البحث عن “ملك الكوميديا” بعد عرض “توب غان ” في مهرجان كان السينمائي!

كان – من جاد الحاج

منذ أوائل ثمانينات القرن العشرين بدأت تتجلى ملامح سيطرة هوليوود على واقع السينما العالمية. وكانت سنة 1983 محطة مفصلية في هذا السياق حيث اقتحمت الشركات السينمائية الكبرى شاشة مهرجان كان بقوة لا نخطئ إن اعتبرناها جزءاً واقعياً من السيطرة الاميركية الاوسع على أوروبا بشكل خاص ومنها العالم عموماً. في تلك السنة افتتحت المدينة الفرنسية الواقعة على شاطئ المتوسط مهرجانها بفيلم اميركي اخرجه مارتن سكورسيزي وجاء الى كان ليفتتح به مهرجانها والقصر الجديد الذي ورث ذلك المهرجان. يومئذ اعتبرنا مارتن سكورسيزي “ثورياً” لأنه أصر على تنفيذ شريطه “ملك الكوميديا” على رغم رفض هوليوود للسيناريو وايضاً لتمويل الشريط بحجة كونه لا يحتوي، بما فيه الكفاية، توجهاتها التجارية. وقد سلك سكورسيزي في خطوته الجريئة سلوك المخرجين الاوروبيين الذين رفضوا سيطرة هوليوود بكل ما تحتويه من “مبادئ” تجارية وركزوا اعمالهم على الابداع الخالص والاسلوب المغاير لكل ما تعتبره هوليوود ضرورياً في اجتذاب الجمهور اولاً وفي الحصول على مردود مادي مناسب.

لقد جاء فيلم “ملك الكوميديا” صفعة مدوية ضد كل ما تعتبره هوليوود ضرورياً لنجاح الشريط السينمائي على جبهتي الترويج والانتساب الموضوعي الى معطياتها الثابتة. والواقع ان “ملك الكوميديا” استمر في التأثير على الشاشة الفضية والمسرح الكوميدي منذ انطلاقه في افتتاح مهرجان كان 1983 حتى مطلع القرن الثاني والعشرين. وليس سراً ان شركات هوليوود الكبرى تأثرت سلباً بذلك النجاح الذي شمل الاعمال الفردية الكوميدية ذات الحضور الدائم في سياق الواقع الترفيهي في الولايات المتحدة الاميركية. فبعد نجاح الفيلم وتغطية ذلك النجاح على صفحات الصحافة الاميركية انفتحت ابواب التقليد والتماهي مع موضوعه امام الكثير من الفنانين المنفردين والمسرحيين الجديين ايضاً. وكان لا بد من ذكر “ملك الكوميديا” كلما ارتبط عمل ناجح على اي مسرح او في اي مكان من الولايات المتحدة وكان ذلك العمل مستوحاً من حكاية الشريط بشكل أو بآخر.

إلا أن المشروع التجاري الكبير الذي شمل معظم شركات الانتاج الاميركية لم ينهزم كلياً امام المحتوى الفني الخالص الموجود في “ملك الكوميديا”. بالعكس فبعد ثلاث سنوات من نجاح شريط سكورسيزي اقتحمت هوليوود شاشة مهرجان كان بفيلم “توب غان” من بطولة توم كروز الذي نقل “البطل” الاميركي من رعاية البقر الى قبطنة احدث النفاثات العسكرية . كان ذلك سنة 1986 حين جاء “توب غان” ليؤكد الفلسفة الهوليودية التي تدعو الى “تسلية” الجمهور بعد غسل دماغه وتزويده بـ “البوب كورن” والبيبسي كولا وربما ايضاً بالمبرًدات الطافحة بالسكّر . . . كي يتحول من “مشاهد” حرً الى زبون يخدم المنتج الهوليودي بكل ما لديه من دولارات، إضافة الى الضحك المتوقع كلما تدحرجت “طرفة” مكرورة من ابطال الشاشة الى احضان الجمهور!

