استشراف المستقبل بين الرؤية الأحادية والمتعددة 

أ.د. مازن الرمضاني*

منذ تبلورها. في عقد الستينيات من القرن الماضي. ودراسات المستقبلات تتسم بتوزعها على رؤيتين متناقضتين تتعلقان بالكيفية التي قد يقترن بها المستقبل عند حلوله كآخر أبعاد دورة متجددة. هي دورة الزمان.

وقبل تناول هاتين الرؤيتين. من المهم الإجابة على السؤال الآتي لعلاقتهما به. هو : هل أن هذه الدراسات أضحت تستوي والعلم. كبقية العلوم الصرفة والتطبيقية والاجتماعية؟

إبتداءً. تجدر الإشارة إلى أن ثمة شروطا موضوعية ينبغي توافرها لإضفاء سمة العلمية على أي نوع من الدراسة. ويؤكد المفكر العربي. د. فؤاد زكريا. أن هذه الشروط تكمن ثلاثيا في ضرورة توافرهذه الدراسة على : موضوع. ومقاربة منهجية. وغاية.

ويفيد واقع دراسات المستقبلات إنها. ومنذ بداية الأخذ بها في منتصف القرن الماضي. قد تأسست على هذه الثلاثية.

فأما عن الموضوع. فدراسات المستقبلات تنصرف إلى البحث في مستقبلات مواضيع متنوعة ذات ابعاد كلية و/أو جزئية. وبهذا الصدد يقول أحد الرواد الأوائل. المستقبلي الأمريكي إدوارد كورنيش. : »إننا عندما نتحدث عن المستقبل )فإننا( نعني به مستقبل شيء ما. أو موضوع ما. أو وضع ما. كما سيكون في فترة زمانية قادمة«. لذا. إذا تم الجمع بين المواضيع التي تبحث في مستقبلاتها هذه الدراسات. فأن المرء سيكون أمام طيف واسع جدأ من المواضيع.

وأما عن المقاربة المنهجية. فدراسات المستقبلات أضحت تستعين بمقاربات إما مبتكرة من قبل مستقبليين. هنا وهناك. أو مستعارة من حقول المعرفة الأخرى. إن هذه المقاربات. بنوعيها. جعلت هذه الدراسات تتميز بثراء منهجي لا يمكن نكرانه. وعندنا تتوزع هذه المقاربات على ثلاثة مستويات أساسية : موضوعية. وذاتية. ونظامية.

وأما عن الغاية. فدراسات المستقبلات لا تختلف عن سواها من حقول المعرفة الأخرى. فهي الأخرى تعبر عن جهد علمي هادف يرمي إلى تحقيق غاية أساسية مباشرة. تنجم عنها غايات فرعية. فأما عن الغاية الأساسية. فالرأي يكاد يتفق على أنها تكمن في استشراف المشاهد الممكنة والمحتملة والمرغوب بها للمستقبل. وأما عن الغايات الفرعية فتكفي الإشارة. مثلا. إلى أبرزها. ومنها : تكريس ثقافة الإنحياز إلى المستقبل. ودعم عمليات التخطيط وترشيد عملية إتخاذ القرار. هذا فضلا عن تجنب صدمة المستقبل.

وجراء توافرها على الشروط التي تضفي عليها الخاصية العلمية. ذهب العديد من المستقبليين. وكذلك سواهم. إلى رؤية دراسات المستقبلات وكأنها تستوي والعلم. ومن هنا انتشرت تسمية علم المستقبل.

ويرجع تاريخ إستخدام هذه التسمية إلى عام 1943. عندما اقترح المؤرخ والمستقبلي الأمريكي والألماني الأصل. أوسيب فلختهايم. تسمية علم المستقبل. والتي قصد بها إسقاط التاريخ على بعد زماني لاحق.

ونرى أن توافر دراسات المستقبلات على الشروط العلمية لا يؤدي. مع ذلك. إلى الإرتقاء بها إلى مستوى العلم.هذا لأن مفهوم العلم. كما يتعارف عليه الرأي. لا ينسحب عليها. فالعلم. وعلى وفق تعريف قاموس اوكسفورد. هو : »نشاط فكري وعملي يتضمن الدراسة النظامية لحقيقة محددة عبر توظيف أليات الملاحظة والافتراض والتجريب والبرهنة إستنادا إلى معطيات يمكن التحقق منها ومن ثم إثباتها«.

