نداء الثلج

قصة قصيرة لجاد الحاج

شراشف ومخدات وورق تواليت واكياس نايلون. موريس وأمه منهمكان في ترتيب الغرف. تبادلنا تحية سريعة هتافاً وتلويحاً على وعد العناق والقبل بعد الشغل. اخذت مفتاحي من علاقته فوق النضد وصعدت الى الرقم تسعة. عيناي سجّلتا بارتياح ان كل شيء مثلما أتذكره. اللوحات الزيتية على طول الدرج وفي كل الغرف تتغزل بالشاطئ والمرفأ القديم والبيوت المتلاصقة في الشوارع الضيقة، راسمها حريص من دون مبالغة، لكنه لا يأنف اللهو والفكاهة، فهنا ظهر نادلة تحمل عالياً صينية كركدن صكأنهش حيّ، على كتفها العارية وشم حورية بحر، وهناك صيّاد يضحك عن ناب واحدة أشبه بصنارة، وآخر يدهن زورقه بلون البحر، والمحارات والاصداف وفتافيت الشباك في الوان تكسوها الشمس بضوء لا يخفى على عين بصيرة.

الدرجة الرابعة ما زالت تئن تحت وزن الحقائب كأنها ورك مشعور. مدام لانغلوا تتهمها بالشيخوخة المبكرة، وموريس يلوم امه على ترددها العتيد في إصلاحها، وانا اريدها ان تئن، كي نتعارف من جديد . ألقيت حقيبتي على السرير، فتحت مصراعي النافذة، حييت شيخ البحار وسقوف القرميد المندرجة حتى الشاطىء. ثم تحممت، غيّرت ملابسي، علقت الـ مينولتا في كتفي، وانطلقت مثل نورس إلى مطعم صلوكوانش جائعاً لحدّ المغص.

لا لسبب قررت اليوم ان اصوّر سيليست وإيمانويل ومارك فور وصولي، وربما آخذ لقطة لميلاني واخرى لمائدتي المفضلة المحشورة قرب البيانو ، وتمنيت ان يكون إيمانويل  عازفاً لضيف شرف مثل شارل أزنافور، جوني هاليداي، باربرا، جاك بريل، ميراي ماتيو، وغيرهم ممن زاروا  لوكوان وغنوا ووقّعوا على عملات وفواتير، وتشكشكت صوَرهم فوق ذلك الـ ص كريلش البنيّ العجوز.

في زحمة الغداء يدخل إيمانويل، فائح العطر، شعره الشائب مائل الى الزرقة، يرتدي بدلة بيضاء، حاملاً الى صدره البارونة السيامية ميلاني، ذات العينين الذهبيتين. يتبختر بها بين صفّي الموائد، يتحرّى الحضور بربع ابتسامة، يلفته زبون طازج، فينحني فوق مائدته هامساً: »قل بونجور لميلاني«، ويمضي قبل ان يستوعب الزبون أن صاحب المطعم دعاه للتشرّف بقطته الغالية. في زاوية الصدر أقام إيمانويل مقعداً مخملياً أحمر، عالي الظهر، محفور الخشب، يحتله، يردف الساق على الساق، ويمسد وبر ميلاني بحنان  فيما الحركة على أشدها بين المطبخ والسفرة. مارك في ذروة تعامله مع الطلبات المنشورة فوق فرنه المشتعل، يتعرّق ويرندح عموماً من اغاني براسنز. سيليست تحمل ستة أطباق دفعة واحدة، وتكرج بها مثل باليرينا . يقع الزبائن في هوى سيليست وعمّها إيمانويل وشقيقها مارك، لأنهم جعلوا صلوكوانش مضافة مضيافة بحق. مِن طلب الوجبات وتقديمها، الى الترحيب الحميم بكل واحد منهم، الى تذكر اعياد مولد بعضهم بكعكة وشمعة ولحن وتصفيق. أتمثيل تلك الحرارة الطيبة وخلفها »خطة« للتسويق والتشويق، أم مجرّد إغواء من حواضر البيت؟ لعل الجواب النهائي يكمن في الفاتورة، فأسعار لوكوان اقل بنسبة عشرين في المئة عن معظم مطاعم الشاطئ، والطعام دائماً على قدر التوقعات.

