دراسات المستقبلات العربية: مدخلات التراجع

أ.د. مازن الرمضاني*

في المقال السابق تناولنا واقع دراسات المستقبلات في الوطن العربي، وذهبنا إلى القول أنها بدأت متاخرة ولكن كانت واعدة وأنها لمٌ تحقٌق الإرتقاءلاحقا وتراجعت مبكرة.فعلى الرغم من أنٌ بدايات هذه الدراسات تعود الى حوالي منصف القرن الماضي، إلا أنٌ عدد المولفات العربية العملية الجادة في المستقبل لم يتجاوز حتى الآن عن خمسة مؤلفات. لذا سينصرف هذا المقال إلى محاولة تحليل هذا الواقع..

 تتعدٌد الإجتهادات التي تفسرعموم الموقف العربي السلبي من التفكير العلمي في المستقبل. فمثلا يرى، فواد زكريا، أنٌ هذا الموقف يُعدّ حصيلة لإسباب دينية، وحضارية، وإجتماعية-سياسية. أمٌا محمد إبراهيم منصور فهو يؤكٌد أنٌ هذا الموقف مرده: غياب الرؤية المستقبلية في بنية العقل العربي وضعف الاساس النظري الذي تستند إلية الدراسات المستقبلية في التراث العربي وغياب التقاليد الديموقراطية في البحث العلمي العربي وقصور المعلومات والقيود المفروضة وأخيرا غياب الاطر المؤسسية المتخصصة.

ومع ذلك نرى أن مخرجات رؤيتنا الثقافية حيال هذا التفكير هي التي تُفسر هذا الموقف. ومردٌ ذلك يكٌمن في التأثير العميق والشامل لوظيفة للثقافة. فالثقافة »هي جميع السمات الروحية والفكرية والمادية التي تُميز مجتمعا بعينه أو شريحه اجتماعية بعينها« وبهذا المعنى تؤدي الثقافة وظيفة مهمة قوامها إعانة المجتمع على التفاعل مع معطيات الحياة وابعاد الزمان إنطلاقا من رؤية شاملة وانماط سلوكية محدٌدة »لذا ومن المنظور الإجتماعي تصبح الثقافة بمثابة اسلوب للحياة يتبناه هذا المجتمع أو ذاك«.

ونرى أنٌ رؤيتنا الثقافية، نحن العرب للمستقبل تُعدّ حصيلة لتفاعل ثلاثة مدخلات أساسية، هي العقلية الشاعرية، والثنائيات المتقابلة. والتثقيف الديني السلبي.

أوٌلا العقلية الشاعرية

يحظى الشعر كأحد الفنون العربية الاصلية عند جلٌ العرب بقيمة تكاد تكون خاصة وممتدة في الزمان وبجذور تعود إلى عصر الجاهلية الثانية قبل الاسلام. فأنذاك كان للشعر وظيفة مهمة. فالشاعرالجاهلي كان بمثابة الناطق بلسان قبيلته. إذ كان بأمجادها يُفاخر ولمعاركها وإنتصاراتها يُورخ. ولنتذكٌر هنا شعراء المعلقات السبع على سبيل المثال.

ولمٌ تتغير قيمة الشعر بعد الاسلام. فبإستثناء عصر الخلفاء الراشدين، استخدم الشعر في العصور اللاحقة لاغراض متعددة تراوحت بين السياسة والحب وما بينهما. وقد برز خلال هذه العهود شعراء إستمرت الذاكرة العربية تحتفظ بأسماؤهم واشعارهم. وتكفي الإشارة مثٌلا، إلى الاخطل، والفرزدق، وبشار بن برد، وأبو نؤاس، وأبو العتاهية، والمتنبي، وأبو فراس…الخ

ونتيجة لتراكمات تأثير الشعر في الوجدان العربي تكونت تدريجيا عقلية شاعرية عربيٌة إتخذت من الحنين السلبي إلى الماضي سبيلا للتعامل مع الحاضر والمستقبل. لنتذكر أنٌ هذا الحنين عندما يكون طاغيا فأنه ُيفضي وبالضرورة، إلى الانطلاق من ذهنية معادية عمليا للتخطيط الإستراتيجي تنطوي على تقيد الإنسان بحدود معطيات زمان مضى وغاب بريقه، ويتعذر إسترداده، وبمخرجات تعطل قدرة الإنسان على التكيف الكفوء مع إستحقاقات حاضر متغير ومستقبل مفتوح ومتعدد الإحتمالات. ومن هنا تتناقض العقلية الشاعرية في معظم أبعادها مع العقلية الواقعية التي تُعد مدخلا أساسيا للعقلية المستقبلية كما يؤكد ذلك قسطنطين زريق.

