سبعون عاماً على رحيل وديع صبرا : لولا النشيد

عبيدو باشا

انه الآن على سدة الصمت . رجل ممرغ بالغيب . لا رائحة جسد ولا رائحة حسد . بركنه الخشن . كأنه لا ولد ولا مات . لا يشبع اللبنانيون من النسيان . هكذا ، وضعوا من وضعوه على صهوة الغيم لا في سماء القصائد ، لأن لا رغبة لديهم في رؤية أحد من خلال الباب المتأرجح بين دنياهم وآخرة من غاب تاركاً الأيام خلفه كأنها نهر جف . إنهم لا يمتلكون فضولهم ، فضول المدينة أو الفضول الريفي ، لأنهم شبعوا في أركانهم الهادئة من كل شيء ، سوى إشعال السيكارة من سابقتها . الفراغ أمامهم وخلفهم ، لا يصحون إلا على ثقله ولا ينامون إلا على الثقل ذاته . العتم مريح ، إذ يهبط ، إذ يهبط عليهم مرة واحدة . ذاب من ذاب ونقطة على السطر . لن تطلع شموسهم من جديد . من الأفضل أن يهبط من هبط إلى عالم ادمان الوحدة ، ولو أن هبوطه إذًا أكد وحدته أكد وحدة الآخر في وحدته . وهم إذا غنوا يغنون أغانيهم الخاصة المملؤة بطرد المشاعر من العيون والأفئدة . هكذا ، يقف من يقف على النسيان أمام هزيعه الأخير . وهو إذ يقف على ما يقف عليه يطرد جمع المشاعر. إذاك لا يعود الصحو يدب بالتاريخ ، بحيث يبقى مساحة من البياض الشمعي بدل أن يظهر ممشوقاً مفتول العضلات بدبيب الأسماء فيه ، بدبيب الأحداث في الأعالي . بالأعالي على الأقل ، حيث يتربع من لم يوجهوا الشتائم حين رفعوا الألم كالغيم بحيث حولوه إلى حلم . وديع صبرا واحد من من صبغوا الأيام بالحناء . لم يثمل ولم يخرج لسانه وهو يسقط في نفسه كالدخان متمدداً على تدبيج الأيام بتسرب الألحان والموسيقى والأوبريت من أنامله . لم يطقطق عظامه ولم يفتح أزرار قميصه وهو يغمض عينيه ويفتحها على ما يرى وما لايرى . تم تركه في نومه وهو يرتج من الغضب ، بعد أن جرى اغتياله مرتين . واحدة حين وضعوا كل ما أنجزه كزائد على تلحين النشيد الوطني . وأخرى حين لم يلمحوا عسله الآخر بعد أن تركوه في منطقة البرد القارص . بقي ما أنجزه في كفه المضمومة . ذلك أنه إذ لم يطقطق عظامه ولم يفتح أزرار قميصه ترك في خانة الإسراف في العصيان إذا ما طلب أن تفتح أصابعه على إنجازاته الأخرى . وهي كثيرة ، معتبرة ، حتى ولم تمنح ما احتاجته من اليود والهواء الطيب حتى تبقى في خط سيرها من دون دموع صاحبها .

