رؤية في الابعاد المستقبلية للخيال العلمي

أ.د. مازن الرمضاني*

لقد تميزت عصور ما قبل الحضارة الصناعية بقصص مستقبلية لم تستند إلى إسس علمية، ومن ثم كانت غارقة في الخيال وبعيدة عن حركة الحاضر وإتجاهاتها المستقبلية. وعلى الرغم من أن مجتمعات القرون القديمة والوسيطة قد شهدت بروز نوع من التفكير الفلسفي، إلا أن هذا لم يؤد إلى إحداث تحول جوهري في نوعية رؤية جل هذه المجتمعات للحياة والوجود. فتشبعها بالتعليل الديني، سواء كان وثنيأ أو توحيديأ، لم يساعدها على تجاوز الحدود التي رسمها هذا التعليل.

وجراء مخرجات العلاقة بين الدين وإنسان المجتمعات القديمة فضلا عن رتابة الحياة والثقافة ومحدودية الفهم والوعي الإنساني، لم يستطع رواة القصص الخيالية أنذاك إدراك جدوى أن تكون لقصصهم علاقة وطيدة مع الواقع، أو قريبة منه.

إن إتجاه الحياة والثقافة في أوربا إلى التحول التدريجي نحو عصر النهضة بإنجازاته العلمية، أدى إلى إحداث تحول نوعي في رؤية الإنسان الذهنية للحياة. ومما ساعد على ذلك تأثير مخرجات رؤى فلسفية أخذت أنذاك، ضمنأ أو صراحة، بفكرة التقدم. وقد أدى ذلك إلى بداية إنتشار قصص إدبية من نمط أخر تميزت بإتجاهها إلى المستقبل وراسمة صورة لمجتمع مثالي، كقصص بعض فلاسفة العصور الوسطى كإفلاطون في جمهوريته والفارابي في مدينته الفاضلة. فبينما دعا إفلاطون إلى بناء مجتمع يتميز بالحكمة والفضيلة ويجعل من العدل أساسأ له، ذهب الفارابي إلى الشىء ذاته. ففي مدينته رأى أن إنتشارالمعرفة والفضيلة ستفضيان إلى تأمين السعادة الحقيقية للإنسان.

وترى المستقبلية الإيطالية، إلينورا بي ماسيني أن هذه الكتابات هي التي فتحت الباب لسلسلة من روايات ستصدر لاحقا وتباعا وستندرج تحت تسمية الروايات الخيالية المثالية أو الطوبائية.

وعلى الرغم من جذورها الاولى، إلا أن هذه التسمية جاءت متاثرة بتسمية ومضمون رواية المدينة الفاضلة ، Utopia للكاتب الانكليزي سير توماس مور والصادرة في عام 1516 باللغة اللاتينية، والتي تمّت ترجمتها إلى اللغة الانكليزية لاول مرة عام 1551. وتدور هذه القصة حول: » جزيرة )إسمها يوتوبيا( تتميز بوفرة في الإنتاج والخير العام، وبنظام للتعليم الوطني، ويعمل فيها كل فرد، وتحكمها فلسفة تقوم على التضحية برغبات الافراد من أجل الصالح العام…«

وقد تعزز إنتشارهذا النمط من التفكير وتطبيقاته منذ نهاية القرن الثامن عشر صعودا. فالثورة العلمية التي صاحبت عصر التنوير، والإعجاب بمأثره وامكاناته في إحداث نقلة نوعية في حياة الإنسان نحو الاحسن، أدت إلى أنتشار تطبيقات التفكير الخيالي على نحوٍ واسع.فخلال الفترة الممتدة بين 1900 1888 مثلا تمّت كتابة 150رواية خيالية أمتد أفقها الزماني إلى عام 2000. وقد عبر هذا الإنتشار عن ذاته من خلال تعاقب صدور روايات خيالية مستقبلية تميزت بنمط من الخيال غير الجامح وكانت بمضامين أما أدبية و/أو علمية. وفيها تحدث أصحابها، من المؤلفين والآدباء والكتاب، مثل أسلافهم، عن تنبؤات ذات علاقة برحلات و/أو اختراعات كانت في زمانهم تعتبر ضربا من الخيال غير الممكن، قبل أن يُبرهن العلم أن كل شئء يُعد ممكنا.

ويرى المستقبلي الامريكي، ويندل بل أن هذه الروايات قد مرت بتحولات مهمة عبر الزمان. ففي البداية كان الإهتمام منصبا على المكان الذي تدور عليه إحداث الرواية. وقد أصبح هذا الاهتمام لاحقا، في نهاية القرن الثامن عشر، ينصرف إلى الزمان الذي يحدث فيه موضوع الرواية. وقد تزامن هذا التحول من المكان إلى الزمان مع تحول أخر. فبدلا من الرؤية التي إفادت أن المستقبل المنشود خارج إمكانية التحقق في الزمان المعاش، بدأت رؤية أخرى بالإنتشار أفادت أن المستقبل المنشود يمكن أن يتحقق خلال حياة الإنسان جراء ما يقوم به من أفعال. إن هذه الرؤية، التي تعود تاريخيا إلى نهاية القرن الثامن عشر قد تشكل الجذر الاول للفكرة التي إنتشرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بين المستقبليين، والتي أكدت أن الإنسان هو الذي يصنع المستقبل.

ومما ساعد على تتابع صدور الروايات الخيالية المثالية، وبضمنه التحولات التي مرت بها، أن مخرجات الثورة العلمية قد أفضت إلى إحداث تحول مهم في كيفية انتاج المعرفة والسعي إلى الحقيقة.

فعلى خلاف المرحلة البدائية من تاريخ الإنسانية حيث كانت الاديان الغيبية والاساطير مثلا هي المصادر التي أعتمد عليها الإنسان القديم لإدراك وتفسير الظواهر التي كانت تحيط به، أدت مرحلة الثورة العلمية وفلسفة التنوير وفكرة التقدم إلى مخرجات جعلت حرية التفكير والبحث العلمي من بين أهم منطلقاتها الاساسية. وجراء ذلك لم تعد الإجابة على أسئلة الحاضر و/أو المستقبل تنطلق من أدوات ما قبل العلم، وإنما من مقاربات منهجية علمية متعددة ومتنوعة.

إن توظيف المقاربات التي يستخدمها العلم للإجابة على هذه الاسئلة افضت، ومنذ الثورة العلمية، إلى تحقيق تحول مهم في كيفية مقاربة الإنسان للمستقبل. فمخرجاتها أدت، أولا ومنذ ما قبل القرن الماضي إلى الآخذ بنمط من التفكير جمع بين خصائص الخيال والعلم، ومن ثم الإنتقال إلى المستقبل عبر أحداث مثيرة. كما أن هذه المخرجات أدت، ثانيا إلى تبلور دراسات المستقبلات، كحقل معرفي يدخل ضمن الدراسات البينية والناجمة عن التفاعل الإبداعي بين مجموعة من حقول المعرفة.

وفي ضوء ما تقدم، يمكن القول أن الخيال العلمي هوعبارة عن مقاربة أدبية مستقبلية لا تستوي وأشكال الروايات الخيالية الاخرى ذات العلاقة، ولا تتماهى كذلك مع الدراسات التي تتخذ من المنهجية العلمية. ولا يلغي هذا التباين أن كلا منهما يستطيع دعم الاخر. فمثلما تستطيع دراسات المستقبلات دعم الخيال العلمي بمقارباتها المنهجية ترصينا له، كذلك يستطيع الخيال العلمي رفد دراسات المستقبلات بما يدعمها. ولا يرد ذلك إلى نوعية تأثيره في تهذيب الرؤى الشعبية عن المستقبل فحسب، وإنما أيضا لانه يتوافر على أمكانية غلق الفجوة بين صور المستقبلات والافعال التي لابد منها لترجمتها إلى واقع ملموس. فكما يؤكد المستقبلي الاسترالي ريتشارد أي سلوتر ينطوي الخيال العلمي على »…أداة أدبية قادرة على مَدنا بالخيارات والإحتمالات التي نستطيع من خلالها الاختيار والمفاضلة، أو بها نبدأ الجدل والنقاش.«

ومنذ الثورة العلمية وروايات الخيال العلمي تقترن بمضامين متنوعة عبرت عن إهتمامات مؤلفيها. ويمكن تصنيفها إلى مستوين عامين ومهمين: الاول، ويعبرعن تلك الروايات التي تناولت الاثر الإيجابي لمخرجات العلم والتكنلوجيا، وبالتالي كان التفاؤل والامل جوهرها. أما الثاني، فهو يفيد بتلك الروايات التي جعلت من الاثر السلبي لهذه المخرجات، ومن ثم كان التشاؤم والخوف، أساسها. وسواء أكانت هذه القصص تفاؤلية أم تشاؤمية، إلا أن المهم هو أنها عمدت إلى استشراف المستقبل، عبر مقاربة قوامها التخيًل العلمي. وتختلف هذه القصص في مدى خضوعها لهذا التخيًل. فمنها ما يخضع له على نحوِ مطلق أو شبه مطلق. ومنها ماهو أكثر انضباطا وارتباطا بالواقع وتطوراته الراهنة والمستقبلية.

