سيد مكاوي ..عاشق  الفن الشعبي

أخلص له وتبتل في هواه ،وترك لنا كنوزا عصيه على النسيان

واحد من المبدعين الكبار الذين نحتوا في الصخر،لكي يشقوا لمواهبهم طريقا.عرفوا الحرمان

،وشظف العيش،وتقلبوا بين الوان من المهن ،حتى يعثروا على ضالتهم التي يتطلعون اليها،و من ثم،يعطونها طاقتهم التي تتفجر بحثا عن الطريق.عرفت طفولته المأساه في ابلغ صورها ،وأقسى أحكامها ،حين عرف اليتم طريقه الى حياته بفقدان الأب المبكره ،ثم مالبثت الأحزان أن تكالبت عليه من جديد ،بصورة أكثر قساوة وأشد مرارة ،فحرمته كذلك نعمة البصر،بعد التهابات متعدده أصابت عينيه،وتكفل الجهل بالعلاج،مع قصور ذات اليد،الى الذهاب بهم الى الطب الشعبي الموروث، فوضعت الأم مسحوق البن في عينيه علها تخلصه من مشكلته،لكن ذلك خلق مأساته،فقد وضع النهاية لنور عينيه،وتحول بذلك الى كفيف يعاني من فقدان البصر،بعد فقدان الأب.لكن من المفارقات الكبيره التي تبلغ حد الاعجاز في حياتنا ،تلك المفارقه . أن الله سبحانه وتعالي الله قد أودع نورا اّخر ،أشد ضياء ،وأكثر بريقا ووهجا في عقل الأنسان وفي اعماق وجدانه ،وهكذا كان العوض الذي قاد سيد مكاوي،بفضل عزيمة قاهره ،لكي يصبح نجما يضيئ باشعاعه ليالينا الساهره،وينشربألحانه الشعبيه البهجة من حولنا، وينتشي الوجدان بأصالة نغماته.ان حياته تسطرها البساطه سواء في علاقاته الأجتماعية التي تشكلت من صداقات ومعارف،أو في اختياراته في فنه ألحانا كانت أو أداء يتغنى فيها بمعان ترتبط بالتراث الشرقي في اصالته ،وتصدح بنغماته ومعانيه .

نشأته ومسيرة حياته

نشأ سيد مكاوي في اسرة فقيرة،تسكن في احدى حارات السيده زينب بالقاهرة تسمى حارة (قبودان)عام 1926،ادى فقدانه المبكر لبصره ،الى محاولة البحث عن عمل يتلاءم مع ظروفه الطارئه،وقد أسفر ذلك البحث عن العمل مقرئا للقراّن الكريم ومنشدا للموشحات في الموالد الشعبيه في الأقاليم،لا سيما وأن فقدانه لبصره،لم يشكل عائقا في حفظه اّيات القراّن من خلال السمع في (الكتاّب)،وقد كان بمثابة المدرسة الأوليه للتعليم.ثم ترديد ما يسمعه،وكان سريعا في الحفظ،على جانب اّخر كان متابعا لكبار المقرئين والمنشدين ومنهم الشيوخ مصطفى عبد  الرحيم واسماعيل سكر،وغيرهم مما أكسبه بعضا من ثقافة الأنشاد والترتيل،فاذا اضفنا الى ذلك انه قد ورث عن ابيه عشقه للغناء والطرب،ولديه بعض الاسطوانات

سيد مكاوي
بصحبة العود اّلة الابداع وسحره

القديمه التي يخلو بنفسه لسماعها والانتشاء بها،مما شكل لديه وجدانا مرفها بحب النغم،والشغف بالموسيقى.  توفي والده،وكان عليه ان يعول الأسرة بكاملها المكونه من والدته وخمسة من الاخوة و الاخوات ،في ظروفه الدقيقة. لعب شغفه بالموشحات والغناء دورا في فقدانه لمصدر رزقه الأساسي كقارئ للقراّن الكريم ،فعمل على انشاء ما يشبه الفرقة الموسيقية لأحياء الحفلات،لمن يعرفهم ، مستندا الى ما يحفظه من الوان التراث الشرقي والانشاد الديني ،وذلك قبل ان يذاع صيته،ويكتسب شهرة ،حتى وان كانت محدودة في اول الأمر.يقول في تدرجه ذلك ،في حوار صحفي تم اجراؤه معه ،بعد ان ذاعت شهرته ( تعلمت من الالحان التعبير الداخلي عما يدور في اعماقي ،وأنا مدين للناس في تعلم الموسيقى، وأعرف ما يحبون بقدر ما أحبهم . في الخمسينات من القرن الماضي ،كان التطور الكبير في مسيرته ،فقد عرف طريقه للاذاعة المصريه، واستطاع ان يقتحم عالمها المثير،ولو بخطوة صغيرة ،فقد تمت الموافقه على ان يغنى خمسة عشر دقيقه في العام،وان تكون أجور الفرقة الموسيقيه التي تصاحبه على نفقته الخاصة، وقبل ذلك الشرط ،متطلعا – في يقين – الى مكانة اكبر سوف يحظى بها و يحققها في مستقبل الأيام .

الحان فتحت له باب الشهره

كان على موعد مع القدر، يسر له ذلك الموعد موهبته الحقيقيه، فقد القى القدر في طريقه كلمات بعض الأغاني ، التي صنع من حروفها نغمات اخترقت مشاعر المستمعين ،وتركت في وجدانهم عوالم من الطرب والاعجاب،ولذلك سرعان ما انتشرت،ولاقت ترحيبا وحفاوة في اّذان الجماهير،وكان اولها أغنيه كتبها(حيرم الغمراوي)،ولحنها (سيد مكاوي)وهي من أغاني الأفراح،ومطلعها (مبروك عليك يامعجباني ياغالي) و قامت بغنائها (شريفه فاضل)،وقد نجحت هذه الأغنية ،وأصبحت الى اليوم من الأغاني الشعبيه المصاحبه للأعراس،بل ان البعض يعتقد انها من اغاني التراث القديمه ،ويذكر ان الدكتوره هدي عبدالناصر،قد طلبت في ليلة عرسها الذي غنت فيه ام كلثوم وعبدالحليم حافظ أن تشارك شريفه فاضل في الغناء للعرس بأغنية (مبروك عليك يامعجباني) وقد حدث، وان كان ذلك لم يرق كثيرا لأم كلثوم.الأغنية الثانيه التي سجلت اقبالا واسعا كانت للمطرب (عبدالمطلب)وهي(أسأل مره عليا)وهي من كلمات(علي السوهاجي) أما الأغنية الثالثه فكانت للمطربه(صباح) من كلمات (صلاح جاهين)وهي(أنا هنا هنا يابن الحلال ،لا عايزه جاه ولا كتر مال)وهي من فيلم(العتبه الخضرا)الذي انتج 1959، وقد سجلت كذلك نجاحا وانتشارا واسعا.انطلق (سيد مكاوي)بعد ذلك سواء عبرالحانه لغيره من المطربين أوالألحان التي يغنيها بصوته لكي يصبح في الحالتين له جمهورا خاصا ينتظر  في شوق روائعه اللحنيه ذات المذاق الشرقي بسحر ايقاعاته، وجمال نغماته .

لقاؤه مع ام كلثوم

عبدالوهاب وام كلثوم قاماتان كبيرتان في عالم الموسيقي والغناء ،ولذلك فان المطرب الجديد في حاجة الى لحن من عبدالوهاب حتى يتم اعتماده فنيا وجماهيريا كمطرب، كذلك الحال مع ام كلثوم فالملحن القادم من اول الطريق يتطلع الى ام كلثوم لتغنى من الحانه ،حتى يحصل على الأعتراف بقيمته الموسيقيه، والمبايعه الجماهيريه ،ويتم التسليم بموهبته. بالتأكيد هناك من حصل على اعتماده فنيا وجماهيريا دون الحاجة لألحان عبدالوهاب او صوت ام كلثوم ،ومثال ذلك فريد الاطرش ومحمد فوزي وفيروز ووديع الصافي،وصباح فخري ،وغيرهم  فكل منهم يمثل موهبة خاصه لا حاجة لهم لموسيقى عبدالوهاب أوصوت ام كلثوم،ولكن في الاعم كانت الحاجة الى اي منهما لها قيمتها الفنية والأدبيه، في دعم النجم الصاعد تحمل شهادة تقدير وعرفان بالموهبه واحترامها،وايضا المثال على ذلك دعم عبدالوهاب لعبدالحليم حافظ،، وكذلك دعم ام كلثوم للموجي والطويل وبليغ ،لذلك كانت مقالة الكاتب الراحل(رجاء النقاش) ذات أثر كبير حين طرح السؤال في مقالته (لماذا لا تغني أم كلثوم لسيد مكاوي؟)واستجابت (أم

