شبح الأتحاد السوفييتي .. يقض مضاجع الغرب

ميلاد نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب أصبح يقرع الابواب

عادت حركة الصراع بين الولايات المتحدة الامريكيه وحلفائها من الدول الاوروبية ، وبين روسيا الاتحادية، والصين، وهما رغم اي خلافات كانت او مازالت بينهما الا انهما يمثلان ايدوليوجيه ،كانت في حينها تمثل رعبا للعالم الراسمالي ،وتزعما حركة تحررعالمية  عالية الوطيس في زمن مضي ومازال يحكى عنها مايشبه الأساطير في فيتنام وكمبوديا وفنزويلا وكوبا وغيرها من الدول حتى في المنطقة العربيه ومعارك الاحلاف والعدوان الثلاثي على مصر وحرب حزيران واجتياح العراق وضرب الناتو لليبيا ومعارك سوريا الطاحنه . روسيا الاتحادية  وريثة الامبراطورية الغاربه التي تصدعت وانهارت (الاتحاد السوفييتي) وانقض المتاّمرون والمتربصون بها على تركتها التي تفككت ،وتساقطت دولة بعد أخرى لكي تنضم الى احلاف وتنظيمات قامت في الأساس لمواجهة اخطارها. عادت حركة

الرئيس الصيني شى جين بينغ
زيارته للسعودية تحمل تطورا هاما

الصراع من جديد في اطار حرب باردة أخرى، يمكن ان تتحول فقط الى حرب ساخنه حين تخطئ حسابات التوازن الدقيقه أوالرقيقه ،لكي يتحول العالم بأسره الى جحيم يلتهم من الضحايا ما ليس له حد او نهاية متصوره.روسيا ليست الاتحاد السوفييتي ،وكذلك الصين الحالية ليست الصين في عهد ماوتسي تونج وشوين لاي،فقد طرأت على سياساتها بعض التعديلات تحمل بعض الأنفتاح ، ولكنه انفتاح محسوب ،وليس ( الأنفتاح السداح مداح ) الذي تبناه الرئيس الراحل انور السادات في مصر .ومع ذلك فلم تسقط عنهما المخاطر ولا حساباتها  ،لسبب لا يخفى على احد ،وهو حركة النمو المتزايده ،والمطردة، سواء في قوتها الاقتصادية ،أو في مستوياتها العسكرية  ،التي تصعد بهما نحو تهديد مكانة  القطب الأوحد ،وتفرده ونفوذه الطاغي.الى عالم جديد متعدد الاقطاب،بحكم موازين القوى ومراكز النفوذ. عادت حركة الصراع في ابعاد جديده تظهر ملامحها بعمق في ادارة الرئيس ( بايدن) ،وفي الحركة النشطه لأعادة الحياة ( لحلف الناتو) الذي كان الرئيس الفرنسي ( ماكرون) يقول عنه واصفا حاله أنه ( مات بالسكة الدماغيه)

حرب اقليمية بالمساحه .. عالمية بالأثر

24 فبراير الماضي اجتاحت القوات الروسية الاراضي الاوكرانيه تحت مسمى ( العملية العسكريه الخاصة )، ودارت رحى الحرب ،باعتبارها حرب وقائيه من جانب روسيا ،وحرب بالوكالة من جانب الولايات المتحدة الامريكيه و(حلف الناتو) والداعمين للتوجهات الامريكيه بصفة عامه.انها( عالمية) من حيث أطرافها وساحاتها وتأثيراتها إلى مُختلف أرجاء العالم،وقد عاد  الرئيس الفرنسي لكي يصف  (حلف الناتو) من جديد قائلا لقد عادت اليه الحياة مرة اخرى ،وتم سن العقوبات اللازمة وفوق اللازمة على روسيا،ووجه التحذير تلو التحذير الى الصين بأن لا تتورط في مساندة روسيا في مواجهة العقوبات ،والا طالتها بدون اي تردد .لم يقف الامرعند حد التحذير،وانما انطلق على مستويات عدة من الترويع من خلال ماكينة الاعلام الاخبارية والدعائية الى المشاركه الفعلية بالحرب من خلال تهريب السلاح والمعدات اللازمة لأوكرانيا تعينها على الصمود والمواجهة ، ولكي تسهل الامر تنقل التحركات العسكريه للقوات الروسية و كيفية تموضعها ،ومواقعها الاستراتيجية و مدى كثافتها  الحربيه باستخدام الأقمار الصناعية، انتقالا الى التصريحات المدوية باعتبار أن (بوتين) جزار وقاتل ومجرم حرب،ناهيك انه  لم يعد صالحا للأستمرار في الحكم كرئيس للدولة  وهي  اوصاف في مجملها تعد خروجا على الأعراف الدبلوماسية في التخاطب ،و لا ترد الا على لسان القيادات التي لا تحسن التعامل مع الرؤساء باستخدام تلك المصطلحات التي لا تليق برئيس دولة عظمى،وكان يشغل سابقا نائبا للرئيس.كما ان الولايات المتحدة تعد نفسها دولة زعيمة للعالم الحر وداعية شديدة المراس في الدفاع عن الديموقراطية، أو هكذا تدعي ! . لكنها الحرب ،واستخدام كل الوسائل اصبح متاحا ومشروعا ،فيما عدا الانزلاق الى المحظور، وهو الصدام المباشر بين من يملكون الضغط على مفاتيح السلاح النووي .

الحصيلة النهائية بعد حوالي شهرين من القتال

اكتشفت اوكرانيا ،انه مهما كان حجم الضجيج الاعلامي الذي قام به الغرب ضد العدوان الروسي على اراضيها، فان الغرب والولايات المتحدة الامريكيه تحديدا بصفتها القائد الأهم للمعسكر الغربي  لا يستطيعون نجدتها وفق مطالبها للأسباب التالية :

اولا – طالبت بمظلة جويه يقدمها حلف ( الناتو) تحمي سماءها من الطيران الروسي ،ولم يقم الحلف بذلك ،وقالت الولايات المتحدة صراحة ان ذلك يشكل صداما مباشرا مع روسيا مما يهدد بقيام حرب نووية سيدفع العالم كله ثمنها وفي المقدمة منه الولايات المتحدة نفسها مهما كان حجم قوتها .

ثانيا – طالبت بتعزيز سلاح الطيران لديها بعد ان دمرت روسيا معظم قواتها الجوية ،وكان هتاك اقتراح بأن تقوم بولندا بتقديم رصيد لديها من الطائرات الروسية ،وكان سلاحها الجوى قبل استقلالها

من الاتحاد السوفييتي،والطيارون الأوكران سبق تدريبهم عليه باعتباره سلاح روسي لهم خبراتهم في استخدامه، ولكن بولندا لا تستطيع نقله الى اوكرانيا ،والا اعتبرت شريكا في الحرب ،وذلك يعرضها للأنتقام الروسي ،واقترحت نقله الى قواعد حلف ( الناتو) حيث يمكن بوسائلهم نقله الى اوكرانيا ايضا اعلنت الولايات المتحدة انها لا يمكن ان تقوم بذلك ،حيث يمكن كذلك  الصدام المباشرمع الروس .

ثالثا – طالبت اوكرانيا الدول الغربيه بمقاطعة اهم السلع الروسية التي تقوم بتصديرها وهي النفط و الغاز مما يؤثر بشكل قاطع على اقتصادها ولكنها وجدت تقاعسا في تلبية ذلك الطلب،الى حد ان صرح المستشار الالماني انه لا يمكن الاستغناء عن النفط والغاز الروسي بين يوم وليلة ، وقال (اننا نشتري المانيا حتى وان بعنا اوكرانيا) وان كنا سنواصل الضغط السياسي بتقليص التمثيل الدبلوماسي

رابعا – طلبت أوكرانيا ان تتسلم منظومة الصواريخ الروسية اس- 400 التي قدمتها روسيا الى تركيا

وفد الجامعة العربيه في موسكو لبحث الازمة في اوكرانيا

من قبل واستدعت غضب امريكا في ذلك الحين ،ولكن تركيا استمرت في صفقتها حتى تمت ، والآن تقترح اوكرانيا – بايعاز من امريكا – ان تأخذها لمساعدتها في مقاومة الطيران الروسي الذي يتسيد الأجواء الأوكرانية،وكان رد وزير الخارجية التركي مولود اوغلو(ان تسليم هذه الصواريخ غير وارد ،واستطرد موضحا ان بلاده تلعب دور الوسيط في هذه الحرب ،ولذلك فهم محايدون في هذه المرحلة ،حتى يتمكنوا من حل تلك الازمة.

خامسا – قام الرئيس الاوكراني فولود زيلينسكي بتوجيه خطابات والقيام باتصالات تليفونيه،بالكثير  من رؤساء وملوك دول عديدة ،والقاء خطابات عبر شبكات التلفزيون في العديد من برلمانات الدول الاوروبيه، وحتى في احدى جلسات مجلس الأمن بعد ان تولت بريطانيا رئاسة المجلس  ،شارحا وموضحا موقف بلاده والمقاومة التي تقوم بها في مواجهة دولة عظمى اجتاحت ارض بلاده على حد تعبيره ،طالبا من هذه البرلمانات التي تمثل الشعوب مساندة بلاده بالقيام بفرض حظر جوي مماثل لما قامت به في دول اخرى، وارسال المزيد من الدعم سواء بالتطوع للأنضمام لحركة المقاومة أو وسائل الدعم الاخرى وهي متعددة، وقد قوبلت خطاباته بكل التقدير والاحترام بالتصفيق الحار له وقوفا تقديرا لدوره باعتباره رمز للمقاومه، ولكن في النهاية كانت تصوراته واّماله تتخطى المحاذير السياسية، التي يحرص الغرب على عدم تخطيها وما يمكن ن يترتب عليها من اّثار مدمرة على الدول صاحبة الشأن. هكذا وجد زيلينسكي نفسه ،لا يوجد من يخلصه على ارض المعركه .

واكتشف الروس في المقابل :

اولا – قامت روسيا بمهاجمة اوكرانيا تحت قاعدة اساسية ،وهي ان لا تكون ضربتها موجعه للشعب الاوكراني، وانما تكون ضرباتها قاصرة على تدمير البنية التحتية العسكرية للجيش الاوكراني ،وقال بوتين ( نحن نريد ان نكسب الحرب، ولا نريد ان نخسر الشعب الأوكراني ) وقال ايضا ( ان اوكرانيا ليست دولة مجاورة فحسب ولكنها جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وعالمنا الروحي) ،ولذلك تجنبت روسيا تماما حرب المدن،فكلفتها كبيرة في ضحاياها ونحن لا نريد ان يتضرر المواطنين،وكانت تجنح الى حصار المدن،وافساح طرق اّمنه للمواطنين للخروج بعيدا عن القتال

ولي العهد السعودي
رفض الاتصياع للطلب الامريكي

المباشر.هذه القاعدة كان من شأنها البطء في الحركة وبالتالي في الاقتحام، فالاستراتيجية ليست دك المدن،وانما هو امان روسيا .

ثانيا – ان حجم المقاومة الاوكرانيه بلغ من حيث التسليح والتدريب مستوى عاليا وقد صدر عن متحدث باسم الرئاسة الامريكيه انه قد تم تسليح الجيش الاوكراني قبل الحرب بما قيمته مليار دولار ، وسوف يعاد تسليحه بعد الحرب بما قيمته ايضا مليار دولار أخرى ،كان التنبه الأمريكي مبكرا  ا لما يمكن لروسيا ان تقوم به ولذلك تم هذا الاعداد الذي اشار اليه بوتين اكثر من مرة  ،بداية من  ( الثورة البرتقاليه) التي نظمتها (القوى القومية المتطرفه) التي يلقبها( بوتين) باسم ( النازيون) وبدعم امريكي حتى تم الأطاحه بالرئيس الأوكراني يانوكوفيتش(كان متفاهما مع روسيا)  ونتذكر ان الرئيس بوتين قال مخاطبا منتدى اقتصاديا في مدينة سانت بطرسبرج تفسيرا لتلك الاطاحه ان (اساس الازمة الاوكرانية هو قرار الرئيس يانوكوفيتش تأجيل توقيع اتفاقية للتعاون مع الاتحاد الاوروبي. اعقب ذلك انقلاب دعمه الامريكيون ونتيجة لذلك تشهد البلاد حالة من الفوضى التي نراها و الانفلات الذي نجده والذي يبلغ حد الحرب الأهلية الحقيقيه.

ثالثا- حجم العقوبات الاقتصادية وتداعياتها بصورة لم يشهدها التاريخ. قاومت روسيا من جانبها هذه العقوبات،وقد كانت تدرك مدى الهوس الذي سيلحق بالكتلة الغربيه حين يقاوم (بوتين) عملية الحصار التى حاول الغرب فرضها على روسيا  من خلال ضم الكثير من اعضاء حلف (وارسو) الى (الناتو) ثم محاولة الاستيلاء على الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفييتي ذاته ، لذلك كان اقدام بوتين  على غزو ( أوكرانيا ) على الأقل لتحييدها وليس لأعادة الاتحاد السوفييتي .. قام بوتين بالرد،ووذلك  من خلال النفط والغاز الروسي  واتخاذ اجراءات كان من ثمارها ان الروبل بدأ يشق طريقه للعودة إلى ما كان عليه قبل الحرب بعدما فقد نصف قيمته في الأيام الأولى للغزو.كما ان العديد من قيادات أوروبا مثل ألمانيا وإيطاليا على وجه الخصوص بدأت بإعادة حساباتها،وتحديدا على صعيد تقنين الاستخدام  فرأينا مثلا  دولة عملاقة مثل المانيا، تبدأ بإعداد مواطنيها لمرحلة تقنين الاستخدام بشكل واضح تماما. بل إن خططا، أمريكية أوروبية، بدأت تعلن هذا التقنين،ومع ذلك  لن يكون كافيا لإنقاذ الوضع الاقتصادي في أوروبا،ثم يأتي ذلك الأجراء وهو إعلان بايدن عن توفير 180 مليون برميل من نفطه الاستراتيجي بواقع مليون برميل يوميا لمدة ستة شهور.

رابعا – الحرب الاعلامية الشرسه التي لا تستهدف نشر الخبر فحسب ،ولكن سلب العقل بالتشويه والتوصيف وفبركة القصص والحكايات عن المجازر وسفك الدماء والتعذيب ومطاردة المدنيين،ولعل الحمي التي تتأجج وقت كتابة تلك السطور حول منطقة (بوتشا) ،وان الروس قاموا بارتكاب جرائم حرب تستدعي المحاكمة امام الجنائيه الدوليه ،التي لم توقع عليها امريكا في الأصل ، من جهته، نفى الجيش الروسي قتل مدنيّين في بوتشا، متّهمًا أوكرانيا بفبركة


رىيس الوزراء الباكستان  عمران خان
احتفظ لباكستان بحرية القرار بالنسبة للحرب الروسية الاوكرانية

الصور. وقالت وزارة الدفاع الروسيّة في بيان “في وقتٍ كانت هذه المدينة تحت سيطرة القوّات المسلّحة الروسيّة، لم يتعرّض أيّ مواطن محلّي للعنف”. وعلى العكس أكّدت أنّ الجيش الروسي وزّع 452 طنًا من المساعدات الإنسانيّة على المدنيّين في هذه المنطقة،

في النهاية .. مازال الباب مفتوحا للمفاجاّت

في اجتهاد قدمه  عالم السياسة الامريكي الشهير، ( جون ميرشايمر) وهوواحد من اهم رواد المدرسة الواقعية في تحليل الظواهر السياسية التي نصادفها في هذا الزمن، قال في تقديمه لتحليل الهجوم الروسي على اوكرانيا ذكر فيه ( ان توسع الناتو المستمر منذ التسعينات حتى الآن في الدول التي كانت في حلف وارسو ثم تطرقه الى الدول التي كانت  تشكل الاتحاد السوفييتي قد حشر روسيا في زاوية،هدد فيها مصالحها الأمنية،على نحو جعل تحركها نحو تغييرهذا الواقع مسألة وقت) وقد نال هذا التفسير انتشارا بلغ مليوني مشاهد على ( يوتيوب) باعتبار ان هذا الطرح حمل مبررا معقولا للغزو الروسي  لأوكرانيا ،وهو امر يتجاهله الغرب تماما ،ومن ثم قامت الحرب ،وترتبت عليها الكثير من الأزمات التي طالت العديد من دول العالم ، فهل اّن الأوان لكي تتراجع حدتها؟ .بالتأكيد لن يحاول الغرب وضع نهاية سريعه لهذه الحرب الا مرغما ،وباليقين سيحاول ان يجعل منها مستنقعا تغرق فيه روسيا ،وسيكون من حسن الطالع بالنسبة له ،ان تتورط الصين ايضا في تحمل تبعاته ، ليس فقط من اجل ان تحتفظ الولايات المتحدة بالمكانة الأولى الدولية ،واستمرار تسلطها على العالم ،ولكن ايضا من اجل ان يتوارى هذا الخطر الذي ينذر بميلاده من جديد. ان الصعود الصيني تتسارع خطواته ،وروسيا الآن غير الاتحاد السوفييتي الذي كان سقوطه مدويا ،فهي تتعافي وتفرض وجودا لافت للنظر ولا تخطئه العين ،فقد اصبح لها حلفاء يرفضون الاذعان للضغط الامريكي في الهند وفي باكستان وفي فنزويلا ، واللافت للأنتباه ان تمردا قد حدث في منطقة الخليج ،برفض السعودية والامارات التوسع في ضخ النفط استجابة للطلب الامريكي،واصبح الخليج في انتظار زيارة الرئيس الصيني في خطوة عميقة الدلالة لتوجهات المستقبل ، وشهدت روسيا زيارة مجموعة من وزراء الخارجيه العرب بدعم من الجامعة العربيه، في محاولة لدراسة الاوضاع والاسهام في عملية رأب الصدع كما رفضت باكستان الانصياع للطلبات الامريكيه .ان روسيا تنسحب لكي تتمترس في دونباس والقرم ،وقد توقع معاهدة بحياد اوكرانيا ،وقد تعود اوكرانيا للأنسحاب منها بدعوى ان البرلمان لم يرض عنها ،وقد تماطل امريكا في رفع العقوبات عن روسيا،وقد ،وقد ،وقد ،ولكن المؤكد ان اوكرانيا لن تعود كما كانت ، وان ميلاد نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب اصبح على الابواب.

                                                                                         امين الغفاري

العدد 128 / ايار2022