 أخيراً ما هي حكاية “ملك الكوميديا”؟

    صوّر سكورسيزي ’ملك الكوميديا‘ في لقطات ’مؤطرة‘ وحرص  يحاكي الفن الفوتوغرافي. لامس النظرة  الاوروبية  الى السينما، واستلهم  الملهاة البوليسية  الاميركية في مزيج فريد وبارع. منذ اللقطة الأولى  تنقلنا العدسة إلى العرض المتلفز لـ جيري لانغفورد (جيري لويس) او  ملك الكوميديا الذي  يظهر  على المسرح  في ثقة فيّاضة ودلعٍ سافر، يستخفّ  بالجمهور ويدعوه إلى تعزيز الترحيب به ،  يوبخ مقدم البرنامج والموسيقيين فيبتسمون ويصفقون والتصفيق يستنسل التصفيق.

دقيقتان  وتعود  العدسة إلى  المعجبين والمعجبات  أمام  الباب الخلفي للستوديو. نماذج بشرية متنوعة يجمع بينها الهوس بمن ثقب غلاف العيش في المجهول الشاسع، وحقّق الحلم الأميركي الأعظم، حلم الشهرة والثراء. تفيض من ايديهم أوراق ودفاتر   يحملها بالعشرات  حارس المبنى  الى الداخل كي يوقعها جيري . .  وأخيراً حين يظهر الملك يتهافتون إلى لمسه ، التهامه، مغازلته، مناومته، نتف ذُخر من ملابسه. يردّهم قدر الإمكان رجال الشرطة والحرّاس الشخصيون،  وتعرّفنا اللقطات المقربة بروﭘـرت پاﭘـكين (روبرت دي نيرو) مهندماً، مهفهفاً، مزيّت الشعر، كأنه دمية أنسَنها حاسوب، يردّ الجموع عن  جيري وفي الوقت نفسه يحاول إجراء حديث معه.

 ثم تظهر بين الجمع  مارشا (ساندرا برنارد). فجّة، نحيلة، مهووسة بجيري إلى حدّ  الجنون. لن نعرف كيف تسللت إلى ليموزينه وانقضّت عليه فانتفض خارجاً لائذاً بحرّاسه.  للتو تنغلق أبواب الليمو ونوافذه على مارشا  فتصفع الزجاج وتولول: جيري . . جيري! تتجمّد اللقطة على وجهها المذعور وراحتيها الملتصقتين بالزجاج  وتتوالى على الشاشة أسماء المشاركين في الفيلم على أنغام ’سأحبك كما لم يحبك أحد ‘.

 فور انتهاء المقدمة تعود العدسة إلى التدافع خارج الستوديو. بالقوة يسحب حارسان مارشا المهسترة من السيارة ويبعدانها عن الجمهور فينزلق روﭘـرت  قرب جيري  . ينظر جيري بدهشة وغيظ إلى الدخيل المتأنق  المندفع في   ثرثرة عن موهبته الفذّة. يأمره بالخروج من السيارة فوراً. لكن روﭘـرت يريه يده الجريحة جرّاء رده المتهافتين : ’أنظرْ يدي، جرحت يدي دفاعاً عنك‘  وما زال الملك مذهولاً، لكنه يضبط انفعاله ويعطي الدخيل منديله ليمسح الجرح ويطلب منه الاحتفاظ بالمنديل والمغادرة فوراً. وروﭘـرت يلحّ ويلجّ ويكرّر حاجته إلى موعد كي يلقي على جيري مونولوغه ’الرائع‘، بل يقترح عليه أن يُسمعه المونولوغ الآن وهنا . يتسلّح جيري بالصبر ناجحاً إلى حد ما باحتمال المأزق الى ان تصل الليمو الى مدخل شقته  حيث يتملص من روﭘـرت بـ   : ’راجع سكرتيرتي!‘ لكن روﭘـرت لا يرتدّ ولا يتردّد، بل يتبع جيري حتى مدخل البناية مؤكداً كلّ مفصل من خطابه بالتكرار القاتل.

  خلافاً لما قد نتوقع   لن يجد الإحباط طريقه إلى روﭘـرت. بل سينتظر ساعات في مكتب جيري بعناد بارد واقتناع وطيد وإصرار فولاذي. لديه من الثقة بأنه الملك المنتظر للكوميديا ما يكفيه لردّ التجاهل والرفض والتسويف، مستمراً كالطلقة نحو هدفه. تارة  تعالجه  سكرتيرة   بحنكة وصرامة، وطوراً يطرده حرس الشركة بالقوة إلى الشارع وهو، بلا رفّة جفن، يكرّر المحاولات ويخرج من هزائمه منتصراً ولو أهين أو تعنّف.

