يوسف الخال في الذكرى الثلاثين لرحيله -2

جاد الحاج

 حتى بداية الحرب 1975 تقاطعت ظروفنا ِأقل مما كنت أتمنى. التقيته في معرض للبصابصة في ˜دار الفن والأدب، وكنت عائدا من رحلة إلى اليونان، نشرت على أثرها مقالة عن النحات الإغريقي سكلافوس، بعد موته في محترفه الباريسي تحت تمثال ضخم وقع عليه. قرأت حكايتك في الملحق عن سكلافوس قال يوسف ولم يعلق، لكنني تحريت في نبرته انطباعا طيبا أكدته لي عبارته التالية: ˜تعال معي يوم الأحد إلى راشانا. ثم رافقني إلى حيث تمددت أولى منحوتات يوسف بصبوص الخشبية: جذر زيتونة يشبه سفينة نوح، هذبه ثالث الأخوين ميشال وألفريد الذي جاء إلى النحت متأخرا وخجولا. السليقة قال يوسف الخال ˜صندوق المفاجآت.

كانت محصلة ذلك الأحد في راشانا أن بدأ ألفريد بصبوص يعمل على تمثال نصفي ليوسف، وكتبت موضوعا عن قرية الحجر والبشر والفضاء، إضافة إلى أضرار معوية سببها لنا أكل اللوز الأخضر بلا حساب من بستان البصابصة!

باعدنا السفر لفترة وجيزة عدت بعدها فإذا ˜غاليري وَن تنتقل من ˜محطة الديك إلى منطقة البطركية. ذهبت لزيارته آسفا على المقر الذي شهد ولادة ˜شعر وقاعة العرض الأولى في بيروت للفن التجريدي ولاتجاهات الحداثة والطليعة، عالمية وعربية. وربما لذلك الأسف لم أستطع هضم القاعة الجديدة في البطرَكية. كانت الحرب في مطلعها وبدا يوسف منهكا، جسديا، وماديا. روحه نافرة، وبطرَكيته على الشعر الحديث ورعاية الفن التشكيلي آخذة في الانحسار، تمهيدا لانسحابه اللاحق.

˜والله لا أعرف ماذا أفعل بمئات اللوحات… أين أضعها. عندي لوحات لفنانين من السودان، من العراق، من مصر، من سوريا. أمانات في عنقي. حاولت أن أبيع، لكن الناس ليست في هذا الوارد اليوم. عاقد الحاجبين، عيناه الثاقبتان تبحثان عن أجوبة. وللمرة الأولى منذ عهدي به رأيته فاقد الحيلة، خائبا: ˜هل ستنفجر حرب أهلية يا صبي؟ هل سنخسر البلد؟ نبرة سؤاله جعلتني أرى البلد طفلا جريحا بين ذراعيه.

لم تمر أسابيع حتى انفجر الوضع بالفعل. وأحرق هاجوج وماجوج ˜البطركية بما فيها ˜غاليري ون الجديدة. لوحات سُرِقت، أو أُشعِلت، أو مُزِّقت عمدا. وأخرى استرجعها يوسف عبر قنوات السلطة المستجدة وعبر علاقاته الطيبة بأهالي رأس بيروت، حيث سكن طويلا.

وأدى به البحث عن مكان بعيد عن آتون المقتلة إلى بلدة غزير حيث وجد بيتا صغيرا قائما على قبو قديم تحيطه أشجار اللوز والمشمش والليمون والكرمة، وفرعاً من آل الخال. فاشترى البيت وبدأ للتو مشروع توسيعه واستصلاح الأرض حوله. وكان مولعاً بحطاب جاوز السبعين، ذراعاه امتداد لقبضة فأسه، وضربته تفلع العقد في جذوع تآخت عشرات السنين مع الصخر. كان يوسف ينحني فوق حاجز شرفته متأملا بإعجاب يشبه الوله ذلك الحطاب العجوز يصدر مع كل ضربة هديرا كالنفخ في النار، ولعله ألهم يوسف بوهج عزمه فانكب رجل القلم على الأرض يحرثها ويزرعها ويرويها، لائذا بها من وطأة الحرب.

 يخيل إلي أن تلك السنوات العشر في غزير كانت جنة يوسف الخال وجحيمه على السواء. بقي بيته كما كان دائما، مفتوحا على رغم شح مدخوله، بل خواء جيوبه. ولم يكن مساء الجمعة المعلن وحده موعدا للقاء الأدباء والمتأدبين والشعراء والمستشعرين، فكل مساء، ومنذ الصباح وعبر النهار، ما غاب الضيف عن ضيافته. مع ذلك كان يجد وقتا للعمل في الترجمة والتأليف. ثم يسهر مصلوبا على أصوات المدافع وأخبار الدمار.