سُكّرٌ ولكن

سهير آل ابراهيم

»من المستحيل التفكير في انتاج السكر بدون التفكير في تجارة العبيد«! هذا ما أكده منشور صادر عن جامعة مشيغان الامريكية

William L.Clements Library; WLCL.سلط ذلك المنشور الضوء على الحقبة التي تزايدت فيها زراعة قصب السكر لأجل رفع مستويات انتاج ما كان يعرف آنذاك بالذهب الأبيض؛ السكر!

عُرف السكر في أوروبا اول ما عرف بانه نوع ثمين ونادر من التوابل، ولكن بعد انتشار زراعة قصب السكر في حوض البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم في جزر المحيط الاطلسي، او ما كانت تُعرف بجزر الهند الغربية، اصبح السكر متاحاً لعدد اكبر من الناس، بعد ان كان استهلاكه مقتصرا على الاثرياء.شهد استخدام السكر تحولا كبيرا في الفترة الممتدة من منتصف القرن السابع عشر الى منتصف القرن التاسع عشر للميلاد، اذ تغير من مادة لا يقتنيها ويستهلكها سوى الاثرياء الى واحدة من الكماليات الواسعة الاستهلاك في عموم المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية.وبحلول نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، اصبح يشكل جزءاً مهما وضروريا في غذاء الناس هناك، بمختلف طبقاتهم الاجتماعية.

خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، نقلت الدول الأوروبية زراعة قصب السكر الى مستعمراتها في جزر الهند الغربية في المحيط الأطلسي.ويذكر ان اول مستعمرة بريطانية استُخدمت لزراعة قصب السكر كانت جزيرة باربَيدوس الواقعة الى الشمال من قارة أميركا الجنوبية، تلتها في ذلك جزر اخرى في البحر الكاريبي الواقع بين القارتين الأميركيتين، مثل غرينادا وجامايكا وترينيداد.اصبح قصب السكر المنتج الرئيسي في تلك الجزر، بل واحتل فيها بالتدريج الاراضي الزراعية بأكملها!

كان انتاج السكر مهما جدا بالنسبة للمملكة المتحدة كإمبراطورية كانت تعتمد على التجارة بشكل كبير.خلال القرن التاسع عشر، كان السكر الوارد من المستعمرات البريطانية يمثل القوة المحركة للعمليات التجارية على جانبي الأطلسي.وكانت أهمية السكر تلك سببا في )ازدهار( تجارة العبيد!

ظهرت الحاجة الى الايدي العاملة مع تزايد انشاء مزارع قصب السكر وتوسعها، وبالنتيجة نمو واتساع الحركة التجارية التي اصبح السكر عاملا محوريا فيها.كانت عملية الحصول على السكر شاقة الى ابعد الحدود؛ بدءاً من زراعة القصب والعناية به، الى حصاده واستخلاص السكر منه عن طريق هرسه وغلي عصارته.وكان العبيد يساقون بقسوة الى العمل.بالنسبة للتاجر الاوروبي. كان العمال الافارقة هم الخيار الأمثل لتحقيق اعلى الأرباح بأقل كلفة؛ فمناخ جزر الهند الغربية لا يختلف كثيرا عن مناخ افريقيا، ولذلك كان للعمال الافارقة القدرة على تحمل حرارة الطقس وارتفاع نسبة الرطوبة فيه.كما انهم كانوا يعملون لساعات طويلة جدا وبلا اجور لان سيدهم الاوروبي كان قد اشتراهم كعبيد.كان مراقبو العمل يجلدون العبيد بالسياط لحثهم على العمل بدون توقف.ولم يكن هناك تمييز بينهم، فالعمل كان واجبا على الجميع من رجال ونساء وأطفال!

كانت نسبة الموت مرتفعة بين العبيد نتيجة لظروف العمل القاسية، اذ تذكر المصادر ان الكثيرين منهم كانوا يموتون بعد أقل من ثلاث سنوات من وصولهم للعمل في مزارع قصب السكر.وهكذا كانت الحاجة موجودة دائما لإحضار المزيد منهم، عبر ما كان يعرف بمثلث التجارة الأطلسي.