مذ أدركت قربة المسافر وديع صبرا ، لم يعد يمتلك القدرة على مغادرة إطار الصورة النمطية . إنه ملحن النشيد الوطني ، يجيء ذكره كما تجيء البلابل إلى أشجارها وهي لا تفكر كيف يراها الحمقى على الأشجار هذه . ترك على حياة بلوح واحد ، هو الذئب الخفي من لم يشعر به من يشعر ومن لا يشعر وهو يلعب أوراقه على مائدة اللعب كمقامر مدرب يستهدف نفسه بالصمت وهو في أبهته لا يرتج ، لأن الرج خروج المغامر المحترف من هيئته إلى هيئة مفتوحة ، مكشوفة ، تخرج من العروق، من مجرى الدم ، بحيث تتحول إلى أرض بلا سياج. ولأنه مبدع ، لم يلوح بشرره محتجاً على أخذه إلى العتمة حين وضع على جدار نشيده . أوقفوه على لحم خبزه الحاف إثر تركه في اناء النشيد الضيق .صلبوه عليه . ضاع الرجل في شوارع نشيده ، بعد أن راح الضرير يردد أنه يعرف جسد صبرا في جسد النشيد . متعقب لا راء ، لا يرى هواه إلا في هوى الرجل الأول. النشيد أولاً وأخيراً وآخراً . هكذا ، وجد خاسراً ، معزولاً في نشيد يردده الصغار والكبار . وكأنهم كلما رددوه دخلوا سجنه . كلنا للوطن للعلى للعلم على لحن بقي الطول سمته ، طول أقصر من قرنفلة . لا علاقة للأمر بالأحاجي . إنها فجوة تهرق فيها العطور من زجاجاتها على نعاس العقول . لن تضم السيرة إذن ، او تضم سوى سطح من سطوح ، سوى الكاحل لا الكحل ، سوى الشبة لا نزيف اللمعان . هذا من فرط العادة. عادة تغطية الحياة بالمخاض الأول ، الواحد ، الوحيد . أخطر أعضاء الحياة هي العادة . لأنها تترك النفس في نوم خفيف . ولكنه سيعود ويثقل حتى يظهر كالموت . أو كالرحم المغلق. حين يقع بالعادة ، من يقع، يموت . العادة قاتلة . لا سعة سوى إلى فؤاد واحد . لا سعة سوى لرغيف لا يوزع على الجائعين . لأن رغيفاً واحداً لايستطيع الإحتماء سوى بعيني رجل واحد جائع . لم تهتز أرغفة صبرا ، مبتسمة أو صارخة ، حيث أن صاحبها لم يهز سلمه من فقره الدعائي ومن مشيه وحده ومن عدم تحرك السنانير على رسمه كواحد من المفضلين في قصور السلطات .بهذا المعنى ، لن تدور دوراته سوى على محور واحد . يكفيه أن يبقى نبع النشيد ، لكي لا تنفجر أنبعه الأخرى على أسباب الآخرين . الدوام على المحاور الأخرى دوران في أحرام الخطيئة . وضع بالرواية كرجل وحيد بانجاز وحيد .وحين وضع ، وضع في قبر من سجف أبيض . لأن الرواية كفنُ الأموات في بلاد الشرق، لا ولادتهم على ما هم عليه . لم ينادمه الرواة لا في الحياة ولافي الموت ، لمَّا تركوه في قبورهم بأفواه فاغرة انفضت من حولها الملائكة . الفم هودج الراوي وقبره . وحيث أن أفواه الرواة شردت عنه ، أصيبت شجرة إبداعه بتحسس الرواة من سجوها أمامه .

كأن الرجل لم يرفع تراتيله ومساراته كنافورة لم توجد في ساحة . رفعها بدون أن يكررها. تم نحره في أوقات الرواة الناشزة ، من يفضلون صوت الموجة على صوت البحر . المدهش أن الجزء الآخر من النشيد بقي مجهولاً بكلامه ، لا ينوجد إلا إذا أتم المنشدون النشيد بتمتمة اللحن بدون أن يجدوا سبباً ليسألوا عن قبول ضيافة الجزء الآخر باللحن وحده . نوع من أنواع العرج ما لم يعرف سره بعد ، إلا من قوة لبنة اللحن وتغذي الكلام منه ، كما لو أن الكلام بذرة واللحن تربة .

حصر بديع صبرا في النشيد كما حصر لوركا في اغتيال الفاشيين الإسبان له كحلزون آدمي ، لم يقف شِعره في مدارات نار المسرحي الذائب على فمه وذقنه وعينيه. إنه ملحن النشيد ونقطة على السطر . كما أن لوركا مثلي ، ناداه الفاشيون لكي يخلصوه من سوء الظن . يتيم ، أعزل لا يؤنس من يراه إلا إذا رآه في صحن النشيد ، بعيداً من الأفدنة الأخرى .احتاج المتعاطفون ، إلى الهة الوثوق لكي يرمموا صورة ابن عين الجديدة ( بحمدون ) مسقط رأس العديد من ابناء الحرقات الثقافية والفنية( شوقي متى ، الممثل والمنتج ..). تركوا سيرة الرجل النحيل ، الوسيم ، ذي السحنة الكلاسيكية، في برزخه الملعون، وهم يقضمون ثمراته الأخرى بدون تعفف أو رحمة ، من تأسيسه المعهد الوطني للموسيقى وتأليفه المارشات والقطع الموسيقية للبيانو ووضع التنويط بالضوء الأبدي ورفع الأوبريت على لحمها لا على عظامها. لم يرغبوا في أن يروا تبغه المخلوط ، من وقوعهم في عادة الإبتعاد عن العين الواسعة في رؤية الأسم بعد اجتيازها مرحلة اختياره من قبل الأبوين.

اختزل اللبنانيون وديع صبرا بالنشيد الوطني ، لأنهم اختزاليون ، يضعون الفتوح والشطور بالكفر، من ميلهم إلى الكسل والحزن والدموع ، لا إلى القراءة واختراق الهواء على فكرة التحرر من شهوات الساديين . ولأن اللبناني ميال إلى تسلق الجدران لا إلى قراءة الوصايا ، حولوا الرجل إلى هلال أجوف ، إلى نائم على ماضي الحاضر بعد وجدوا أن نشيده يصدق بشكل لا يطاق . هذا نهي لا فلسفة . لأن أحداً لا يقدر أن يميز بين اللاهوت والأسطورة . باللاهوت فواتير مؤجلة .بالأسطورة هواء طلق وطلق هواء . غريق في النشيد. ملصوق على بيت عنكبوته، كمسيح جديد . وجدوه رجلاً خاسراً في المحطات الأخرى ، بدون أن يلحظوها أو يتوقفوا فيها . وهو ليس كذلك ولو لم تستطل دموعه على خديه وهو يرى من يرى ينقض عليه بلصق البكم على أنصافه الأخرى ، كما ينقض عنكبوت على ذبابة سكرانة .

اختزاليون ومزاجيون ، لا يميزون بين الذهب والنحاس الغامق .هدامون ، يهبطون على قصائد الصعود ويصعدون على قصائد الهبوط . ولأنهم لايصمدون إلا أمام عرش واحد ، تركوا دالية الإبداع على بحر الموت ، بعد أن لاموها إذ وجدوها تنافس نشيد بلادهم وهو يطلع من خلوة آدم . وضعوا كل شيء آخر بالعدم لكي لا يصاب النشيد بسوأة . وجدوه زورقاً عائماً على لحم الأسماك . لا انصاف بما فعلوا ، ولكنهم فعلوا ما فعلوه بشهادتهم على أن الرجل لم يحيا سوى في النشيد. وأن لا أسفار أخرى له ، سوى سفر الموت ( كاتب النشيد رشيد نخلة) . لم يمض إلى عين الشمس إلا بنشيد بقي يدور في ساعة الزمن ، كما لو أنه حلية نادرة، فاخرة، لا أخ لها ولا أخت . لا أخ هادي ولا أخت هادية . لا حبة أخرى في المسبحة .ثمة نورس ملكي واحد في سرب النوارس . لأن نورساً آخر قد يلعق جزءاً من أجزاء النشيد . نشيد ضد أورام البلاد ووحشتها وسوادها وهباتها ذات القيعان. وارى النشيد في ظلاله النشيد الوطني العثماني وتأسيس دار الموسيقى ، المدرسة الأولى للموسيقى في لبنان ما أضحى المعهد الوطني للموسيقى حيث سمعت أنامل الالاف على عشرات الالات وكأنها تخرج من رأس المتنبي أو الفارابي والطوسي والأصفهاني والكندي . أُسقِط عن جدران المعهد وفرقه الموسيقية الشرقية والأوركسترالية. لم يرتفع فوق سلم فرعوني إلى أحد جدران المعهد . بحيث لم حاذر المحاذرون وضع “بلاك” يخلد ذكراه .سقط الرجل في الأبدية بعد أن أبى المؤرخون سوى تركه في النسيان ، حتى أنهم أبعدوه عن بقع الضوء المتعبة . لم يُرَّد ، لم يؤل ، لم يحلل . ملحن فقط ، ملحن لا يموت . لأنه اذا مات لا يعود ثمة نشيد . واذا مات النشيد مات الوطن . ولكنه ليس يتيم لحن النشيد . إنه ملحن وموسيقي . هو ملحن لدى العامة ، لا موسيقي .إنه رجل وصال بين الإثنين . المثير أن ثمة من يضع التلحين وتأليف الموسيقى على منحدر واحد . خطأ في أن يوضع على مقام واحد . ولكن لن يصحح أحد الخطأ . الملحن، شخص يجمع . ترتيب عناصر في نسق بلاغي مؤشر . الملحن تبادلي ، مترجم كلمات الشعر بالموسيقى . ثم أن الملحن كاتب الأغنية . دعي بكاتب الأغنية منذ أن أخذت الموسيقى شكل الأغنية . مؤلفو الموسيقى باخ وسترافنسكي وبيتهوفن وشوبرت وموزار هيبون ، يتهيب الحديث عنهم ، رجل كانتوني تومازيني كبير نقاد الموسيقى في صحيفة نيويورك تايمز . لا اتقفى أثر وديع صبرا كما لو أنه ديبوسي أو بارتوك او فاغنر أو فيردي . ولكنه مؤلف موسيقى . وهوملحن وإداري ودارس فوق الشهادات الأخرى . أكاديمي . الأخير يعقلن التجلي مع شطور الموسيقى والسوناتات الجديدة وأوشام الموسيقى الأخرى .