إن هذا التناقض إنٌما يكمن أساسا في أنٌ العقلية الواقعية، وعلى خلاف العقلية الشاعرية، تتأسس إصلا على القناعة بقدرة العقل اليقظ المتطور والفاعل رائدا وضابطا وحاكما على الإبتكار والإبداع. وبضمن ذلك تجنب الإضرار الناجمة عن التعامل مع الواقع وتحدياته تعاملا يتغافل عن حقيقته الموضوعية. فالعقلية الواقعية تدعو إلى ضرورة رؤية ما كان وما هو كائن، على نحوٍ موضوعي وليس على وفق ما يتخيله المرء أو يتمناه. ومما يدعم هذه العقلية هو إتجاهها إلى جعل المنهج العلمي أساسا لها في إدراكها للواقع هذا فضلا عن البعد الاخلاقي الكامن فيها. فالعقلانية والاخلاق أمران متكاملان وذلك أنٌ الاولى لا تستطيع أنٌ تكون مدخلا للابداع إلا إذا تزامنت مع إلتزام أخلاقي بها. فهذا هو الذي يجعلها أيضا، مدخلا مهما للاقتراب من الحقيقة.

ثانيا، الثنائيات المتقابلة

يرى محمد عابد الجابري، أنٌ الفكر العربي المعاصر يتميز بالعديد من الإشكاليات التي أفضت مخرجاتها على قضايا الواقع العربي »… طابعا إشكاليا طابع الوضع المأزوم«.

ويتجلى هذا الوضع المأزوم في جانب منه في إنتشار رؤى تدرك الاشياء على وفق صورة حدية قوامها ثنائية الشىء ونقيضه ولا غير ومثالها ثنائيات الخير/الشر، الوطنية/القومية، الحب/الكراهية، الحاضر/المستقبل، الاصالة/الحداثة، الدين/الدولة.

إنٌ رؤية الاشياء بهذه الآلية الذهنية تفضي إلى رفض فكرة التعدد والتنوع الكامنة في أصل الاشياء وهي الفكرة التي أدت قدر تعإلق الأمر بنا إلى تجديد الفكر العربي الإسلامي عبرٌأزمنة تميزت بالتعدد والتنوع ضمن أطار وحدة ثقافية واجتماعية وحضارية. كما أنٌ هذه الآلية تفضي أيضا إلى رفض فكرة الوسطية والاعتدال. ومن هنا تكمن خطورتها، سيما وإنها »…تختزل الواقع وتلغي الإمكانات وتحصر الخيارات بين ما يجب القبول به وما يجب رفضه…« ولا سواه. وبهذا تتناسى هذه الآلية الذهنية أنٌ الحياة مثلما هي مفتوحة على شتى الالوان، كذلك هو المستقبل مفتوح هو الآخر على شتى الإحتمالات ومن ثمٌ المشاهد.

وتفيد تجربة الواقع أنٌ تمسك دعاة هذه الرؤية إما بهذا الشىء أونقيظه لم يؤدٌ إلى ديمومة الصراع الفكري داخل فئات إجتماعية فحسب، وإنٌما أيضا إلى ديمومة تشرذمها بين هذا أو ذاك. فمثلا ينطوي القول الذي يؤكد على جدوى الرجوع إلى الجذور بمعنى التراث وسحبها على الحاضر والمستقبل، ينطوي على قدرعال من الصحة، سيما وأن الإنسان، ومن ثّم المجتمع، لا يستطيع الهروب من الماضي، بإيجابياته وسلبياته. فالماضي يشكل جزءا مهما من تاريخ الإنسان والمجتمع الذي لا يمكن نسيانه أو تناسيه.

ومع ذلك يُعٌبر التوجه نحو إسقاط الماضي على الحاضر والمستقبل إسقاطا شاملا عن رؤية خاطئة هذا لان مثل هذا الإسقاط يفضي إلى إدراك مجمل أبعاد الزمان وكأنها تستوي، مجازا، والبساط الممتد الذي لا يتحرك ولا يتموج، ومن ثّم إلى رؤية الزمان وكأنه زمان راكد. إنٌ مثل هذه الرؤية تنفي العلاقة الطردية الموجبة بين التغيير وحركة التاريخ. ولنتذكر أنٌ التغيير الذي يجعل الزمان متجددا يكمن في الحركة التاريخية التي تفضي إليه. وفضلا عن ذلك تؤدي هذه الرؤية أيضا الى إقتران المجتمع بحالة من الركود تحول دون التجديد والإرتقاء في الفكر والفعل ومن ثّم تُفضي إلى إدامة واقع التراجع والتخلف الحضاري. وهذا في العموم، هوحالنا، نحن العرب في هذا الزمان الردئ.

ثالثا، التثقيف الديني السلبي

 تتباين الرؤى حول مؤقف الدين الإسلامي من التفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية بين رؤية داعمة وأخرى رافضة.

فأمٌا عن الرؤية الداعمة فهي تؤكٌد أنٌ جوهر الدين الإسلامي لا يغفل الدعوة إلى الإستبصار والوعي المستقبلي، ولا يلغي النزوع الإنساني إلى الإعداد للمستقبل وأخذ الحيطة وينهي عن التقاعس والتواكل لضمان غد أفضل في الدنيا والاخره.ويرى مفتي سلطنة عُمان أنٌ لهذه الرؤية جذور قديمة داعمة لها. اذ يقول »إن الفقهاء السابقيين عندما تشبعوا بروح الإسلام لم يكونوا جامدين وأنما كانوا منفتحين على الحاضر والمستقبل ايضا… )ولا يلغي ذلك( أنٌ هناك من الفقهاء من…)قال( نشتغل بالواقع دون المتوقع. ولا ريب أن )الأمر( المتوقع له دوره في تشكيل فكر الإنسان في الحاضر وتهيئته للتفاعل مع المستقبل«.

وكثيرة هي الآيات الكريمة التى تؤكٌد على عدم أهمال التفكيرفي المستقبل ومثال ذلك قوله تعالى »…يا أيها الذين أمنوا إتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد«. الذي يدعوا إلى الإستعداد للمستقبل وكذلك قوله تعالى »…وتلك الايام نداولها بين الناس«. الذي يؤكٌدعلى فكرة عدم بقاء الامور ثابتة على حالها. وكذلك قوله تعالى »…من يعمل مثقال ذرة خيرا يرى ومن يعمل مثقال ذرة شرا يرى« الذي ينطوي على دالٌة واضحة تفيد أنٌ المستقبل صناعة بشرية. وأتساقا مع دعوة القرآن الكريم إلى التفكير في المستقبل، جاءت احاديث نبوية أكٌدت على جدوى الإستعداد للمستقبل أبتداء من الحاضر. ومثالها قوله عليه الصلاة والسلام: »من أستقبل الامور أبصر ومن إستدبر الامور تحير«، وكذلك قوله: »من لم يحترز من المكائد قبل وقوعها لا ينفعه الأسف عند هجومها«.

وعلى الرغم من أنٌ الرؤية الداعمة للتفكير العلمي في المستقبل تجد إستجابة وإنتشارا وهو الأمر يؤكٌده نموعدد الدراسات الإسلامية ذات العلاقة بالموضوع، إلا أنٌ هذا التحول الايجابي لمٌ يؤد الى الإرتقاء بواقع التفكير العربي-الإسلامي في المستقبل إلى المستوى الذي يمهد لبناء انسان ينحاز إلى المستقبل تفكيرا وسلوكا. ويؤكٌد زكي الميلاد أنٌ مردٌ ذلك يكمن في أنٌ »…هذه الدراسات )استمرت( تفتقر للتواصل والاستمرار ولا يتمثل بها جهدا تأسيسيا أوغائيا«. ونراه مصيبا.

