دراسات المستقبلات: إشكالية التنبوء/الإستشراف

أ.د. مازن الرمضاني*

لا تختلف دراسات المستقبلات عن سواها من الدراسات ذات العلاقة بحقول المعرفة الاخرى. فهي، كهذه الحقول، تنطوي على جهد هادف يسعى إلى تحقيق غاية محددة ذات علاقة مباشرة بالموضوع الذي تتناول مستقبله.

ولتحقيق هذه الغاية فأنها تستخدم ، ومنذ بداية تبني التفكير العلمي في المستقبل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، مقاربات منهجية تتميز بخصائص هيكلية محددة ولكن متباينة.

فابتداءٌ، انتشرت خلال سنوات ما بعد هذه الحرب، ولاسيما بين المستقبليين الامريكيين، رؤية فكرية قديمة الجذور افادت أن المستقبل ينشأ من الماضي ويكون، في الوقت ذاته، محكوما به. واتساقا مع هذه الفكرة انتشرت بين هولاء المستقبليين وسواهم أيضا مقاربات استكشافية/ اتجاهية جعلت من التنبوء جوهرها.

ومن اجل ذلك تنطلق هذه المقاربات من المعرفة المتوفرة في الحاضر عن كيفية التطور التاريخي لموضوع محدد سبيلا لتحديد الإتجاه )بمعنى المسار( الاكثر أهمية ووضوحا، الذي اقترن به جراء هذا التطورفي ماضي الزمان، ومن ثم تعمد إلى اسقاط هذا الإتجاه على المستقبل للتنبوء رياضيا بالمشهد الذي سيقترن به هذا الموضوع.وإلى ذلك يصار عادة إلى استخدام ادوات كمية: كالبيانات الرقمية، والحسابات الرياضية والقياس، والمعادلات… الخ. ومن هنا تندرج هذه المقاربات تحت عنوان المقاربات الكمية.

ولان هذه المقاربة تسحب ما كان في الماضي على ما سيكون في المستقبل على وفق الحركة الدائرية والوتيرة المتكررة، فأنها تجعل »… المستقبل، كما يؤكد خير الدين حسيب، )وكأنه( قدر محتوم قد تحدد سلفا )وأن( كل المطلوب هو الكشف عنه في ما يشبه النبوءة التي يستسلم لها البشر..«..

وتختلف الدراسات المستقبلية التي تنطلق من هذه المقاربة عن سواها في أن عناوينها تكون في العموم حاملة لكلمة المستقبل بصيغة المفرد )The Future(، وكأنها بهذا تريد الإيحاء أن المستقبل لا يقبل الإنفتاح إلا على مشهد واحد.

وبالمقابل تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية وفي فرنسا ابتداءٌ رؤية فكرية أخرى كانت على النقيض من الرؤية الحتمية والإحادية للمستقبل. فتاثرا في وقته بالفلسفة الوجودية لسارتر قال دعاة هذه الرؤية وبما يفيد أن المستقبل يتميز بالإنفتاح على مشاهد بديلة ومتعددة وقابلة للإستشراف، وأن الإنسان هو الذي يختار منها ما يريد، وأنه بالتالي هو الذي يصنع المستقبل ولا سواه.

وبهذا الصدد يؤكد خير الدين حسيب: »إن المستقبل لن يكون تجسيدا لتنبوء يجتهد بعض الباحثين في اجرائه… إن مثل هذا التنبوء يهمل ضمنا الطبيعة الإنسانية وخياراتها وقدراتها الابداعية. وحتى في الظروف التي تتسم بالاستقرار…يسعى الإنسان إلى رسم تصورات بديلة لما يمكن أن تكون عليه الاوضاع المستقبلية ليختار في ضوئها ادوات للاحداث كنوع من التغيير تتفق مع طموحاته واماله في مستقبل أفضل«.