ومما يفضي إلى عدم سحب مفهوم العلم على دراسات المستقبلات ليس فقط عدم إتساقها مع مفهوم العلم فحسب. وإنما أيضا طبيعة كثيرمن مواضيعها. ولاسيما مواضيعها الاجتماعية- السياسية. ولأن متغيرات هذه المواضيع تتميز بالتنوع والدينامية والتعقيد. فإن تاثيرها لا يسمح بإخضاع مخرجات هذه الدراسات إلى القياس و/أو البرهنة مثلا.

لذا. ذهب العديد من المستقبليين. ومنذ الستينيات من القرن الماضي. أيضا إلى رفض تبني مفهوم علم المستقبل. فمثلا أكد المستقبلي الفرنسي برتران دو جوفينيل : »أن المستقبل ليس عالم اليقين. بل عالم الإحتمالات. ولأن المستقبل ليس محددا يقينيا. فكيف يكون موضوع علم من العلوم«. وإلى ذلك يؤكد أيضا المستقبلي العربي المغربي. المهدي المنجرة بقوله : »إن دراسات المستقبلات ليست بعلم حتى وأن إستعانت بمقاربات منهجية من حقول معرفية متعددة«.

على أن رفض تسمية دراسات المستقبلات بالعلم افضى. بالمقابل. إلى رؤيتها كنوع من الدراسات البينية الناجمة عن التفاعل الإبداعي بين مجموعة من حقول المعرفة. ولاسيما العلمية والفنية والفلسفية. وقد اضحت هذه الخاصية احدى أبرز السمات التي تتميز بها دراسات المستقبلات. ومع ذلك ما زال كثير من الباحثين العرب في المستقبل. وسواهم. يسمي هذه الدراسات بالعلم. وهم بهذا على خطأ كبير.

وكما أن دراسات المستقبلات تتميز في أنها تًعد حصيلة لمساهمات العديد من حقول المعرفة. كذلك تتسم بخاصية إنطلاقها من رؤى فكرية متباينة في شأن الكيفية التي قد يقترن بها المستقبل عند حلوله. ولعل أبرزها وأهمها رؤيتان : الأولى. وتفيد أن المستقبل يًعد إمتدادا لنسق الماضي ولا غير. أما الثانية. فهي تؤكد أن المستقبل مشاهد بديلة متعددة.

فأما عن الرؤية الأولى. فهي تنطلق من رؤية فكرية ذات جذور غربية قديمة تستوي ومفهوم الحتمية التاريخية. إذ تؤكد على أن المستقبل ينشأ من الماضي ويكون. في الوقت ذاته. محكوما به.

وتاثرا بهذه الرؤية. انتشرت بين كثير من المستقبليين الأمريكيين. ولاسيما منذ الحرب الباردة. مقاربات إتجاهية جعلت من التنبوء بالمستقبل. الأحسن أو الأسوأ. غايتها النهائية. وبغض النظر عن التفاصيل تلتقي هذه المقاربات عند الآتي:

أولا. تتبع التطور التاريخي لموضوع الاهتمام لتحديد الإتجاه )بمعنى المسار( الذي اقترن به في ماضي الزمان. ولاسيما الأكثر وضوحا وأهمية.

ثانيا. إسقاط هذا الإتجاه على المستقبل. بمعنى سحب ما كان على ما سيكون. ومن ثم التنبؤء بالمشهد المستقبلي الأكثر احتمالا.

وفي ضوء إسقاط ما كان على ما سيكون. تفترض المقاربات الأتجاهية أن الأمورسوف تتغير بالطريقة ذاتها التي تغيرت بها في الماضي. ومن ثم فأن التغيير الذي حدث في الماضي سوف يستمر ممتدا إلى المستقبل وعلى وفق منطوق الحركة الدائرية والوتيرة المتكررة. ومن أجل التنبوء بالمشهد المستقبلي. تستخدم هذه المقاربات أدوات كمية. كالبيانات الرقمية. والحسابات الرياضية. والمعادلات والنماذج…الخ.

وكمثال على ما تقدم. لنفترض أن عدد سكان أحدى الدول كان ينمو. خلال سنوات سابقة. بمعدل ثابت يساوي 2% في السنة. وتبعا للمقاربات الأتجاهية. يصار إلى جعل هذا المعدل بمثابة المنطلق للقول أن المستقبل سيستمر مقترنا به. وأن كل ما ينبغي عمله هو مجرد توظيف أحدى الآليات الكمية. كالاحصائية. لمعرفة عدد سكان هذه الدولة في الزمان اللاحق )ٍ س(.

على الرغم من التحسينات التي تم إدخالها لاحقا على هذه المقاربات.إلا أنها إستمرت تتعرض للنقد. فإفتراضها أن حقائق الماضي ستبقى ممتدة إلى المستقبل ينطوي على نكران غير موضوعي لحقيقة أن العالم أضحى يتغير وبمعدل سرعة غير مسبوق. ومن ثم اضحى يفضي إلى مخرجات لا تسمح بسحب قانون الإستمرارية على كافة معطيات الحياة..

وعليه تتناسى هذه المقاربات أن قانون التغيير لا يسمح بتكرار صورة الماضي. إلا في الدول الراكدة. هذا فضلا عن أن مسيرة الحاضر نحو المستقبل لابد أن تقترن بمفاجآت تؤدي مخرجاتها إلى أن تكون صور المستقبل مختلفة بالضرورة عن صور الماضي و/أو الحاضر. ومن هنا رأى البعض أن المنطق الذي تتأسس عليه هذه المقاربات يستوي مجازا وقيادة احدى العجلات دون النظر إلى الأمام.

 وفي إنتقادها لها. أكد خير الدين حسيب وأخرون. أن هذه المقاربات ادركت المستقبل : »… وكأنه قدر محتوم قد تحدد سلفا )وأن( كل المطلوب هو الكشف عنه في ما يشبه النبؤة التي يستسلم لها البشر«.

وانطلاقا من أن هذه المقاربات كانت. في بداية الآخذ بالتفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية. الأكثر استخداما ولاسيما بين المستقبليين الأمريكيين. جاءت جل دراساتهم انعكاسا لها. وفضلا عن ذلك. عديدة هي الدراسات والابحات والمقالات التي استمرت عناوينها تحمل كلمة المستقبل بصيغة المفرد.

وبهذا الاستخدام لكلمة المستقبل يُراد الإيحاء أن المستقبل ينغلق على صورة حتمية واحدة ولا غير ومن ثم فأنه لا يقبل الإنفتاح على صور. بمعنى مشاهد. بديلة متعددة.

وأما عن الرؤية الثانية لكيفية تكون المستقبل عند حلوله فقوامها رؤية فرنسية ذات علاقة وطيدة بمضامين الفلسفة الوجودية للفيلسوف الفرنسي. جان بول سارتر. فهذه الرؤية اكدت. في بعض منطلقاتها الإساسية. أن المستقبل لا يقبل الإنغلاق على صورة حتمية واحدة. وأنما يتميز بالإنفتاح على صور )مشاهد( متعددة قابلة للاستشراف.

وتأثرا بهذه الرؤية. استمر رواد المدرسة الفرنسية في استشراف المستقبل. وسواهم الأخذ بها. وتكفي الإشارة مثلا إلى المستقبلي الفرنسي. ميشيل غوديه. الذي قال : »إن كل شكل من اشكال التنبوء هو بهتان. فالمستقبل متعدد. وغير محدد. وهو مفتوح على تنوع كبير من المستقبلات الممكنة«.

ولأصالة هذه الرؤية. يؤكد المستقبلي الأمريكي الرائد إدوارد كورنيش. إنها عُدت »… تحولا مهما في وجهة النظر الغربية المعتادة عن المستقبل«. ويتفق معه المستقبلي الباكستاني الأصل. صهيل أية الله. بقوله أن: »دراسات المستقبلات تحولت من التنبوء بالمستقبل إلى استشراف مستقبلاته البديلة«.

وقد دعمت لاحقا ثلاث افكار رئيسية الآخذ بالرؤية الفرنسية ومن ثم إنتشارهاعلى صعيد العالم. هي : فكرة رفض إستعمار المستقبل. وفكرة إسترجاع المستقبل. فضلا عن فكرة التحدي والإستجابة.

فأما عن فكرة رفض إستعمار المستقبل. فالمستقبلية الايطالية اليونورا ماسيني تعبر عنها بالقول : »إننا إذا فكرنا في المستقبل بصيغة المفرد. وتصرفنا وفق ذلك. فإننا نحدد صورة هذا المستقبل ليس لنا فحسب. وإنما بصورة غير مباشرة لغيرنا أيضا«.

وأما عن الفكرة الثانية : إسترجاع المستقبل. فقد قال بها. ولأول مرة. المستقبلي العربي المغربي المهدي المنجرة. وبها اراد المنجرة دعوة دول عالم الجنوب إلى إستنهاض قدراتها الكامنة من أجل صناعة مستقبلها وفق إرادتها. والمشاركة في بناء عالم لا يقترن بصورة مستقبلية واحدة تعبر عن مصالح الدول الأكثر تطورا وإنما بصور متعددة.

وأما عن الفكرة الثالثة : التحدي والإستجابة. فقد افادت أن مسار تطور الإشياء لا يجري على نحوٍ محدد ومسبق. وإنما على وفق نوعية الإستجابة الفردية و/أو المجتمعية للتحديات الناجمة عن هذا التطور. ومن ثم هي التي تحدد المستقبل الأفضل.

وجراء التفاعل الإيجابي بين الرؤية الفرنسية والافكار أعلاه. صارت رؤية المستقبل. ولاسيما التي تعبر عن مشاهد متعددة. هي الرؤية شبه السائدة حاليا بين المستقبليين. وتعبر كلمة المستقبلات. أي كلمة المستقبل بصيغة الجمع. عنها. فمثلا. قال المستقبلي الأمريكي واسع الشهرة. ويندل بل.: إن المستقبل مشاهدمتنوعة. فهي أما ممكنة أو محتملة أو مرغوب بها.

ولا يختلف مستقبليون عرب عن سواهم في الرؤية إلى المستقبل كمستقبليات متعددة. فمثلا يقول المستقبلي العربي المصري. محمود عبد الفضيل. : »… ليس هناك مستقبل واحد. وإنما هناك مستقبلات بديلة«. ويعبر المستقبلي العربي المغربي. محمد بريش.هو الآخر عن هذه الرؤية مؤكدا : »إن المستقبليين الذين عمدوا إلى إستخدام صيغة الجمع عند الحديث عن المستقبل كانوا على صواب. هذا لأن هذه الصيغة عبرت عن تعدد الصور التي يشكلها الإنسان في ذهنه…أحتياطا وترقبا واستعدادا لهذا المستقبل«.

وتندرج مجموعة المقاربات المنهجية المنتشرة بين المستقبليين. والتي ترى المستقبل كمشاهد متعددة. تحت تسمية المقاربات الإستهدافية/ المعيارية. وتختلف هذه المقاربات عن سواها. ولاسيما المقاربات الإتجاهية المشار إليها في أعلاه. على صعيدين اساسيين :

أولهما. هو جوهرالرؤية التي تنطلق منها. أي أن المستقبل مشاهد بديلة متعددة. وثانيهما. هو ألياتها. التي تتمحور حول الإجراءات المنهجية الآتية:

أولا. تصميم صورة المستقبل المرغوب فيه عبر أدوات كيفية متعددة. كالحدس. و/أو الافتراض. و/أو التقييم الشخصي…الخ.

ثانيا. الرجوع إلى الحاضر للبحث عما يؤدي إلى تحقيق الصورة المنشودة للمستقبل وبضمنه دعوة صناع القرار إلى تبني سياسات محددة لهذا الغرض.

وتنطوي الآليات التي تستخدمها هذه المقاربات على بعدين متفاعلين: فأما عن الأول فهو البعد المعياري. الذي يعبر عن السؤال الآتي: ما المستقبل المرغوب به؟ وأما عن الثاني. فهو البعد الوصفي. الذي يتأسس على السؤال الآتي : كبف نستطيع تحقيق هذا المستقبل المنشود.

وفي ضوء كل ما تقدم. قد يتساءل البعض : لماذا صار الإنسان يولي. ومنذ ما بعد منتصف القرن الماضي. استشراف مشاهد المستقبل هذه الأهمية الخاصة؟

عندنا. لايكمن الجواب في أن المستقبل يُعد البعد الآهم من أبعاد دورة الزمان. هذا لأنه سيصبح عند حلوله هو الزمان الحاضر. الذي سنعيش فيه واولادنا واحفادنا فحسب. وأنما أيضا لأنه وحده الزمان الذي يستطيع الإنسان التدخل الواعي والهادف في عملية تشكيله مسبقا. وبهذا الصدد لنتذكر أن الإنسان هو الكائن التاريخي الوحيد الذي يتوافر على قدرة تجاوز الزمان الذي مضى. والزمان الذي يمضي. وكذلك الإستعداد للزمان الذي سيأتي.

ومن هنا تنتشر بين المستقبليين مقولة ذات أهمية بالغة هي : أن الإنسان ولاسيما الذي استطاع حسم إشكالية التلفت والتشوف. أي إشكالية الماضي/ الحاضر. لصالح الإنحياز. تفكيرا وسلوكا. إلى المستقبل. هو الإنسان الذي يصنع المستقبل وليس المستقبل هو الذي يصنع الإنسان.