وأمٌا عن الرؤية الرافضة للتفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية، فهي تؤكد أنّ معرفة الإنسان لا ينبغي أنٌ تتعدى حدود الماضي والحاضر انطلاقا من أنٌ ما لمٌ يقع لا يستحسن الخوض فيه. كما أنٌ معرفة المستقبل هي من الامور التي يستأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها. ومن هنا دعا أصحاب هذه الرؤية إلى تجنب الإنشغال بالمستقبل، بل أنٌ الغلو ذهب إلى رؤية هذا الإنشغال وكأنه تعديا على المقدسات الآلهية.

إنٌ نقص المعرفة لدى شرائح عربية إسلامية عن علاقة التداخل بين الإسلام والمستقبل سهل تماهي كثير من المسلمين مع هذه الرؤية الرافضة لإستشراف المستقبل بل وأدى إلى الإخذ بنمط من التفكير في عموم العالم الإسلامي جعل الحياة الدنيوية وكأنها محكومة بالقضاء والقدر حكمٌا مطلقا ولاغير.

 ويفند المستقبلي والمفكر العربي الإسلامي، محمد بريش، هذا النمط من التفكير قائلا: »إنٌ الكد والجد والاخذ بالاسباب جاء بها الكتاب والسنة كأمر«. كما أنه، في موضع أخر دعا إلى دفع القدر بالقدر ورأى أنه نوعان: »أحدهما هو دفع القدر الذي قد إنعقدت أسبابه بأسباب أخرى من القدر تقابله فيمتنع وقوعه كدفع العدو بقتاله. اما النوع الثاني فهو دفع القدر الذي وقع واستقر بقدر أخر يرفعه ويزيله كدفع قدر المرض بالتداوي، ودفع قدر الإساءة بقدرالإحسان«.

ونرى أنٌ الرؤية المناهظة للتفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته إنما تخلط بين مضامين مفهومين مختلفين بالضرورة، هما إستشراف المستقبل، والعلم بالمستقبل.

يُعبٌر مفهوم إستشراف المستقبل عن ذلك الجهد الانساني الذي يعمد إلى توظيف المنهجية العلمية سبيلا لإستقراء مشاهد تطور الحاضرنحو المستقبل. وبهذا المعنى شبه المتفق عليه لا ينطوي إستشراف المستقبل على أي جهد للتنبوء القاطع بالمستقبل بمعنى العلم به.فمفهوم الإستشراف يتقاطع كليا مع مفهوم التنبؤء. لذا يبقى العلم بالمستقبل حقا ذلك الأمرالذي تنفرد به الذات الآلهية. لذا نتفق مع، مهدي المنجرة عندما يقول: »إن هناك فرق شاسع بين الغيب الذي هوعلم سبحانه وتعالى، وبين إستشراف المستقبل«. بالمعنى إعلاه.

إنٌ تأخرنا على صعيد دراسات المستقبلات لا يُردٌ إلى تأثير المدخلات اعلاه فقط، وأنٌما إلى جميع تلك المدخلات التي أفضت مخرجاتها إلى غياب الرؤية العلمية عن كيفية صناعتنا لمستقبلنا على وفق مصالحنا العليا وأرادتنا الحرة. لذا أنٌ تحرير رؤيتنا الثقافية للمستقبل من كوابحها المتعدٌدة. ومن ثمٌ التعامل مع المستقبل كما لو كان حاضرا معنا هو الذي يُفضي بنا إلى شراء الزمان واختزال الفجوة الحضارية القائمة بين حاضرنا الراهن بإختلالاته الهيكلية المتعدٌدة وبين مستقبلنا المنشود الذي يؤمن صناعة تاريخنا على وفق مصالحنا العليا. ولنتذكر أن المجد لا يُصنع بالتمني، وأنما بالإنحياز الى المستقبل والعمل من أجلة ونحن في الحاضر.

وفي تقديرنا أنٌ المهمة الكبرى المطروحة على الفكر العربي المعاصر تكمن في ابتكاراصالة عربية مستقبليىة تتفاعل إيجابيا مع معطيات الحاضروالمستقبل على نحوٍ خلاق. وقد لا يمكن بلورة هذه الاصالة إلا بعد إجراء نقد عقلاني للمدخلات الداخلية التي تحول دون ذلك، فضلا عن تبني إدراك موضوعي لمعطيات عالم يتغير وبكل تحدياته وفرصه.

*استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات

العدد 89 –شباط 2019