دراسات المستقبلات ومتطلبات الانجاز الذاتية

أ.د. مازن الرمضاني*
استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات

غني عن القول أن التفكير في المستقبل ظاهرة إنسانية تمتد جذورها التاريخية إلى ما قبل دخول الإنسان في الموجة الحضارية الزراعية منذ عشرة الاف عام في الاقل. صحيح أن نوعية هذا التفكير كان انعكاسا لتعاقب الواقع الحضاري السائد في الزمان والمكان، إلا أن نوعية العلاقة بين نوعية هذا التفكير والواقع الحضاري تؤكد ان الإنسان أستمر مستقبليا بالفطرة.

بيد أن الإنشغال الفطري للإنسان في المستقبل لا يجعل منه بالضرورة مستقبليا محترفا. فهذا الاحتراف يتطلب توافر ثمة مستلزمات مسبقة.

 وعلى الرغم من أن المستقبلي الاسترالي، سلوتر يرى أن الإنسان المستقبلي هو: »الإنسان الذي تعلم أكاديميا كيفية إجراء دراسة مستقبلية، وصار قادرا على توظيف معرفته سبيلا لمساعدة سواه على إكتشاف خيارات المستقبل وبدائله« إلا أن النمو المتزايد للمستقبليين في العالم يشير إلى أن تطبيقات التفكير العلمي في المستقبل لم تعد تقتصرعلى من تعلم اكاديميا كيفية إستشراف المستقبل، وأنما اضحت تمتد لتشمل سواهم أيضا. والدليل على ذلك كثافة الانتاج الذي يندرج تحت تسمية دراسات المستقبلات.

لذا ومن أجل إنتاج دراسات مستقبلية تتمتع بدرجة عالية من المصداقية لابد من توافرثمة شروط مسبقة في الإنسان، الذي ينصرف إلى إستشراف المستقبل. وعندنا تتوزع هذه الشروط على مستويين أساسيين متفاعلين: شروط موضوعية، تستخدم عادة لقياس مدى علمية التطبيق العملي للتفكيرالإنساني في ثمة شىء مثيرللاهتمام، وهي عادة: توافر الموضوع والمنهج العلمي والغاية المنشودة. إما المستوى الثاني فهو يكمن في عدد من الشروط الذاتية المهمة.

ولاننا تناولنا، في مقال سابق، الشروط الموضوعية، سيصار في ادناه التركيز على الشروط الذاتية، التي نرى انها تكمن في الآتي:

1. الانطلاق من قاعدة كافية ورصينة من المعلومات والبيانات

على خلاف الماضي والحاضر اللذان تتوافرعنهما معرفة كافية تتيح دراستهما بكفاءة يتفق الراى على ان المستقبل كزمان لم يحل بٌعد يفتقر في حاضر الزمان لمثل هذه المعرفة. ومع ذلك لم يحل هذا الواقع دون إستمرارتتابع إنجاز دراسات المستقبلات وعلى شتى الصعد. ومما ساعد على ذلك توظيف إليات مهمة. ومن بينها الآتي، مثلا:

اولا توظيف مخرجات التطور المتسارع في تكنولوجيا المعلومات

لقد افضت مخرجات هذا التطورالى ان تتميز العديد من المجتمعات ولاسيما مجتمعات المعرفة بسهولة الوصول الى المعلومات وتخزينها ومعالجتها واسترجاعها. كما ان استخدامها لاغراض البحث العلمي سواء اكان اساسيا ام تطبيقيا صاراكثرسهولة. فإنتشار الشبكة العالمية للمعلومات )الانترنت( في جل دول العالم اتاح مجموعة فرص غير مسبوقة لم تُؤد الى تأسيس قواعد معلومات متعددة ومتنوعة فحسب وانما ايضا الى جعل فجوة المعلومات بين المجتمعات اضيق نطاقا مما كانت عليه في وقت سابق.

ان هذا التطورالعالمي المهم تفاعل مع اتجاه عابر لجل الحدود السياسية الدولية قوامه تقليص القيود المفروضة على تداول المعلومات والبيانات وبمخرجات ادت الى دعم هذا التطور خصوصا وان الشبكة العالمية للمعلومات جعلت من هذه القيود في العموم لا قيمة لها عمليا.

 وعن توافر المعرفة في عالم اليوم يقول المستقبلي الامريكي، الفين توفلر انها صارت: »… اكثر مصادر السلطة ديمقراطية على الإطلاق )سيما وانها(…يمكن أن تكون متوفرة للضعفاء والفقراء كذلك. وهذه حقا ميزة ثورية من مزاياها«.

ثانيا توظيف مقاربات كمية و/او كيفية سبيلا علميا لتوليد المعرفة ذات العلاقة بالمستقبل. فأستمرار انجاز دراسات المستقبلات ادى الى تراكم معرفي مهم وعلى نحوٍ رفد عملية تطوير قواعد المعرفة عن المستقبل بعنصر فاعل. لذا صار اليوم استشراف مستقبلات احد المواضيع أقل صعوبة بالمقارنة مع ما كان عليه الحال في عقود سابقة.

ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن عملية تغيير العالم أفضت إلى أن تتعدد وتتنوع المتغيرات المؤثرة في المستقبل. ومن اجل تشخيص تلك المتغيرات التي لها علاقة وطيدة بموضوع الاهتمام يُعد ضروريا توظيف ما يسمى بتعدين البيانات. وبهذه يُقصد البحث عن تلك االمتغيرات التي تجمعها خصائص مشتركة، ويربطها وحدة الموضوع، من بين كم كبيرجدا من المتغيرات التي لا تربطها علاقة أو وحدة موضوعية.

ا ٌن كمية ونوعية المعرفة المتاحة حاليا وان اضحت ركيزة اساسية لدراسات المستقبلات، الا ان تفاعلها مع قدرمن الخيال يجعل فائدتها اعم واشمل. ولنتذكران العلم والخيال عندما يتفاعلان ايجابا فأن محصلتهما قد تفضي الى تصور مشاهد المستقبل تصورا ابداعيا ومبتكرا وشاملا. والى ذلك يقول ايضا المستقبلي الامريكي، بيتر بيشوب: »…ان تفاعل العلم والخيال يجعل من مشاهد المستقبل مختلفة نوعيا عن تلك التي تتأسس على احدهما فقط«. لذا لاغرابة في ان يصار الى تدريس الخيال في المؤسسات التعليمية للدول المتقدمة وكذلك السائرة في طريق النمو.

وعليه، نرى ا ٌن غياب قاعدة رصينة وكافية من المعلومات والبيانات ذات العلاقة بأحد المواضيع، يلغي امكانية استشراف مستقبلاته بمصداقية. والدراسة المستقبلية التي لا تتأسس على مثل هذه القاعدة تضحى من نمط تلك الدراسات، التي أسماها المستقبلي الاسترالي، سلوتر بدراسات البوب الامريكية. أي تلك التي أما تغرق في التبسيط، و/أو تتخذ من الاسلوب الصحفي أسلوبا لها، و/أو تعمد إلى خدمة مصالح تجارية.

2. كفاءة التبصر في مشاهد المستقبل

لا ينكر المستقبليون جدوى القراءة المعمقة لحقائق الماضي ومعطيات الحاضر وتاثيرها في تشكيل مشاهد المستقبل. ومع ذلك يرى ُجلهم ان المستقبل لا يتشكل جراء تاثير الإتجاهات الممتدة من الماضي الى الحاضر فقط، وانما يتشكل ايضا جراء تاثيرمجموعة اخرى من المتغيرات تفضي حصيلتها الى انفتاحه على مشاهد بديلة متعددة ومتنوعة.

لذا تُعد القدرة على التبصربمخرجات هذه المتغيرات ومن ثم بالمشاهد المتعددة التي تفضي اليها من بين المستلزمات الذاتية والمهمة لإستشراف المستقبل.

3. القدرة على الجمع بين الموضوعية والذاتية بتوازن

علميا تقوم بين انماط السلوك الإنساني ونوعية روية الإنسان للواقع الداخلي و/او الخارجي السائد علاقة طردية قد تكون ايجابية او سلبية. ويرى، كي جي. هولستي، استاذ السياسة الدولية، ان هذه الروية تُعد حصيلة »…لنوعية ادراك الإنسان لشىء ما يفرزه الواقع السائد والتقييم المعطى له والمعنى المستخلص منه«. وتبعا لهذا الإدراك قد تكون الروية اما موضوعية، او ذاتية.

فالروية تضحى موضوعية عندما يعمد الإنسان الى ادراك الاشياء كما هي عليه في الواقع دون ان يشوب هذا الإدراك اهواء او مصالح او تحيزات. والرؤية تصير ذاتية عندما يتجرد الإنسان عن تاثير العقل رائدا وضابطا وحاكما، ويسحب بالتالي، ما يتمناه و/اويتخيله و/او يتاثر به ذاتيا على الاشياء السائدة في الواقع، ومن ثم يعمد الى ادراكها على نحوٍ لا يستوي ومعطياتها الموضوعية. وبهذا الصدد يؤكد المستقبلي العربي الرائد، قسطنطين زريق، ان الإسراف في الذاتية يلغي »… العقلية الضرورية لإعداد المستقبل )وايضا( لبقائه وازدهاره…« وبهذه العقلية يقصد العقلية المستقبلية.

والإفتراض ان الإنسان يكون اما موضوعيا او ذاتيا على نحوٍ مطلق، هو افتراض تبسيطي في الاقل. فالموضوعية والذاتية امران نسبيان بالضرورة. فإضافة الى ان الإنسان يتاثر بتحكيم العقل إلا انه يتاثر أيضا بمتغيرات ذاتية و/اونفسية مهمة ومثالها سمات شخصيته و/او المكونات الفلسفية والإدائية لنظامه العقيدي و/او تجاربه الشخصية السابقة…الخ

بيد ان نوعية تاثيركل من الموضوعية والذاتية يتباين من حالة الى اخرى. فتبعا لتاثيرنوعية ادراك الإنسان لهذه الحالة او تلك، قد يضحى الإنسان الموضوعي في احيان، انسانا ذاتيا. وبالمقابل قد يتحول الإنسان الذاتي في احيان اخرى الى أن يكون انسانا موضوعيا.

واتساقا مع ما تقدم، تتباين الروى في شأن مدى موضوعية او ذاتية دراسات المستقبلات. فمن ناحية يرى مستقبليون ان الاخذ بالموضوعية يُعد شرطا لازما. اذ بدونها يتعذرالإستقراء الدقيق لتاثيرتلك المتغيرات التي تشكل المشاهد البديلة للمستقبل، ومن ثٌم توليد المعرفة العلمية التي تُساعدعلى استشرافها.

ولهذا يتم التاكيد على ضرورة استخدام المناهج الكمية في هذا الإستشراف هذا لان اجراءاتها التقنية تحول دون ان يكون تاثيرالمتغيرات الذاتية في مخرجات عملية الإستشراف فاعلا.

وبالمقابل تؤكد اراء اخرى ان الموضوعية المطلقة عسيرة التطبيق في عموم الدراسات الإنسانية والإجتماعية وهو الامر الذي ينسحب ايضا على دراسات المستقبلات. فإضافه الى ان هذه الدراسات تتأثر بمتغيرات نفسية مؤثرة ذات علاقة بشخصية القائم او القائمون بها هي ايضا دراسات استهدافية تتخذ من المناهج الكيفية سبيلا لإستشراف مشاهد المستقبل بأنواعها.

 وادراكا منهم لتاثير اشكالية الموضوعية /الذاتية في دراسات المستقبلات يَعمد مستقبليون الى الاخذ في دراساتهم بحلٍ وسط يتمثل في حصر مشاهد المستقبل بين اقصى ما يتعارض مع تفضيلاتهم، وبين ادنى ما يتوافق واياها. وهذاهو الحل الذي أخذت به الدراسة العربية الرائدة: مستقبل الامة العربية: التحديات والخيارات. ونرى ا ٌن هذا الحل التوفيقي يعد مجديا، سيما انه يؤكد الحاجة الى الاخذ بالموضوعية ولا ينكرواقع تاثير المتغيرات الذاتية.

4. الدقة في الإستشراف

خلال الفترة الممتدة منذ منتصف القرن العشرين تقريبا الى الوقت الراهن، تطورت دراسات المستقبلات بنسغ صاعد. ومع ذلك لم يؤد هذا التطور المهم الى الإرتقاء بهذه الدراسات الى مستوى مخرجات العلوم الصرفة والتطبيقية. ومرد ذلك يكمن في ان معرفة ما قد يؤول اليه المستقبل وعلى نحوٍ قاطع ومؤكد تبقى مشكلة إنسانية عصية عن الحل.

فعلى خلاف الماضي والحاضر اللذان تتوافرعنهما معلومات كافية تسهل دقة دراستهما تنتفي مثل هذه الخاصية عن المستقبل. صحيح ان تاثير نقص المعرفة ذات العلاقة بالمستقبل لم يُعد بتلك الحدة السابقة جراء إستخدام تقنيات علمية متطورة لتوليد المعرفة. بيّد ان ذلك لا يلغي ان أنجاز دراسة مستقبلية ذات مصداقية يبقى على قدرعال من الصعوبة الكامنة.

 لذا، لم ُتؤد استعانة دراسات المستقبلات باليات متنوعة لاغراض جمع البيانات وتوليد الافكار وربط الجزئيات في كلٍ متكامل فضلاعن ضمان الاتساق الداخلي لمجمل عملية الإستشراف دون ان يتكرر القول: ان الجهد الرامي الى استشراف مشاهد المستقبل قد يفضي الى استشراف خاطىء.

 ومع أن هذا القول يجد تطبيقا له يؤكد مصداقيته إلا أنه لا يلغي أن إداء المستقبلي يستوي بالمحصلة وإداء الطبيب. فعلى وفق نوعية معرفتهما وكفاءتهما، يتحدد نجاح تشخيصهما او فشله. فكما ان الحاجة إلى الطبيب تبقى مستمرة، والتي لا يلغيها عدم كفاءة تشخيص البعض منهم، كذلك ينسحب الشىء ذاته على الحاجة الى المستقبلي حتى في حالة عدم مصداقية إستشرافه. ونرى ان معطيات عالمنا الراهن بالفرص التي تتيحها والكوابح التي تفرضها، والتي تختلف بالضرورةعن تلك التي تميزت بها العوالم السابقة، هي التي تفرض الحاجة إلى إستشراف مشاهد المستفبل. ولا تلغي هذه الحاجة احتمالية عدم تطابق مخرجات هذا الإستشراف مع حقائق الزمان الذي سيكون، أي المستقبل.

وعليه نرى أن فشل مخرجات بعض الدراسات المستقبلية لا تلغي بالضرورة جدواها. ولنتذكر ان الفشل قد يفضي الى أنارة الطريق نحوالافضل بشرط التعلم من اسبابه والإستفادة من مخرجاته. وبهذا الصدد، قال الفين توفلر: »… في معالجة امور المستقبل…لا تحتاج الروى الى ان تكون صحيحة مائة في المائة لتكون مفيدة…)فحتى( الاخطاء لها فوائدها. ان الخرائط التي رسمها للعالم جغرافيو العصورالوسطى كانت ابعد ما تكون عن الدقة وكانت مليئة بالاخطاء… ولكن من دونها لم يكن من الممكن لعظماء المكتشفين ان يكتشفوا الدنيا بل لم يكن من الممكن ان تُرسم الخرائط الحديثة والاكثر دقة«.