السعادة في العلاقة مع الأرض

حنا العميل – مدير عام الحبوب والشمندر السكري

 ماراتون الوظيفة العامة إقترب من نقطة النهاية، اربعون سنة تقريباً قضيتها في القطاع العام متنقلاُ بين عدة إدارات، بدايةً في وزارة البريد والإتصالات في قاعدة الهرم الإداري، ومن ثم الفترة الأطول في وزارة الثقافة، بين المديرية العامة للآثار، والمديرية العامة للثقافة والمعهد الوطني العالي للموسيقى ذ الكونسرفتوار، ونهاية في وزارة الإقتصاد والتجارة/ المديرية العامة للحبوب والشمندر السكري، في قمة الهرم الإداري.

هاجس كل موظف وكل عامل في القطاع العام أو الخاص في لبنان، هو بلوغ سن التقاعد وكيفية تمضية بقية العمر المفترض أن تكون مرحلة من الراحة والإستجمام والتمتع بالحياة بعيداً من الواجبات الوظيفية محرراً من مسؤولياتها وتبعاتها ومن همومها وشجونها، إلا أن الواقع مختلف، إذ أن بعض المتقاعدين يجهدون في البحث عن عمل يقيهم شر الحاجة، والبعض الآخر يخاف الوحدة والملل فيجد في العمل إستمراراً للحياة الإجتماعية وللعلاقات مع الآخرين، وفئة ثالثة تنشد فعلاً الراحة والهدوء من خلال بناء منظومة حياة جديدة مختلفة.

بالنسبة لي لم أترك كيفية تمضية فترة التقاعد للقدر، فخططت لها منذ سنوات طويلة، إذ قررت العودة إلى ضيعتي مسقط رأسي ومربى طفولتي، والتي غادرتها مكرها في سن مبكرة طلباً للعلم، وذلك منذ بداية المرحلة الإبتدائية حتى نهاية المرحلة الجامعية، ومن بعدها لأستقر في العاصمة بيروت طيلة خدمتي الوظيفية، فضيعتي تعتبر المنطقة السكنية الأبعد عن العاصمة بيروت جنوباً، بوقوعها مباشرة على الحدود اللبنانية الفلسطينية، وقد إخترت منذ فترة طويلة قطعة أرض تعود لي بالوراثة خارج الضيعة تقع على تلة ملاصقة تقريباً للخط الأزرق محاطة ببساتين الزيتون وأحراش السنديان وغيرها من الأشجار البرية حيث ينعدم تقريباً كل نشاط بشري، فأستصلحتها وزرعتها بالأشجار والخضار والورود والأزهار وبنيت فيها بيتاً صغيراً، إذ كان هدفي إنشاء بستان كبير ضمنه بيت صغير، بعيداً عن التجمعات السكنية وضوضائها،

حنا العميل – مدير عام في وزارة الاقتصاد

أنتظر أسبوعياً حلول نهار الجمعة لأترك بيروت وزحمتها وضجيجها وتلوث هوائها وهموم وشجون الوظيفة وإجتماعات العمل ومراجعات المواطنين، وأقصد بيتي الريفي على أحر من الجمر، كمراهق على موعد مع حبه الأول، لقضاء العطلة الأسبوعية.

ومنذ لحظة وصولي أبدّل ثيابي وأقصد مباشرة الحديقة، وأشرع، في زرع الشتول والبذور من خضار وأزهار وأشجار، أو في نكش الأرض وتنظيفها من الأعشاب الضارة، أو في ري المزروعات وتقليمها وتشحيلها، ولا آوي إلى البيت إلا عند حلول الظلام، لأستفيق في اليوم التالي قبل طلوع الفجر لأسابق انواره الأولى إلى الحديقة ورزاز الندى يتساقط علي ليزيدني حيوية ونشاطاً وإندفاعاً في العمل ألذي أجد فيه ليس فقط رياضة جسدية إنما رياضة روحية وفعل إيمان بهذه الأرض الخيّرة، أقضي معظم النهار أعمل في الحديقة وعند التعب أرتاح تحت أغصان أشجارها أو تحت عرايش العنب، وتحضرني هنا قصيدة اعطني الناي وغني لجبران خليل جبران وأجدني أعيشها فعلاً لاسيما في الأبيات التالية : » هل تحممت بعطر وتنشفت بنور وشربت الفجر خمراً في كؤوس من أثير، هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب والعناقيد تدلت كثريات الذهب… «

وفي إحدى المرات وفيما أنا منهمك بالعمل والعرق يتصبب مني، حضرت زوجتي مع صينية القهوة، فعندما رأتني في هذه الحالة وضعت الصينية جانباً وأخذت تصورني في هاتفها وقالت لي مازحة سأضع الصور على صفحتي على الفايس بوك معلقة عليها سعادة المدير العام أو بالأحرى سعادة المزارع، فأجبتها على الفور المرة الوحيدة التي أتقبّل فيها لقب السعادة هي في هذه الحالة، أي سعادة المزارع لأنها بالنسبة لي هي السعادة الحقيقية، السعادة في العلاقة مع الأرض، في الحياة البسيطة الخالية من التكلّف والمصلحة.

حرصت على تنويع المزروعات طبعاً دون إستعمال أية مبيدات أو أسمدة كيماوية، لأحصل على منتوجات عضوية كاملة، مع إمكانية وجود أنواع من الثمار أو الخضار الموسمية يمكن قطافها في أي وقت من السنة، مما شكّل عامل جذب إضافي للأولاد والأحفاد لزيارتنا وتمضية عطلة نهاية الأسبوع، رغم تذمر الأحفاد من طول الطريق وزحمة السير ذهاباً وإياباً، إلا أنه سرعان ما ينقلب هذا التذمر إلى فرح عندما يصلون ويقضون معظم أوقاتهم في الحديقة لعباً ولهواً وقطافاً للثمار.

 تتجلى قمة السعادة عندي في إجتماع العائلة الكبرى في هذا البيت الصغير، أبواي اللذان ما زالا على قيد الحياة وأبنائي مع أبنائهم وإخوتي مع أبنائهم وأحفادهم، ليكون اللقاء بين الأجيال الأربعة، مناسبة لتقوية وتعزيز الروابط العائلية والإجتماعية من جهة، وتجديد العلاقة مع الأرض من جهة ثانية.

علاقتي بالأرض وتعلّقي بها قديمة جداً تعود إلى سنين طفولتي الأولى، لتقوى هذه العلاقة وتتحول إلى حالة من العشق والهيام مع تقدمي في العمر، إذ أن هذه الأرض هي أمانة أودعني إياها أهلي لأحافظ عليها وأعتني بها وأحرص على نقلها لأبنائي، لينقلوها بدورهم إلى أبنائهم، وهكذا نحافظ على تجذرنا في هذه البقعة من الوطن من خلال توطيد العلاقة مع الأرض، كما في مسرحية جبال الصوّان للأخوين رحباني، حيث تهون التضحيات مهما غلا الثمن، فيدفع مدلج وقبله والده وبعده إبنته غربة حياتهم ثمناً للمحافظة على أرضهم.

فالعلاقة مع الأرض علاقة تبادلية وتفاعلية، تتخطى البعد المادي إلى البعد المعنوي والعاطفي وغالباً ما يتفوق الثاني على الأول، فهذه العلاقة تنمّي روح الإنتماء للوطن وتعزّز الشعور بالهوية، هذه العلاقة علمتني الكثير من الدروس والعبر وساهمت بشكل أو بآخر، إضافة لعوامل أخرى بتكوين شخصيتي، فتعلمت من الأرض الصبر والمثابرة، قبول التحدي وعدم التراجع أمام الصعوبات والعقبات، واليقين بأن نتائج أي عمل أقوم به، ستكون ترجمة لنوعية التحضيرات المسبقة لهذا العمل ومتابعته من بدايته حتى نهايته، على قاعدة »تحصد ما تزرع«، و»على قدر ما تتعب بتلاقي«، فلازمتني هذه الصفات في حياتي الإجتماعية وفي مسيرتي الإدارية وساهمت في نجاحي وتحقيق ما أصبو إليه،

خلال مسيرتي الطويلة في الإدارة راودني طموح وحلم، طموح بالوصول إلى الفئة الأولى، وحلم بأن أمضي بقية العمر في مرحلة التقاعد في بيت ريفي صغير ضمن حديقة كبيرة، فطموحي حققته بعد جهد وكد وتضحيات وتحقيق العديد من الإنجازات في مختلف الإدارات التي عملت بها، وحلمي على وشك التحقيق بالعودة إلى الضيعة بعد فراق طويل وتشييد بيت صغير وإعادة العناية بالأرض، على أمل الإستقرار فيها نهائياً عند بلوغي السن القانونية في الأشهر القليلة المقبلة وتحقيق السعادة المنشودة.

العدد 88 –كانون الثاني 2019