ويرى المستقبلي الامريكي، إدوارد كورنيش، ان هذه رؤية للمستقبل كمشاهد متعددة عُدت »… تحولا هاما في وجهة النظر الغربية المعتادة عن المستقبل«. سيما وأنها أدت إلى الإنتقال بالتطبيق العملي للتفكير العلمي في المستقبل من التنبوء بمستقبل وحيد وحتمي إلى إستشراف مستقبلات بديلة، وكذلك إلى الإنتقال من الاخذ بالمقاربات الكمية الى تبني المقاربات الكيفية، أو إلى الجمع بين المقاربات الكمية والكيفية للإستفادة من مزاياهما سبيلا لإنتاج دراسات مستقبلية ذات مصداقية وجدوى عملية.

 وقد ساعد على هذا الجمع إنتشار إدراك بين المستقبليين مفاده أن الاعتماد على الإجراءات المنهجية لمقاربة واحدة فقط لا يُعد ضمانة كافية لتامين إستشراف دقيق لمشاهد المستقبل. فالمقاربة التي تتأسس، مثلا، على ما يفيد أن الحقائق التي تحكمت في انتاج صورة الماضي ستفضي لاحقا إلى تحديد صورة المستقبل تتناسى ان الماضي، بمعنى التاريخ، لا يكرر ذاته، وأن مسيرة الحاضر نحو المستقبل لابد أن تقترن بمفاجآت تجعل مخرجاتها أي صور المستقبل، مختلفة عن صور الماضي والحاضر بالضرورة. وبهذا الصدد يؤكد المستقبلي الامريكي هرمان كان : »إن المستقبل الاكثر غرابة هو الذي يخلو من المفاجئات«.

وتفيد مضامين المقاربات الكيفية أنها من نوعين: بالغ التبسيط وشديد التعقيد. فأما عن الاول فهو يكمن في استطلاع راي أحد الخبراء أو مجموعة منهم بشأن مستقبل موضوع محدد أو أحد جوانبه. وأما عن الثاني فهو يقترن بإجراءات منهجية تتميز بقدر عال من التغقيد. ومثالها مقاربة دلفي. فهذه تعمد إلى إستخلاص اراء عدد من الخبراء بشأن مستقبل ثمة موضوع عبر عملية أساسها تكرار التفاعل الهيكلي غير المباشر بين الخبراء وعلى وفق جولات متعاقبة زمانا ومتجددة مضمونا سبيلا لتامين اجماع كافة أو اغلب الخبراء على رأى محدد بشأن المشاهد البديلة لمستقبل موضوع الاهتمام.

وتُعد المقاربات الكيفية مجدية خصوصا عندما يتم تطبيقها على مواضيع لا تقبل توظيف المقاربات الكمية كالصراعات والحروب الاهلية والدولية. بيد أن الاخذ باراء الخبراء دونما تمحيص و/أو الانطلاق من رؤى ذاتية واحكام شخصية انطباعية يسحب عن هذه المقاربات كثيراً من الدقة العلمية مثلا.

وقد أفضى الانتشار العالمي لثلاثة رؤى أساسية إلى تراجع الاخذ بفكرة المستقبل الاحادي والحتمي لصالح فكرة المستقبلات البديلة: الاولى قالت برفض إستعمار المستقبل، بمعنى رفض تسويق رؤية ثقافية- سياسية محددة على العالم ترمي إلى خدمة اهداف القوى التي تعمد إلى تسويقها.أما الثانية فقد قالت بإسترجاع المستقبل، والتي دعت إلى بناء عالم لا يقترن مستقبله بمشهد واحد يخدم مصالح مجموعة من الدول المؤثرة عالميا وأنما بمشاهد متعددة تخدم مصالح دول عالمي الشمال والجنوب معا. أما الرؤية الثالثة فهي التي قالت بالتحدي والإستجابة ودعت إلى الإرتقاء بالإستجابة إلى مستوى التحدي عبرالاخذ بمستويات متعددة من الحركة الهادفة والفاعلة.

وفي ضوء اقتران المقاربات الكمية بالتنبوء )Prediction( واقتران المقاربات الكيفية بالإستشراف )Forecasting( تجدر الإشارة إلى ان التنبؤء والإستشراف مفهومان يلتقيان ضمنا في نزوعهما العلمي نحو إستكشاف المستقبل. بيد إنهما، مع ذلك، يختلفان جذريا عن بعض. ومع ذلك يُصارإلى إستخدامهما من قبل أعداد من المستقبليين، هنا وهناك، وسواهم ايضا على نحو متداخل، ومنّ ثمّ خاطىء. وينسحب هذا الإستخدام حتى على مستقبليين محترفيين ومشهورين. فمثلا يتخذ المستقبلي الامريكي، نيكولاس بريخر من مفهوم التنبوء عنوانا لكتابه، بينما ينصرف مضمونه إلى محاولة بناء نظرية عامة للإستشراف.وعنوان كتابه هو:Predicting the Future: An Introduction to the Theory of Forecasting

وينسحب ما تقدم، في الاقل، على عدد من الدراسات العربية ذات البعد المستقبلي. فعلى الرغم من ان مفهوم الاستشراف يجد انتشارا عربيا واسعا سواء على صعيد هذه الدراسات وسواها، إلا أنه يستخدم أيضا، وكثيرا، بدالة مفهوم التنبوء.

 واتساقا مع هذا الإستخدام الخاطىء، تذهب أيضا نشرات الاخبار التي تنقلها الإذاعات ومحطات التلفازالعربية وسواها، إلى استخدام كلمة إستشراف في معرض حديثها عن الاحوال الجوية لدولة محددة أو لمجموعة منها في يوم محدد. فهذه النشرات تؤكد مثلا إن غدا سيكون ممطرا او مشمسا أوغائما أوصحوا. وهي بهذا التاكيد تعمدعمليا إلى التنبوء الجازم بما ستكون عليه هذه الاحوال الجوية وليس إستشراف إحتمالاتها.

 وعلى الرغم من توظيف مفهوم التنبوء بدالة مفهوم الإستشراف وبالعكس، إلا أن هذا التوظيف لا يلغي تباينهما على صعد محددة، وكالآتي خصوصا :

أولا تباين معطيات الإنطلاق.

 تتباين منطلقات دراسات التنبؤء والاستشراف عن بعض. فبينما تنطلق الاولى من المعطيات الكمية التي يقترن بها الحاضر والتي لا يمكن التعبيرعنها إلا حسابيا، كعدد سكان أحدى الدول في زمان محدد ، تذهب الثانية بالمقابل الى توظيف معطيات كيفية لا تقبل التعبيرعنها احصائيا كإرتفاع أوأنخفاض الروح المعنوية لاحد المجتمعات أو قواته المسلحة مثلا. وجراء هذا التباين، يُعبر التنبوء عن مقاربة منهجية كمية لا تجعل من إستكشاف المشاهد المتعددة للمستقبل هدفها، هذا على العكس من الإستشراف، الذي يُفيد بمقاربة منهجية كيفية تحرص على أن يكون هذا الإستكشاف هو غايتها النهائية.

ثانيا، تباين نوعية الاسئلة والاجابة.

تنطلق دراسات التنبوء والإستشراف من تساؤلات مختلفة بشأن حالات مستقبل مواضيع أهتماماتها. فبينما تتساءل دراسات التنبؤء مثلا عن : كم سيكون عدد سكان الدولة )س( في الزمان )ًص(؟ تتسائل دراسات الإستشراف مثلاعن: كيف يحتمل أن تكون نوعية سكان هذه الدولة )س( في الزمان )ص(؟.وبهذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أنٌ الاسئلة المتباينة تفضي بالضرورة إلى أجابات مختلفة. لذا، فالسؤال، الذي يبدأ بكلمة )كم( يفضي إلى إجابة قاطعة وجازمة بشأن المستقبل، كالقول أنٌ الحالة الجوية ستكون غدا أما مشمسة أو ممطرة أو غائمة ولا سواها. ويٌجسد مثل هذا القول، الذي يُعد تنبؤيا، تلك الخصائص، التي تتميز بها كل مقولة جازمة، هي : غياب الشرطية، والإحتمالية، فضلا عن النزوع إلى التعميم، وبمخرجات تفضي إلى انغلاق مفهوم التنبوء على مشهد مستقبلي محدد دون سواه.

وبالمقابل يقدم السؤال الذي يبدأ بكلمة )كيف( إجابة مختلفة، ولكن غير جازمة، وبدالّة المعادلة الاتية : إذا أقترن الزمان الحاضر )ٍس( بالمعطيات )أ ب ج…الخ(، سواء كانت هذه سلبية أو إيجابية، فأن تاثيرها قد يفضي إلى أن يقترن المستقبل في الزمان اللاحق )ص( بمشاهد بديلة تتباين عن بعض من حيث المضمون. وعلى الرغم من ان الرأي يختلف بشأن عدد هذه المشاهد، إلا أن الاتجاه السائد يذهب الى تحديدها بثلاثة مشاهد مختلفة المضامين: إتجاهية وإصلاحية وتحولية. وجميعها تعبرعن تاثيرتلك القوانين التي تتحكم في تطور الحياة في كل مكان وزمان، هي قانون الإستمرارية وقانون التغيير وما بينهما.

 وفي هذه المعادلة التي تفيد بالعلاقة الطردية الموجبة أوالسالبة بين معطيات الحاضر وأحتمالات المستقبل، تُعبر كلمة )قد(، أو ما شابه ذلك، عن حقيقة مفادها أن المستقبل لا يقبل الإنغلاق على مشهد واحد، وإنما ينفتح على مشاهد متعددة ومختلفة. وقد سبق للمستقبلي الامريكي، ألفين توفلرمؤلف الكتاب المشهور: صدمة المستقبل، إنٌ قال : »… ليس هناك إنسان… يستطيع أنٌ يدعي العلم التام بما سيحدث غدا… وهذا يعني أنٌ أي مقولة عن المستقبل لابد أن تكون مصحوبة بسلسلة من الكلمات المقيدة )لها( مثل : )لو( أو )ثمة( أو)لكن(..«.

وفي ضوء ما تقدم، نرى أنٌ من يربط مفهوم التنبوء بالمقولة الإحتمالية، والإستشراف بالمقولة الجازمة، يخطيء علميا. ذلك لان دراسات الإستشراف لا تنتهي بتقرير حدوث أي من المشاهد البديلة التي تعمد إلى دراستها وتقارن فيما بينها سيما وانها في طبيعتها دراسة للمشاهد الممكنة والمحتملة للمستقبل.وهي بهذا تختلف عن دراسات التنبوء التي تنتهي إلى تقرير حدوث مشهد معين دون غيره. والخطأ العلمي ينسحب أيضا على القول الذي يؤكد أنٌ الإستشراف اضيق من التنبوء من حيث المدى ولكن أكثر تحديدا منه. إنٌ الصحيح علميا هو أنٌ الإستشراف أوسع مدى من التنبؤء، ولكنه أقل تحديدا منه.

ثالثا التباين في المدى الزماني

على العكس من دراسات التنبوء التي تجعل، في العموم، من المستقبل المباشروكذلك القريب محورها الزماني، تذهب دراسات الإستشراف إلى أنٌ يكون زمان المستقبل المتوسط و/أو البعيد منطلقها الاساس. ويفضي هذا التباين الزماني إلى أنٌ يكون دور هذه الدراسات بنوعيها في تشكيل مشاهد المستقبل هو الآخر متباينا. فأزمنة المستقبل المباشر والقريب هي أزمنة محكومة بمعطيات الحاضر سلبا أو أيجابا، وتُعد بالتالي امتدادا تلقائيا له. ومرد ذلك أن التغيير في الحاضر يحتاج إلى فترة ليست قصيرة من الزمان حتى تتبلور مخرجاته وتفضي إلى صور في المستقبل تختلف عن صور الماضي والحاضر. وعلى خلاف هذه الازمة، يٌعد زمان المستقبل المتوسط والبعيد كافيا لكي تتبلور مخرجات الافعال التي يتم اتخاذها في الحاضر وهو الامر الذي يساعد على جعل عملية إستشراف مشاهد المستقبل اكثر سهولة، والتفكير خارج الصندوق أعمق ابداعا.

لذا لنعمد إلى تجنب البقاء اسرى التنبوءومن ثم ردود الافعال القاصرة والمتاخرة. ولنذهب إلى الاخذ بالاستشراف لانه ضد العشوائية ويتيح بالتالي بلورة رؤى واقعية يمكن السيرعلى هديها لصناعة المستقبل.

—–

*استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات