تقريباً آليّتها الرقابية وفريقها المختصّ للتدقيق في حيثيّات الاستحقاق الانتخابي عن قرب.

اتجاهات الناخبين

وحول إتجاهات الناخبين، تفيد مراكز الاحصاء، أن هناك ٢٢٠ الف ناخب خارج لبنان مسجلين على لوائح الشطب، ولو اقترع منهم ٥٠ في المئة للنواب ال ١٢٨ سيتركون تأثيراً في النتائج هذه المرة اكثر من الانتخابات الماضية عام 2018 حيث اقترع فقط نحو خمسين الف مغترب وكانت نسبتهم اقل من 2 في المئة من مجموع عدد ناخبي لبنان، لكن هذه المرة اغلب المغتربين هم من المهاجرين الجدد(قبل 10 او 15سنة ومنهم عدد كبير هاجرخلال السنتين الاخيرتين بعد تردي الاوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية)، ومن جيل الشباب او متوسطي العمر، الناقمين على الطبقة الحاكمة ويؤيدون مرشحي المجتمع المدني والقوى المعارضة للعهد وللتيار الحر ولحزب الله. هذا الوضع قد يدفع الاحزاب التقليدية إلى تمتين تحالفاتها ومعالجة خلافاتها لتشكيل لوائح قوية تواجه المد الشعبي الناقم.

لكن غياب الحريري سيؤثر على خيارات الناخبين السنة، حيث يكثر من يحاول وراثة هذا الجمهور العريض من خصوم الحريري او حلفائه السابقين.

هل تؤجل الانتخابات؟

ومع إعلان الرئيس سعد الحريري خوض الانتخابات بسبب ظروفه المالية وتعقيدات تحالفاته،علّق مرجع سياسي مطلع على تصريحات رئيس مجلس النواب نبيه بري والتي اوحى فيها ان هناك مشكلة جدية بعدم خوض الحريري الانتخابات لانه يمثل الطائفة السنية بشكل كبير، وقال المرجع: “يبدو ان هناك شيئاً مايُطبخ”.

وقال المصدر: ان عدم ترشح الرئيس سعد الحريري وتيار المستقبل قد يتبعه انكفاء زعماء آخرين مثل النائب وليد جنبلاط، ما سيخلق نوعاً من اللاتوازن النيابي والمذهبي والطائفي في المجلس النيابي. علماً ان الرئيس السابق للحكومة للحكومة تمام سلام اعلن عزوفه عن الترشح وترك المجال للجيل الجديد الذي ينشد التغيير.والرئيس الاسبق للحكومة فؤاد السنيورة غير راغب بالترشح، بينما الرئيس الحالي للحكومة نجيب ميقاتي لم يكن قد حسم موقفه بعد بالترشح او العزوف عن الانتخابات شخصياً.

واعتبرت المصادر ان هذا الامر قد يكون الحجة التي تبحث عنها بعض القوى السياسية من اجل تأجيل الانتخابات النيابية بحجج دستورية وميثاقية، ولعل الاسابيع المقبلة ستشهد انكشاف المزيد من النوايا المبيتة.

اللامركزية وإصلاح النظام

وجاء طرح الرئيس عون ومن ثم باسيل لتطبيق “اللامركزية الادارية والمالية الموسعة” والبحث بتغيير تركيبة النظام التوافقي، ليطرح إشكالات عديدة اولها رفض قوى متحكّمة بالسلطة هذا الخيار لما ينطوي عليه من تفسيرات متناقضة من جهة، ومن تراجع تحكّم هذه القوى بمفاصل السلطة، ذلك ان استقلالية الادارات المحلية إدارياً ومالياً وإنمائياً سيخفف جداً من تأثيرات وهيمنة هذه القوى على الادارات والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة والهيئات المحلية لا سيما البلديات. ولذلك جاء  من يفسر طرح الرئيس عون وباسيل على انه نوع من “الفيدرالية” غير المباشرة التي تعني تقسيم لبنان مربعات ومناطق مستقلة طائفية وإدارية وسياسية، وذهب آخرون الى اعتبارها مدخلاً جديداً لهيمنة هذه القوى المتهمة بالفساد على كل مقدرات الادارات في مناطق نفوذها السياسي والطائفي.

لكن مصادر الرئيس عون قالت لـ “الحصاد” أنّ كلامه عن اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة لا يعني أبداً استقلالية إدارية ومالية للمناطق عن السلطة المركزية، ولا يمكن تفسيره على أنّه نوع من الفيدرالية، بل هو إجراء إداري بحت يهدف إلى منح السلطات المحلّية نوعاً من الكفاية المالية لتسيير شؤونها والقيام بالمشاريع الإنمائية والصيانة اللازمة للبنى التحتية في المناطق. وأوضحت أنّ السلطات المحلّية تقوم بجبابة المال ويذهب معظمه للخزينة المركزية، لكن تحتفظ هذه السلطات المحلّية بما تحتاجه من أموال للنهوض بمناطقها على كلّ الصعد. لكن المالية والخارجية والدفاع تبقى ضمن السلطة المركزية.

كما ان كلام النائب باسيل مطلع العام الحالي عن فشل الديموقراطية التوافقية وتحولها الى سيطرة تعطيلية لطائفة اوجهة سياسية للمؤسسات عبر الفيتو على اي امر لا يناسبها، فتح الباب على طرح مناقشة تعديل أو اصلاح النظام والبحث في نظام يحقق مشاركة اكثر لكل القوى والطوائف ولا يحمل اسباب تعطيل عمل المؤسسات.

العدد 125 / شباط 2022