كانت السفن تنقل البضائع الأوروبية الى الساحل الغربي لأفريقيا؛ شرقي المحيط الأطلسي، لمبادلة تلك البضائع بالعبيد.ثم تتوجه السفن المحملة بالعبيد الى غرب المحيط الاطلسي، حيث كانت توجد مزارع قصب السكر، لتعود تلك السفن بعد ذلك الى أوروبا محملة بالسكر بشكل رئيسي، اضافة الى التبغ.في عام 1750 كانت السفن العائدة من جامايكا الى أوروبا محملة بعشرة آلاف طن من السكر، وقد وصلت تلك الكمية الى مليوني طن عام 1800م! تزايد الانتاج كان يعني ازدياد الحاجة الى اعداد اكبر من العبيد.

لم يقم الأوروبيون أنفسهم بأسر العبيد، وإنما كان يقوم بذلك العمل الشنيع تجار العبيد من الافارقة أنفسهم، بعد ان اصبحت تجارة العبيد تجارة مربحة.اَي شخص يقع في الأسر كان يباع كعبد، لا يختلف في ذلك الرجال عن النساء او الاطفال!

مما ساعد على انتشار تجارة العبيد في افريقيا في تلك الفترة، وقيام بعض الافارقة بأسر آخرين من أبناء جلدتهم وبيعهم، هي حاجة الملوك الافارقة الى البنادق والبارود، والتي كانوا يحصلون عليها من صانعيها الأوروبيين.وبالمقابل كان الاوروبي يحتاج الى أيدٍ عاملة رخيصة للقيام بالعمل الشاق لإنتاج السكر، وهكذا كانت تتم مقايضة الانسان بوسائل قتل الانسان! المؤلم في الامر ان العبيد كلما اجتهدوا اكثر في العمل في انتاج السكر، كرها لا اختيارا وطوعا، وكلما أنتجوا منه المزيد، كانوا بالنتيجة سببا في وقوع المزيد من الافارقة ضحايا في شباك تجار العبيد!

تذكر بعض المصادر ان قسوة ظروف العمل في مزارع قصب السكر كانت تدفع بعض العبيد الى الانتحار.وكان انتحارهم يثير غضب مالكيهم، لان ذلك كان يشكل خسارة مادية بالنسبة لهم، الا وهي خسارة المبلغ الذي دُفع ثمنا لذلك العبد.بدأ المالكون الاوربيون يفكرون ويبحثون عن وسيلة لمنع العبيد من الانتحار، وطبعا لم يأخذوا بنظر الاعتبار فكرة تحسين ظروف العمل والمعيشة لأولئك المساكين، اذ لم تكن لحياة العبد وانسانيته اي قيمة لديهم.وقد توصلوا الى الحل عندما علموا بإيمان العبيد واعتقادهم بالعودة الى الحياة بعد الموت، فقد كان العبد منهم يظن انه بقتل نفسه ينتقل من حياة الى حياة اخرى يصلها عبر الموت.ولذلك صدرت الأوامر الى مراقبي العمل للقيام بقطع رأس العبد المنتحر وتعليقه امام الاخرين ليقولوا لهم: لا يمكن لهذا العبد ان يعود الى الحياة بدون رأس.فكانت تلك عقوبة من نوع جديد، الا وهي التمثيل بجثة العبد الذي ينهي حياته لجعله عبرة للآخرين!.وبذلك فقد أولئك المساكين الامل الوحيد للخلاص من ظروف العمل الشاقة ومن حياتهم المعذبة.

المفارقة في الامر ان القانون الإنكليزي كان قد ألغى العبودية منذ عام 1772، ولكن ذلك القانون كان نافذا في إنكلترا فقط، ولم يشمل المشرع الإنكليزي المستعمرات البريطانية بذلك.الا أن المطالبة لم تتوقف، بل كانت شديدة داخل البرلمان، بجهود النواب الذين كانوا يناهضون العبودية، وكذلك خارج البرلمان بجهود العامة المؤيدين لهم.وقد أثمرت تلك الجهود عن صدور قانون ألغاء تجارة العبيد عام 1807، ثم تلاه قانون تحرير العبيد عام 1833.

كان المطالبون برفع الظلم عن العبيد العاملين في انتاج السكر، يرفعون شعارات مفادها ان السكر مادة حلوة، لكنها ملوثة معنويا وانسانيا، لانه يرتوي من عرق ودماء ودموع العبيد.وها نحن الآن تفصلنا مئات السنين عن تلك الحقبة الزمنية، ولكننا لا نزال نعيش في عالم غارق بما هو ملوث اخلاقيا، معنويا وانسانيا!