سيد مكاوي بين اسرته
الابتسانه لا تفارقه كما الابداع لا يبارحه

كلثوم)وارسلت عازف الكمان (أحمد الحفناوي)للملحن الصاعد(سيد مكاوي) يطلب منه الحضور لمقابلتها،وكان(سيد مكاوي) على الجانب الآخر يتوق الى ذلك اللقاء، ،وحين طلبت منه الأستعداد للتعاون معها،حين يتم العثورعلى الكلمات المناسبه أجابها على الفور ان لديه اغنية كان يعدها لنفسه،ولكن يسعده ان وافقت على الكلمات وعلى اللحن ان يكون هذا العمل في خدمتها،و تحقق المطلوب، وكانت النتيجه أغنية (يا مسهرني)  من كلمات ( احمد رامي) تشكل أول عمل بين ام كلثوم وسيد مكاوي.سجل هذا العمل نجاحا جماهيريا واسعا، وكانت ايقاعاته الشرقيه الاصيله،وكأنها عودة الى زمن الشيخ زكريا احمد و القصبجي ،وهما كذلك كانا امتدادا للفنان الخالد سيد درويش عملاق الطابع الشرقي ،ومايمثله بصفته ابو التجديد في الموسيقى العربيه.وبنجاح اغنية(يا مسهرني) بدأ الاعداد للقاء الجديد بين ام كلثوم وموسيقى سيد مكاوي،وكانت أغنية (أوقاتي بتحلو) عام 1975. لكن في ذلك العام كان المرض قد اشتد على السيده أم كلثوم،وكانت بالفعل قد  أجرت بروفات الأغنية الجديدة وسجلت بصوتها أثناء البروفات،ولكن القدر كان بخيلا ، ولم يمهلها حتى  تغنيها فظلت الأغنية مع سيد مكاوي حتى عام 1979 ،حيث اختارتها الفنانه (ورده) ،لكي تقوم بغنائها،وقد سجلت نجاحا ،كبيرا ،وقد كتب كلماتها الشاعر الغنائي الراحل عبد الوهاب محمد.كما قام سيد مكاوي بتسجيلها بصوته بعد ذلك، لكي تحقق نجاحا بعد نجاح .

سيد مكاوي وتوأمه الفني صلاح جاهين

هما عبقريتان لهما حسن شعبي طاغ،واعمالهما لها صدى جماهيري واسع،الأول في الألحان

والثاني في التأليف ونسج الكلمات،مع خفة الظل وعمق المعنى ولذلك فان لقائهما معا أحدث طفره في الوان التعبير الشعري والموسيقي ،وقد قدما الكثير من الأعمال التي أحدثت دويا بين الناس، نذكر لهما العمل الخالد (الليله الكبيره)الذي عرض على مسرح العرائس وهو يصف المولد الشعبي بشكل رائع وممتع من خلال شخصيات(الأراجوز وبائع الحمص وبائع البخت والقهوجي والمعلم والعمده والراقصه والمنشد والفلاح،وغير ذلك من الشخصيات) وعرض الأوبريت للمرة الاولى 1961 من كلمات صلاح جاهين والحان سيد مكاوي،وقد شارك فيه بالغناء سيد مكاوي وشفيق جلال وعبده السروجي ومحمد رشدي وحوريه حسن واسماعيل شبانه وهدي سلطان وشافيه احمد وصلاح جاهين.اعمال هامة اخرى مع صلاح جاهين تمثلت احداها في(الرباعيات)التي قدمها في برنامج في حلقات يومية من خلال إذاعة (صوت العرب) في نهاية الستينات،وإخراج أنور عبدالعزيز، وقد حققت شهرة واسعة وشيوعا كبيرا مما حدا بالمطرب علي الحجار إلى استئذان سيد مكاوي في إعادة تقديمها، وقد وافق سيد مكاوي وتم إعادة تسجيلها بصوت علي الحجار.يضاف اليها مجموعة اخرى من الأغاني بعضها وطنى مثل ( الدرس انتهى لموا الكراريس) وقد كتبها صلاح جاهين عقب قيام اسرائيل بغارة جويه استهدفت ( مدرسة بحر البقر) 1970 وراح ضحية الغاره عدد 46 طفل من تلاميذ المدرسة الابتدائيه وقامت بغنائها الفنانه شاديه.لم يكن صلاح جاهين مجرد كاتب شعر ،وانما كان لسيد مكاوى محطه كامله،وافقت هواه ،وشكل الاثنان نوعا من التوأمه الفنيه والأنسانيه يقول عنها صلاح جاهين(أنا وسيد مكاوي.اشبه بالشاي باللبن أو العسل بالطحينه،أو البيض بالبسطرمه) فهي اشياء حين تختلط لا تستطيع الفصل بينها ) ،وفي برنامج اّخر سئل صلاح جاهين ( لو قدر لك ان تذهب الى كوكب اّخر فمن تصحبه معك أمك أو اختك أو ابنتك فمن تأخذه معك ..قال سيد مكاوي ) . لكن تجدر الاشارة ايضا الى وجود  شخصية شعريه،يمكنها ان تكون محطة اخرى،وان كانت لا تصل الى مكانة صلاح

السفيرة ايناس مكاوي
ابنة سيد مكاوي تتسلم جائزة تكريمه في ايطاليا

جاهين،وانما تتشابه في بعض جوانبها،وهي اللغة الشعريه المرتبطه بالناس وحياتها وشواغلها ،وهو الشاعر فؤاد حداد ،فقد كتب لسيد مكاوى بعض الاعمال الابداعيه منها (تحيا مصر) وتقول الكلمات (يادعاء المؤمنين..بدر بينور سنين يا أحن من الحنين ..أم كل الانسانيه مصر) ثم قام بعمل اّخر،وهو برنامج من ثلاثين حلقه باسم(نور الخيال وصنع الأجيال)وصفا للقاهره بعراقتها من خلال الاذاعه،وما مر بها من أحداث عبر التاريخ،وصراعاتها.مع الوان الأحتلال مع تعددها من محن وانتصارات،وقام سيد مكاوي بتلحين الأشعار وقدمها في شكل الشاعرالراوي على مدى الحلقات الثلاثين وكانت هناك مفاجاّت في هذا العمل الكبير،وهي تعدد الأصوات الغنائيه ،وكانوا من الأصوات الجديدة والمواهب الشابة آنذاك التي شاركته في الغناء.كان لهذا البرنامج مقدمة غنائية شهيرة  بعنوان (أول كلامي سلام)، وكانت ضمن الأغاني في هذا البرنامج كذلك أغنية من اشهر اغاني سيد مكاوي وهي (الأرض بتتكلم عربي) ويعتبر هذا العمل عملا ملحميا مليئا بالتراكيب اللحنية الشيقة والمعقدة والمركبة، ومرجعا هاما لكافة الملحنين الجدد للاستفادة منة في كيفية التسلسل اللحني وجمال  النقلات الغنائية. قام باخراج العمل فتح الله الصفتي .

 قبل الختام

سيد مكاوي ظاهره سوف تتكرر طالما ظل تراث الموسيقي الشرقيه باقيا بنغماته وبتطريبه وبحالة السلطنه والانتشاء التي تغمر المستمع الشرقي او ما يطلق عليهم تعبير (السميعه) وستبقي الكثير من الحانه تشجى وتسعد الملايين ،وسوف تعيش موسيقى سيد مكاوي كما ظلت تعيش موسيقى سيد درويش ومحمد القصبجي ورياض السنباطي، فالأذن الشرقيه ان كانت تستمتع بالنغمات الحديثه لعبدالوهاب والموجي وبليغ ،الا انها لم تفقد طربها للألحان التي داعبت اسماعها منذ سيد درويش والحان عبدالوهاب القديم .وهناك قول مأثور لحكيم ذات زمان يقول ( الشرق شرق والغرب غرب ،ولن يلتقيا ) الا ان تلك المقوله حظيت باعتراضات كثيره باعتبار أن المجتمع الأنساني وحده واحده ،وان العالم اصبح الآن قرية صغيرة بتطور ادوات الاتصال والتواصل ،ولذلك سيظل الصراع قائما فقط بين القديم والجديد والبقاء في االنهاية للأصلح والأنفع والأجدى لخدمة الانسان والارتقاء بمشاعره للأنقي والأجمل .

 تكريم سيد مكاوي

وختاما نال سيد مكاوي وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى في مصر. ووسام صدام للفنون من الدرجة الأولى في العراق. ونال في بلاده أيضا شهادات تقدير من جهات رسميه وفنية كثيرة، كثيرة ومتعددة، ولا زال حتى الآن يحظي من دول ومؤسسات بالوان عديده من التكريم فالأصالة دائما لها جمهور،وتحظى بالكثير من الوان التقدير والترحيب والاعجاب .