لا يزال الرجل ، بصوره ، يتمتع بقسمات الوجه المفتوحة . بقي نحيلاً ، لا أكثر بدانة ولا أقل بدانة . لم يرتفع كما ترتفع عشبة . انبثق على انامله وهي تخترق مجالات الاختصاص ، كيرقة تخرج أجنحتها من قشرتها الجنينية لتطير . وحين تفعل تقع في واحد من أنواع الموت التخيلي ، لتظهر كيرقة أخرى . هكذا ، لم يمت وديع صبرا ولو أنه تخلى برهة عن الحياة ( توفي عام ١٩٥٢). مضى سبعون عاماً على اندفاعه إلى الأعلى ولا يزال يحسن العزف على الحضور ببراعة موسيقي أرضي . إنه الآن في مطهره . لم يتحدأحداً في منافسة .لذا ، لا يزال يرى مندفعاً كعلامة لغوية ، ليتفقد غرف الموسيقى والآت البيانو فيها ، مطمئناً إلى أن أحداً لا يضع سدادات الأذن وهو يستمع إلى من يعزف مؤلفاته. المؤلم أن لا نصب للرجل ولا لوحة ولا ذكرى ميلاد .لأنه من الأجودين . ولا يكرم أجود . لأن الأجودين لا ينتمون إلى رخيص البورصة.

زرع الرجل العمر بالتأليف والتدوين والتأسيس كنملة لم تخشى الغرق في الماء الشفاف . لن يجن من ترك مقطوعاته كعاداته ، حية ، حية ، حية . واهب الحضور بعد سبعين عاماً على وفاته ( ١٨٧٦-١٩٥٢) جهر بقطع بألوان فاقعة ( موجود بعضها في كتاب فادي جنبرت الصادر حديثاً بعنوان “وديع صبرا / عشرون قطعة من أجل البيانو . باللغة الفرنسية ) في سيرة لا تزال تلمع كالحزن الصادق . تعلم في فرنسا بمنحة من قنصلها في بيروت . ربح مباراة تلحين النشيد الوطني العثماني (منح العثمانيون ولاية بيروت استقلالها الذاتي ودعم ولاتهم كل من برز كما تبرز البطاقة الشخصية أمام الشرطي ). وحين عاد إلى بيروت أسس المدرسة الأولى للموسيقى ما عرف بدار الموسيقى حيث غدت الكونسرفاتوار الوطني اللبناني بالعام ١٩٢٩. أول من درس تقنيات الموسيقى الغربية. ثم ، لم يلبث أن أنشأ مجلة خاصة بالموسيقى هي “مجلة الموسيقى” . الف أوبراتيتات كتب بعضها بالتركية كرعاة كنعان ، وكتب بعضها بالعربية كرواية الملكين . غير أن موعده مع الموت لم يترك أعماله كلها في بورصة الوقت ،حين تراوح حضوره الوليد بين النشيد الوطني والنشيد الوطني ، لدى من زربوه في هذا الثقب وكأنه يعنفه على سلمه الصاعد على الأمداء كعروس طائرة على حروف معجمها . ولو أن قربة مائه ، حقيبة ظهره مليئة بالأوراق . ولكن هذه النحلة الخضراء لا تزال تراوح في صدى النشيد النازف . قسوة بشعر طويل .