يتحقق الإقبال الكثيف على صلوكوانش حصراً في فترة المهرجانات، لأن معظم المصيفين لاحقاً يؤمون مطاعم الرصيف البحري، وعملية نقل صلوكوانش الى ذلك الرصيف تفوق إمكانيات ايمانويل وشريكيه، ناهيك بخسارة رواده المقيمين في صلوكانيهش على مدار السنة، وهم يشكلون الدعم الدائم لاستمرارية المطعم. مع ذلك، ومع ان صلوكوانش يحقق ارباحاً محترمة، لطالما ذكر مارك وسيليست أقرباء لهما يحاولون إقناعهما بنقل صالمصلحةش الى منتجع للتزلج في النمسا. كلما استضافاني الى كأس في آخر السهرة يدور الحديث عن مباهج التزلج والصيف اللطيف في الجبال العالية، مما يثير اكتئابي ولا أقول شيئاً، لكن إيمانويل يحمل بارونته مبشبشاً: »أنا خارج إلى الشمس« يقولها في بطء أليم، فالشمس بالنسبة إليه جنوب فرنسا، وجنوب فرنسا شمس دائمة ولو الدنيا ليل، ولو رياح الميسترال تبعثر الشاطئ والمدينة. لكن، وعلى رغم مراسه المكابر، وجدت في رفضه فكرة الثلج تحالفاً غير مباشر مع رغبتي في بقاء صلوكوانش حيث هو. ولطالما أغاظني خلال تلك الجلسات أن مارك وسيليست لم يخطر لهما مصيري لو رحلا. ولو! كيف لهما أن يحلما بسعادة تجعلني تعساً؟ هل أنا مجرّد عابر سبيل يأكل ويشرب ويدفع الفاتورة ومع السلامة، أم انا من أهل البيت؟

وحلّ اللامفر منه.

أغلقتْ شرائح الصفيح بابه الأزرق، ذبلت وتهدلت تعريشة الابواق البرتقالية التي كانت تكلل واجهته، وبانت أسلاك الإضاءة مهلهة بلا مصابيح  صم غ ل قش . هل نسي الجميع إخطاري؟  ام لم يقصدوا صدمي؟ أم اعتبروا كلّ المطاعم مطاعم وما أناشيدي عن روعة صلوكوانش سوى صوت من كورس طالما أنشده سواي؟ كيف لم يفهموا ان صلوكوانش بيتوتتي، أربع سنوات متوالية، ظهراً ومساءً طوال ايام المهرجان، أدخل مطبخه، اذوق الصلصات والسلطات وأجود على مارك باقتراحاتي الثمينة. من أين لهم ان يفهموا ان تسكعي الواسع لم يحررني من حاجتي الى مكان أعرفه ويتذكرني. أي سرير في فندق، أي زاوية في مقهى، أي مقعد في حديقة، حيثما يتكرر حضوري أحلل فسحة لي واحل فيها، فإذا فقدتُها بكيتها كبدوي ُرحّل.

   دخلت البيسترو المجاور. العرقُ البارد ينساب على عنقي والجوع يتكّتل مثل قنفذ في احشائي. واضح غياب صلوكوانش علي وحضور البيسترو، فعلى حجة الوردة طالما شربت العلّيقة  كما يقول المثل، إذ طالما راود البيسترو زبائن لوكوان قبل مواعيد وجباتهم لتناول المقبلات ،او بعدها وجباتهم لأكمال السهرة. لكن، بدل الإزدحام امام البار ليس في البيسترو سوى عاشقين يؤديان مشهد الغوص في العيون وضرب أوتار الوصال المحلوم بأصابع متشابكة، وقرب مدخل المرحيض ختيار  يعالج قرن كرواسان كأنه يعزف هارمونيكا .

»أووو!« صاح صبحي التونسي باسطاً ذراعيه ، ولوى عنقه ووشح إبتسامته بأسى ، نصفه على الإنخفاض السافر في دخله، والنصف الآخر على لوعتي الواضحة :صأصبحتَ يتيماً يا العرْبيش قال صبحي، وسكب لي من باب الطوارىء دمعة كونياك، بلهفة مسعف يهرع الى مصاب.

ماذا جرى؟

سيارة دهست ميلاني. الحزن عليها قتل إيمانويل بالذبحة القلبية. مارك وأخته رحلا إلى مايرهوڤن.

أدلى صبحي بعباراته الثلاث كأنه يعد نقوداً على النضد، وتناول من رف البار بطاقة بريدية: متزلجة طائرة على أهبة الهبوط فوق سفح أبيض. على ظاهرها  بخط سيليست كما اذكره من فواتيرها : »هذا عنوان زاويتك الجديدة. سميناه »لوكوان ديمانويل«. تعال في أي وقت. نحن على خطوات من فندق إليزابيث. لا تدعنا نشتاقك. تحيات وقبلات سيليست ومارك.

ملاحظة: »العرش معنا . صمدناه بتمثال قطة سيامية تشبه ميلاني. لن تشعر بغربة!« تنفست قليلاً، كأنني كنت ممسكاً بيد عزيز يحتضر واعتراها دفء خفيف. شربت على مهل ناوياً إبادة جوعي. قال صبحي إن سيليست ومارك واقعيان في البيزنس بعكس المرحوم إيمانويل. ارادا صرف سنوات محددة في العمل الشاق لجني مبلغ يمكنهما من تحقيق ما يصبوان إليه. سيليست مصممة أن تصبح ثرية متعجرفة كي يتزوجها ميلياردير على حافة قبره،  فترهقه في السرير حتى الموت وترث أمواله وتنصرف الى حبّ من تشاء ساعة تشاء. الحب يا العرْبي يستحق كل مالك وكل وقتك وكل اهتمامك وكل لحظة من حياتك بحسب سيليست، ولا يمكنك ان تحب كما يجب إن لم تكن مليارديراً، فهمتني؟ اما مارك فينوي شراء محترف للزوارق الشراعية. من صغره يحبّ الخشب والكتان وما شغل المطبخ بالنسبة إليه سوى وسيلة لغاية. إيمانويل شعر بجدية سيليست ومارك بالنسبة الى النمسا فبدأ يعمل كمجنون كي يبرهن لهما أن صلوكوانش مؤهل لجني المال الذي يحتاجانه شرط ان يبقيا بعد سنتين حتى يتقاعد. صار يأتي مبكراً، يركن ميلاني في العرش وينصرف الى الإتصال بوكلاء السفر والفنادق. طبعاً، تحركت بحيرة الشتاء، وانفرجت على فم إيمانويل إبتسامة لم يكن يمسحها حتى في نومه. ولعلك تعرف، أسسا »لوكوان ديمانويل« في مقصد أغنى أغنياء العالم، ينزلون في فندق إليزابيث، وعلى بعد خطوات تحتفي بهم شطارة سيليست وروائح الأعشاب التي يعلفها مارك لحومه ومعجناته.

هذه قصص اعرفها يا صبحي!

ابتسم صبحي بحزن، وحشر فوطة بيضاء في الكأس واستلّ من لولبتها حشرجة انتهت بنأمة خافتة، ورفع الكأس الى المصباح متأملاً بريقها، ثم صفّها الى جانب رفيقاتها، واشعل سيكاريللو، سحب منه نفساً وأطلقه مثل قمع نحو السقف. »آلور، كان إيمانويل يعاون مارك ورأت سيليست ميلاني تنسل من الباب، فصاحت نو! لكن لا حول ولا… إيمانويل أبكانا على قطته. حبه لها لمس قلوبنا وأوقف قلبه«.

زِد كأسي يا صبحي.