وتُجسد روايات اثنين من أبرز رواد الخيال العلمي ثنائية التفاؤل والتشاؤم، أوالامل والخوف. الاول هوالروائي الفرنسي جول فيرن.إما الثاني فهو الروائي الانكليزي هربرت جورج ويلز.

فأما عن جول فيرن، الذي تجسد جهده الروائي في 60 رواية فلقد افادت مضامين رواياته المتنوعة عن خيال علمي متأجج. ولا يختلف الراي على أنه كان مؤثرا في تنمية الوعي الجماهيري بالدور الإيجابي للعلم والتكنولوجيا في بناء الحاضر والمستقبل، فضلا عن توجيه الناس نحو المستقبل وتفتيح أذهانهم لما ينطوي عليه من تطورات.

. فمثلا، وجدت روايته واسعة الإنتشار: من الارض إلى القمر الصادرة عام 1865، تطبيقا لها بعد قرن من الزمان، في الرحلة الفضائية الامريكية عام 1969 والمسماة أبولو1 . فهذه الرحلة تمت بطريقة تماهت تقريبا وتلك التي وصفها جول فيرن في روايته هذه. كما أن عودة الرحلة ابولو 9 من القمر حصلت في موقع يبعد نحو أقل من ثلاثة أميال من الموقع الذي ذكره جول فيرن في روايته ذاتها.

وعلى الرغم من أن الروائي فيرن توافرعلى شخصية تميزت بالتفاؤل، إلا أن معطيات الواقع الاوربي السلبي في نهايات القرن التاسع عشر، ادت به، ولاسيما في أواخر أيامه، إلى أن يتحول من التفاؤل إلى التشاؤم والتشكيك في مدى قدرة التقدم التكنولوجي على بناء عالم افضل، وتوافر الانسان على ارادة صنع المستقبل الامثل.

ومثلما كان جول فيرن، كذلك كان هربرت جورج ويلز ولكن بتأثير كان أعمق وأوسع. فهو يعد أبرز رواة الخيال العلمي في بدايات القرن العشرين. فمضامين إنتاجه، الذي بلغ مائة مؤلف خلال أكثر من نصف قرن ) 1954 1890(، تفيد إنه كان متفائلا بمخرجات العلم والتكنولوجيا، ومأخوذا بفكرة أن المستقبل الزاهر يمكن أن يتحقق. وقد ساعد على ذلك تاثره بفلسفة التقدم التي كانت سائدة في عصره.

وفضلا عن ذلك كان ويلز ساعيا إلى نشر فكرة الإنحياز إلى المستقبل داخل مجتمعه الانكليزي وبجهد لم ترتق إليه، في وقته، أفعال أقرانه من الفلاسفة والعلماء والروائيين الخياليين، كبرتراند رسل ، ، وجورج برنارد شو وجون ديوي وغيرهم. فإنحياز، ويلز، إلى المستقبل كان غير مسبوق، سيما وأن تفكيره في المستقبل انطلق من مقاربة كانت فريدة في وقته. إذ ذهبت إلى تحقيق التكامل بين افكار اجتماعية وتاريخية وفلسفية ومفاهيم، وبين أخرى علمية وتكنولوجية.

وتتوزع مؤلفاته على مستويين، كل منهما يتناول مواضيع محددة، وكالاتي:

فأما عن المستوى الاول فالروايات كانت خيالية علمية. ويرى، طالب عمران، أحد أبرزالروائيين الخياليين العرب، أن )ويلز( في رواية ألة الزمان كان يتخيل: « إن بطله صنع ألة حين يدير عجلتها يستطيع أن يقفز فوق الزمن، يعود إلى الماضي أو يخترق المستقبل لسنين بعيدة، بحسب الجهة التي يدير بها العجلة…وحين ينتقل بطل الرواية إلى المستقبل، فإنه يرى البشر قد تحولوا إلى قبائل بدائية ضعيفة حركتهم خابية وجمالهم كاذب جندوا لخدمة قبائل المرلوك المتوحشة، التي تستوطن الكهوف والسراديب وشقوق الارض، بعيدا عن الضوء ويبلغ به الحزن إلى حد الفجيعة وهو يرى فناء الذكاء البشري وكيف أل أمره إلى الانتحار على يد الإنسان…«

وأما عن المستوى الثاني، فالروايات كانت فكرية علمية. ومنها مثلا روايات توقعات، والاشياء الاولى والاخيرة، ومستقبل الانسانية المرجح، وشكل الاشياء المقبلة، والمؤامرة المفتوحة، ومصير الكيان البشري وغيرها.

وعلى الرغم من أن التنبؤات التي تضمنتها بعض رواياته لم تتحقق لاحقا، إلا أن كثيرا منها تحول، في أوقات متباينة، إلى حقائق موضوعية. ومنها كأمثلة إختراع القنابل النووية، واستخدام الطاقة النووية، والصواريخ العابرة للقارات، وإندلاع الحربين العالميتين الاولى والثانية. ففي كتابه الصادر عام 1914، بعنوان العالم تحرر تكلم، ويلز، عن نوع جديد أنذاك من القنابل اسماها بالنووية، ورأى أنها سُتكتشف في عام 1933 وتُستخدم في عام 1955.

 ويرى المستقبلي الامريكي، توماس لومباردو، أن ويلز لم يكن، في كتاباته عن المستقبل، حريصا على مجرد تناول إحتمالات المستقبل فحسب، وإنما كان حريصا كذلك على الإرتقاء بالمجتمع الإنساني إلى حالة أمثل مع بيان كيفية تحقيق ذلك. لذا يؤكد أن، ويلز لم يقف عند مجرد التنبوء بالمستقبل، وإنما تجاوز ذلك إلى رؤيته كصناعة إنسانية أيضا.

وجراء ذلك ربما يمكن إعتبار ويلز من حيث الاسبقية التاريخية، بمثابة الملهم الاول للمدرسة الفرنسية في استشراف مشاهد المستقبل التي تبلورت منذ منتصف القرن الماضي، وتميزت عبر رؤى روادها، بتبنيها لمفهوم المستقبل المنظور )La Prospective(. ويعبر، غاستون برجيه: أحد رواد المدرسة الفرنسية في المستقبلات، عن مضمون هذا المفهوم بقوله: إن »… الزمن، إذا أخذ ككل، ليس نوعا من المادة السائلة المستمرة التي تتقدم في انسياب متناسق وعلى امتدادها تنتظم الاحداث. فالماضي والمستقبل متغايران بالنسبة للإنسان، وهما ليسا لحظتين في السلسلة نفسها وليس لهما معنى مادي حقيقي أو معنى إنساني الإ حين نبين صلتهما بأعمالنا: فالماضي هو ما تم فعله والمستقبل هو ما سيفعل، والالتفات نحو المستقبل بدل النظر إلى الماضي ليس ببساطة هو تغيير المشهد بل الإنتقال من المشاهدة إلى الفعل…«

وعلى الرغم من أن فكرة المستقبل الزاهر تتجسد بوضوح في جل رواياته الخيالية ومؤلفاته الفكرية بيد أن محاضرته في المعهد الملكي البريطاني، بتاريخ 24 كانون الثاني 1902، كانت حاسمة. إذ تجلى فيها إنحيازه إلى المستقبل واضحا. فقد قال إن: »… معظم الناس مشدودون بإحكام إلى الماضي، ولكن المستقبل قد اكتشف. وبإضطراد يحول الناس تفكيرهم إليه… إننا إلى المستقبل نمضي، والغد، بالنسبة لنا هو الشىء الحامل بالاحداث. ففيه سيكون كل ما يتبقى من مشاعرنا وجميع اولادنا وكل ما هو عزيز علينا… إن جهلنا بالمستقبل وإقتناعنا أن ذلك الجهل لا شفاء منه أبداً هما وحدهما اللذان يمنحان الماضي تفوقه وسيطرته على أفكارنا )وقد راى( أن القوى الاجتماعية يمكن تحليلها والمستقبل يمكن إستقراؤه منها.«

إن تفاؤل، ويلز الشديد بقدرة الإنسان على صناعة المستقبل، تحول، لاحقا، إلى تشاؤم عميق. ومرد هذا التشاؤم أنٌ، ويلز، كان قد تماهى مع اولئك الفلاسفة الغربيين كبرتراند رسل، واوسفالد شبنغلر، اللذين دفعهما تدهور المعطيات الاقتصادية، والسياسية، التي عاشها الغرب، وأزماته في بداية القرن الماضي، والتي تصاعدت خلال الفترة السابقة على الحرب العالمية الثانية إلى التخلي عن فكرة التقدم والمستقبل الزاهر، التي كانت محور الاهتمام أنذاك، لصالح رؤية تشاؤمية قالت: إن المستقبل سيكون مظلما ومرعبا.

وقد تجسدت هذه الرؤى المتشائمة في روايات خيالية من نمط أخر ومختلف. فبدلا من الحديث عن المدينة الفاضلة وسبل تحقيقها، صارت روايات المدينة الفاسدة Dystopia، هي محور الاهتمام.وقد استمر صدور هذه الروايات بنوعيها المتفائل والمتشائم، إلى وقتنا الحاضر.

*أستاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات