كاميكازي

سهير آل ابراهيم

في القرن الثالث عشر، قام القائد المنغولي كوبلاي خان؛ حفيد جنكيز خان، بحملتين كبيرتين لاحتلال اليابان، وذلك عامي 1274 و1281م. وقد باءت الحملتان بالفشل، ففي كلا المرتين هبت اعاصير شديدة دمرت أساطيل المنغول وانقذت اليابان من الاحتلال. آمن اليابانيون آنذاك إن إله البرق والرعد والعواصف قد أرسل تلك الأعاصير لحمايتهم وحماية بلدهم من غزو الأعداء والإحتلال، ولذلك أطلقوا على تلك الاعاصير تسمية كاميكازي؛ والتي تعني الريح الإلهية أو الريح المقدسة!

عاد مصطلح كاميكازي للظهور بشكل واضح اثناء الحرب العالمية الثانية، والتي دارت رحاها في القرن الماضي، بين عامي 1939 و1945. دارت أحداث تلك الحرب على مسرحين رئيسيين؛ احدهما كان في اوروبا، والآخر في المحيط الهادي.

كان لقادة اليابان اطماع توسعية، اذ كانوا يهدفون الى جعل دولتهم الصغيرة، دولة قوية ولها مركز قيادي في العالم. في عام 1937 قامت اليابان بغزو الصين، وكان هدفهم الأكبر هو السيطرة على جنوب شرق قارة آسيا بالكامل! ولذلك انضمت اليابان الى دول المحور؛ وهي الدول التي شكلت تحالفاً عسكرياً في الحرب العالمية الثانية، والتي ضمت بشكل رئيسي المانيا النازية، بقيادة أدولف هتلر، وإيطاليا الفاشية بقيادة بينيتو موسوليني، فوقعت اليابان معاهدة مع المانيا وإيطاليا عام 1940.

خشي قادة اليابان ان تقف الولايات المتحدة الأميركية في طريق توسعهم وغزوهم لبلاد اخرى، ولذلك قرروا مهاجمة اساطيل القوات البحرية الأميركية الرابضة في المحيط الهادي، بهدف اغراق اكبر عدد من وحداتها، لاعتقادهم ان ذلك العمل سيمنع اميركا من مهاجمة اليابان!

في عام 1941، هاجمت القوات اليابانية القوات البحرية الامريكية التي تواجدت في ميناء اللؤلؤ في هاواي )بيرل هاربر(، ولم تكن اميركا حتى ذلك الحين قد اشتركت في الحرب العالمية الثانية.

دفع ذلك الهجوم اميركا للانضمام مباشرة الى دول الحلفاء )و التي ضمت بريطانيا وفرنسا وبولندا وغيرها(، بهدف إلحاق الهزيمة بدول المحور، وخصوصاً اليابان.

في عام 1942، تعرضت البحرية اليابانية لهزيمة كبرى امام القوات الامريكية، مما اضطرهم للتراجع، والذي شجع الأميركان على الاستمرار بالقتال والتقدم.

بعد تلاحق هزائم القوات اليابانية، وادراك قادة المعارك في اليابان مدى ضعف إمكانياتهم العسكرية قياساً بها في الجانب الامريكي، وبفعل خشيتهم من وصول قوات التحالف الى الاراضي اليابانية، مع عدم رغبتهم في الانسحاب من القتال، أوعز قائد القوات الجوية اليابانية بتشكيل )وحدة الهجوم الخاصة(؛ وهي وحدة هجوم انتحاري تألفت حينها من 24 شاباً، من الطلبة الذين كانوا في مرحلة الدراسة للطيران العسكري، والذين تطوعوا للانضمام في تلك الوحدة.

كان الهدف من تشكيل وحدة الهجوم الخاصة هو خلق كاميكازي جديد؛ خلق اعصارٍ يدمر الاساطيل الامريكية، كتلك الاعاصير التي ارسلتها الآلهة قبل مئات السنين. لذلك أُطلق على طياري تلك الوحدة لقب كاميكازي! ولا ادري ان كان قادة اليابان آنذاك يشعرون بأنهم آلهة، كما هو الحال مع الكثير من الزعماء والحكام الآن وعبر التاريخ، وإن لم يعبروا عن ذلك صراحة.

كانت مهمة الطيار أن يذهب بطائرة محملة بالمتفجرات، فيصدم بها باخرة اميريكية لتنفجر بما ومن فيها، وتدمر ما حولها! وكانت تلك الطائرات تزود بوقود يكفي للذهاب فقط، فلا طريق للعودة!

وقع اول هجوم كاميكازي يوم 21 من شهر تشرين الاول عام 1944. حيث هوجمت سفينة من البحرية الأسترالية، فقتل ثلاثون فردا من بحاريها، بضمنهم قائد السفينة، وجُرح الكثيرون.

أعقب ذلك الهجوم العديد من عمليات الكاميكازي الانتحارية، والتي سببت خسائر كبيرة لقوات التحالف، مما دفع الأميركان الى التفكير بطريقة فعالة لوقف استنزاف قواتهم، وكانت الطريقة هي استخدام سلاح جديد كانوا قد صنعوه آنذاك، الا وهو القنابل النووية!

هاجمت القوات الأميركية المدينتين اليابانيتن هيروشيما وناكازاكي بالقنابل النووية، والتي احدثت دماراً مريعاً، وتسببت بقتل الألوف المؤلفة من الضحايا، مما اضطر اليابان الى اعلان خسارتها أمام قوات الحلفاء، ووقع إمبراطورهم معاهدة استسلام مع الجانب الامريكي، في الثاني من أيلول عام 1945.

بنهاية الحرب، كانت اليابان قد خسرت اكثر من 3800 طيار انتحاري، كما جاء في صحيفة الغارديان! ولم يكن تطوع اولئك الطيارين الشباب لمهمة الكاميكازي بدافع حب الوطن فقط، فقد كان لضغط المجتمع دورا لا يستهان به في ذلك؛ فالطيار الذي يمتنع عن التطوع يبقى ملاحقاً بالعار واحتقار المجتمع له. كان الطيار منهم يغادر في مهمته التي كان يعلم انها الاخيرة، بقيافته العسكرية الكاملة، مصحوباً باحترام الناس وتوديعهم. كانت الفتيات تصطف على جانبي مدرج الطائرات لتوديع الطيارين، ملوحات اليهم بأغصان أشجار الكرز التي تتميز بها اليابان.

كانت لمقاتلي الكاميكازي طقوس خاصة يمارسونها قبل الانطلاق نحو حتفهم؛ فكانوا يأكلون بعض الرز ويشربون مشروبا مصنوعاً من الرز ايضاً. وكانوا يُمنحون ميداليات تقديراً لشجاعتهم، مع سيوف كالتي استخدمها مقاتلو الساموراي القدماء. وكانوا يربطون على جبهاتهم رباطا يحمل رسم شروق الشمس ويرتدون أحزمة السَنيباري؛ وهي أحزمة يُطرّز كل واحد منها بألف غرزة تخيطها ألف إمرأة، تضع كل واحدة منهن غرزة في الحزام!

تقول واحدة من الحكايات ان طياري الكاميكازي كانوا يلقون الزهور من طائراتهم فور إقلاعهم، ولا يزال اليابانيون يعتقدون ان الزهور البرية التي تزهر في بداية الشهر الخامس من كل عام، على السفوح القريبة من المطار الذي كان محطة إقلاع ورحيل لألوف الكاميكازي، هي من بقايا تلك الزهور التي رماها الطيارون في آخر لحظات حياتهم!

كتبت الشاعرة الانكليزية؛ بياتريس جارلند، قصيدة مؤثرة على لسان ابنة طيار كاميكازي تراجع عن مهمته ورفض القيام بها. تتحدث القصيدة عن عزلة ذلك الرجل بعد ان قاطعه الجميع، لأنهم اعتبروه جباناً، فلم يكلمه أحد، حتى زوجته التي امتنعت عن الكلام نهائياً بحضوره! لم يتحدث معه سوى الاطفال الذين لم يدركوا ما كان يجري حولهم، ولكنهم بالتدريج بدأوا يمتنعون عن محادثته، أسوة بالكبار. وتتساءل الشاعرة في نهاية القصيدة عن أي موت أشد قسوة وايلاماً؛ موت الكاميكازي أم موت العزلة الاجتماعية المصحوب بمشاعر الذل، مثل ذاك الموت الذي عانى منه ذلك الرجل، كل يوم.. طوال حياته!

يمر بخاطري، في الكثير من الاحيان، تساؤلٌ قد يكون غريباً، أو ربما مضحكاً بالنسبة للبعض، ولكن، لو استطاعت بقية المخلوقات، من حيوانات ونباتات، التكلم ومحاسبة الانسان وتأنيبه على ساديته وامتهانه تدميره للحياة على هذه الارض، فماذا ستقول له؟

إن سألونا فماذا ستكون إجابتنا؟!