   يسكن روﭘـرت پاﭘـكين مع أمه التي لا نراها، بل  نسمعها تصيح منزعجة من ضوضاء  ابنها الحالم عالياً في فردوس طموحه، يسجل مونولوغاته وحواراته ويعيش لقاءات موهومة مع ملك الكوميديا.  يتخيّل أنهما يتناولان الغداء في مطعم راقٍ، متساويان في الأناقة واللياقة.  ويتخيّل ان  الملك يرجوه أن ينوب عنه في الحلقة التلفزيونية المقبلة، لكنه يتعالى ويسوّف: ’مستحيل! مستحيل!‘ يردّد ممانعة مصطنعة كأنه أصبح فوق ملهمه ومثاله الأعلى.  وفي النهاية يرق ويتنازل لأنهما الآن  شريكان متساويان على عرش الكوميديا!

  يستضيف روپـرت أيضاً ليزا مينيللي وجيري  لانغفورد ضمن برنامجه التلفزيونيّ المحلوم. يجلس بينهما ، متأنّقاً حتى آخر دبوس، مازحاً مع النجمين الكبيرين المصنوعين من ورق مقوى، وفي لحظة مدروسة ينهض مليئاً بالعاطفة ليطبع قبلة على جبين جيري. وتصيح أمه من مكان ما في البيت طالبة منه أن يخفّض الأصوات  . لا يجيبها. فتستمرّ في الصياح إلى أن يُخرسها صارخاً: ’مشغول! مام!‘

 على رغم خيباته المتلاحقة يجد روﭘـرت سانحة لمغازلة ريتا (ديانا أشبوت) ساقية مشرب الحارة. يدعوها إلى العشاء ويمطرها بأحلامه وابلاً إثر وابل، ويعرض عليها دفتر تواقيع المشاهير الذين قابلهم ــ مجازياً بالطبع ــ ويخبرها كم أن جيري لانغفورد معجب به، ويدعوها إلى حفلة يقيمها الملك لأصدقائه المختارين في عطلة الأسبوع. إعصاره الشفهيّ وعمق اقتناعه بما يتخيّل يصيبان مقتلاً في عقل ريتا، فترتدي  أجمل ما لديها، وتأخذ حقيبة ملابس إضافية لتمضية الويك إند مع الملك في  دارته المذهلة خارج نيويورك. هناك يستقبلهما ’باتلر‘ صينيّ عجوز لم يكن يتوقع زائرين، فربّ البيت الغائب يلعب الـ غولف،  ولم يذكر شيئاً عن أيّ حفلة. لكن روﭘـرت پاﭘـكين لا يجد حرجاً في احتلال المكان، وتشغيل الموسيقى، ودعوة ريتا إلى الرقص، مستمرّاً في فبركة الأعذار عن غياب جيري ومدعوّيه المفترضين.

 يتجمّع الخدم والطاهي في حال من الدهشة والعجب.  ثم يتصل الـ باتلر بجيري قائلاً: ’لدينا زائران سيدي، يقولان إنك دعوتهما لتمضية عطلة الأسبوع، أرجوك أن تأتي، إنهما يحتلان المنزل‘.  مذعوراً، في ملابس الغولف والمضرب في يده، يدخل جيري ويتحوّل ذعره إلى سخط لرؤية  المتطفّل الثرثار، ومعه سيدة جميلة ترتدي فستاناً مهفهفاً برتقاليّ اللون،  لكنها مصابة بخيبة مؤثرة.  لكن روﭘـرت لا ينزعج كثيراً  من غضب جيري بل يستمر في دونكيشوتياته المحابية وكأن جيري هو المخطئ الآمر بطردهما فوراً وإلا اتصل بالشرطة.

  نسينا مارشا. 

معقولة دوافع موهوب يطارد أحلامه ولو إلى حدود العبث  كحال روﭘـرت. أما الهوس بشخص مشهور طلباً للحب والجنس، كحال مارشا، فمسألة أكثر تعقيداً. مارشا متدلهة بملك الكوميديا . تريده، تشتهيه، تحبّه، تطارده ، وتلجّ على روﭘـرت أن يوصلها إليه لاعتقادها أن روﭘـرت متواصل معه.  في النهاية لديهما الطريدة نفسها ولو اختلفت أهدافهما.  طبعاً، روﭘـرت يكذب، يأخذ إكراميات مالية من مارشا ويبيعها أوهاماً لا أساس لها من الصحة. وحين تكتشف نفاقه  يتشاجران ، لكن من أين لها بوسيط سواه؟ لذا لا مفرّ أمامها من الاستمرار في زمالته ولو انها قررت رفع السقف وباتت مستعدة للتعاون معه  والإصغاء الى ميكياﭬـيللي: الغاية تبرر الوسيلة!

 جيري يتمشّى يومياً من شقته النظيفة الخالية من كل أثر للحياة الى مكتبه في قلب التفاحة الكبيرة . يحيّيه العابرون. يردّ التحية بلمسات  طريفة، يساير من لا مفرّ من مسايرته، يتلقّى هتافات من عمال البناء في أعاليهم   الشاهقة، سعيداً لأنه الملك و شعبه يحبه.

في الوقت نفسه نرى  روﭘـرت ومارشا يرتديان أزياء  بوني آند كلايد. نظارتاهما مبالغة حجماً وسواداً، يقتفيان مسيرة جيري خطوة خطوة إلى أن يتمكنا من الانقضاض عليه وتهديده بمسدس وخطفه في سيارة روﭘـرت إلى دارة مارشا الناطقة بثراء كلاسيكي وإضاءة كامدة. يحاول جيري التملّص من ورطته ،  يعتذر عن تجاهله روﭘـرت ، ويعدهما وعد شرف أنه لن يدعي عليهما وسيستمع إلى المونولوغ العتيد، ويكرر اعتذاره عن التسويف والتأجيل والمعاناة التي لحقت بروﭘـرت ، ويقسم  بشرفه  أنه سيفي بوعوده . . روﭘـرت يصدقّه ويكاد ان يرقّ  لولا مارشا التي تزعق وتعترض وترفض رفضاً قاطعاً عرض جيري، فهي تريده لها وحدها الليلة، الآن وهنا. مطلبها الوحيد جيري لانغفورد بشحمه ولحمه. ولن تقبل بأقل من ذلك ابداً.

 يعتذر روﭘـرت من جيري ويربطه بشريط لاصق حول مقعد وثير، ويهاتف له مدير شركة التلفزيون، ويلقنه من أوراق مكتوبة بخط عريض ما ينبغي قوله للمدير. إمعاناً في التهكّم يمسك روﭘـرت بالأوراق  مقلوبة بين الفينة والأخرى، لكن الرسالة وصلت: ’ثمة مسدس مصوّب إلى رأسي. سوف يأتي شخص ويدعي إنه الملك ويقدم عني الفقرة الأولى. دعوه يفعل وإلا أنا ميت‘. يقول جيري لسامعيه في المحطة.

 لدى اقتناعهم باختطاف الملك تعمّ الهستيريا إدارة التلفزيون، يعلو النقاش وتتصادم التوقعات وتتساقط الحلول. فالشرطة والـ إف. بي. آي عاجزان عن حسم القرار بالقبض على روﭘـرت ما دامت الشركة تؤجل الإدعاء عليه خوفاً على جيري، وليست لديهم خطة بديلة تحفظ ماء الوجه، فالستوديو محتشد بالمشاهدين والبرنامج لا يحتمل التأجيل.  بعد تفصيل التفاصيل، وارتفاع منسوب الأزمة إلى عبثيتها المطلوبة، يوافق المديرون والمعلنون والمحامون والبوليس على أن الأقل خطورة هو قبول شروط الخاطفين.

يترك روﭘـرت أسيره مربوطاً في حراسة مارشا وعهدتها، وينطلق إلى محطة التلفزيون واثقاً أنه سيقدّم مونولوغه الرائع من دون إشكال. يتصل بالشركة من هاتف عموميّ داخل محطة قطارات معلناً قرب وصوله، فيحاول رجال الشرطة الاتحادية إخافته بشتى الوسائل لعله يدلّهم إلى مكان جيري، لكنه جليد صلب، لن يدلّهم ولن يتراجع عن مشروعه، وإذا لم يظهر على الشاشة عوضاً عن جيري: ’ودّعوا الملك!‘

 يمعن سكورسيزي في تعميق حالة روﭘـرت عبر مشهد مطوّل في كشك الهاتف العمومي حيث يتشبث بالهاتف منتظراً ردّ الشركة، ويستطيل الرتل خلفه وتعلو مطالبة الجمع بإخلائه الكشكَ لكنه أعند من أن يستجيب. بل يبقى هناك متشبثاً بالسماعة الى ما شاء الله.

تطفىء مارشا الأضواء في الشقة الفخمة، تشعل الشموع، تجلب زجاجة شمبانيا مع كأسي  كريستال، وتبدأ بإغراء جيري الموثوق مثل مومياء. بكل جوارحها تعبّر مارشا عن شغفها، عن حبها، عن شوقها الحارق. وتصرخ كم هي مستثارة كزنجية على نار، شفتاها الكبيرتان تلمعان بالحمرة، شعرها الأجعد المنبوش يكاد أن يشتعل، ومزاجها الهائج يفور، تتدلّه، وتغنّي لجيري من مشهورة راي تشارلز: ’إن جاء صحو أو مطر/ إن كنا سعيدين أم لا/ ستحبني كما لم يحبني أحد . .  ‘ وتدور حوله وتنسكب على ركبتيه، ثم تخلع ملابسها إمعاناً في إغوائه. تريده أن يعاشرها هنا على الطاولة لأن الصعود إلى غرفة النوم عاديّ جداً خصوصاً   أنها الليلة لينا تورنر، تلقائية، جاهزة لكل شيء.

ـ مارشا فكّيني، يقول جيري بهدوء.

ـ أكيد؟

يهزّ رأسه بيقين يقنع مارشا. تفكّه. يلتقط المسدس عن النضد ويطلق النار عليها مرات متوالية. لكن السلاح الذي ساهم في خطفه لم يكن سوى دمية تتفّ كرات مطاطية صغيرة.  يرميه حانقاً ويصفعها بقوّة  فتسقط ارضاً، ويمضي، وتنطلق خلفه في ملابسها الداخلية راكضة في زقاق دامس  : ’جيري كام باك!‘ تناديه!

تحت حراسة الشرطة الفيديرالية يظهر روﭘـرت پاﭘـكين أخيراً على الشاشة الصغيرة في بيوت وفنادق وبارات مئة مليون أميركيّ. الستوديو محتشد كالعادة.  تشوب تصفيق الترحيب حيرة لفترة عابرة من شأنها أن تشد أوتار التوقعات  لأن الجمهور عرف للتوّ أن جيري لانغفورد أوكل بديلاً منه لإحياء الفقرة وها هو يحييهم: ’مساء الخير، اسمي روﭘـرت پاﭘـكين!‘ ويدخل مباشرة في الوصفة الأميركية المفضلة: إضحك من نفسك، تمسكن، بالغْ في وصف الفقر الذي جئت منه، والداك معدمان إلى حدّ عجزهما عن توفير طفولة لك، أعاداك إلى المستشفى بحجة أنك بضاعة معطوبة، والدك الكحوليّ يضربك، وأمك فحصوا دمها فوجدوه إثنين في المئة دماً والبقية كحول، وفي المدرسة يضربونك كل ثلثاء، إلى أن بات ضربك ضمن منهج التعليم الرسمي، وحتى سن السادسة عشرة اعتقدت أن التقيّؤ علامة نضج، لأن والدك يمارسه بمهارة، وحين رفسك ذات يوم في بطنك وقعت وتقيأت على حذائه، لكنك لم تأبه، بل وقفت هاتفاً: الآن أصبحت رجلاً ! وها أنت تقول الحقيقة بكل بساطة فإذا بها مضحكة لأن جمهورك لن يصدقها: ’تتساءلون لماذا أنا هنا وليس جيري؟ الواقع أنني خطفته (ضحك) ليس في الأمر ما يضحك، فجيري موثوق برباط لاصق في مكان ما من المدينة (ضحك وتصفيق). ويختتم روﭘـرت پاﭘـكين مونولوغه معلناً: ’أن تكون ملكاً لليلة خير من أن تبقى نكرة طوال عمرك‘.

بعد سجنه سنتين وتسعة أشهر، يخرج الملك الجديد إلى الحرية مزوداً بمذكراته، تنشرها دار شهيرة بمبلغ كبير.  تسطع صوره على أغلفة المجلات، وينفتح له قصر التلفزيون فيظهر في بزّة حمراء مغموراً بتصفيق المعجبين. وينطلق إلى آفاق بلا حدود، على جناحَي الشهرة والثراء.

العدد 130 / تموز 2022