شارلوت برونتي الكتابة امتلاء الرّوح

بيروت من ليندا نصار

البعض يعتبر أنّ الإبداع يولد من الألم ومن قيود المعاناة، والبعض الآخر يجده في الفرح والحرّيّة، فتتفتّح الموهبة، وتصبح التجربة أكثر وعيا ونضوجا مع مرور الوقت. نتناول هنا الإبداع في الكتابة الّتي تُشعر الإنسان بامتلاء الروح كما تحثّه على أن يحقّق من خلالها السّعادة المفقودة، ويرمّم الذاكرة الممتلئة بالشّقوق بوساطتها أيضا. بالكتابة يعبّر المبدع عن نقص اللّحظة حيث العودة إلى النّفس والالتفات إلى عوالمها، ومساءلتها لتحافظ على اتّزانها. إنّها الفضاء المغاير الذي يبحث عنه كلّ كاتب وفنّان ليبتدع عالما يبني فيه أسئلته الخاصّة، وهذا ما يميّز تجربة كلّ واحد لتكون لافتة ومختلفة. هذه الكتابة لا تتمّ إلا باستحضار الذاكرة لمشاهد نظنّ أنّها عبرت الأسفار، وشكّلت جزءا من ماضٍ مبتور أو قد لا يعود أبدا، لكن ما يلبث المبدع أن يجدها بفعل انتقالها من المنطقة اللاوعية إلى مكان أكثر وعيا، فيدرك ويتقبّل الماضي من خلال هذا العمل الإبداعيّ لتصبح الكتابة فيما بعد، بالنسبة إلى الكاتب، مأزقا جميلا ومريحا لا فرار منه، وتصبح علاقته بها كعلاقة حبيب بحبيبته، خصوصا بعد أن يكون قد عاين التّخييل الذي فتح له فضاءات واسعة ليمارس فيها حرّيّته وتمرّده. وهذا ما بدا لدى الشّاعرة والرّوائيّة »شارلوت برونتي« الّتي تعدّ من رائدات الرّواية الإنكليزية العالميّة في القرن التّاسع عشر.

نستعرض هنا لمحة خاطفة عنها:

 ولدت »شارلوت« في ثورنتون، يوركشاير عام 1816عاشت مع عائلة محافظة من أب إيرلنديّ ينتمي إلى طبقة رجال الدين، وأمّ ربّة منزل وامرأة بسيطة. عرفت »شارلوت« مع أخواتها باسم »الأخوات برونتي« وقد كانت العائلة مبدعة ذات موهبة كتابيّة عالية.توفّيت والدتها إثر تعرّضها للمرض وهي في الخامسة من عمرها بعد أن انتقلت العائلة إلى مدينة هاوارث، فكانت الصدمة الأولى فاجعة تمسّ عمودا أساسيّا من أعمدة العائلة. هذه المأساة التي حلّت بالرّوائيّة، جعلتها في حالة من الفقدان والألم واليتم، وقد جعلت من الفتاة أكثر حكمة ونضوجا بالنّسبة إلى الفتيات اللّواتي في مثل سنّها. درست »شارلوت« في مدرسة خاصّة بأبناء رجال الدين نظرا إلى أنّ والدها كان ينتمي إليهم. وازدادت الظّروف وأصبحت أكثر تحكّما بحياة الأولاد، ما أثّر في تربيتهم وتكوين شخصيّتهم فكانت صورة الحياة المفقودة والمحرّمة عليهم، تراودهم

شارلوت برونتي

فيحلمون بها لأنّهم لم يكونوا منخرطين في المجتمع بسبب قسوة الوالد الذي ارتضى أن يسكن في بيت بعيد عن الناس، ومنع أولاده من معاشرة الآخرين، كما حاول تلقينهم الدروس الدينيّة، وترهيبهم من فعل الشرّ والحياة الآخرة، داعيا إيّاهم إلى الخير. فكانت عين الرّقيب ترافقهم في كلّ تصرّف. وهذه الحالة عادة تُنتج امّا الخضوع للخوف والأفكار التي تلقّن للأولاد في مثل هذه السّنّ، وإمّا التّمرّد على الأعراف والتقاليد والأفكار المسبقة والثّقافة الموجّهة. هذه العزلة الّتي فرضت على »برونتي« من والدها، تعتبر بمنزلة جحيم للإنسان الهارب من مواجهة نفسه. أمّا الكاتب، فيعتبرها نقطة انطلاق في عالم معرفة ذاته بعيدا عن صخب هذا العالم بما فيه من انهزامات، وأحزان، وخيبات.

هكذا عاشت »شارلوت برونتي« في ظروف كوّنت موهبتها، وغذّتها، وجعلتها أكثر اندفاعا وتمرّدا. لم تمنعها حياتها القاسية من طموحها، ولم تحدّ من أحلامها. بل كانت تنظر إلى العالم، بتمرّد وصبر، من ثقب سجنها الّذي كان بمنزلة منظار كونيّ، يجعلها تطلّ به على الكون. فبدأت النّشر مع أختيها، وحملت رواياتها أسماء ذكوريّة مستعارة، خوفا من والدها. وما لبثت أن كشفت عن الحقيقة في وقت لاحق.

في هذا الصّدد كتبت »شارلوت«:

 »في معارضة للدعاية الشخصية، أخفينا أسماءنا الأصلية خلف كيور، إليس وأكتن بيل. اخترنا هذه الأسماء الغامضة على ضوء رغبة في استخدام أسماء ذكورية مسيحية بشكل إيجابي، حيث لم نكن نود أن نعلن أننا نساء، لأنه في ذلك الوقت كان سيتم التعامل مع طريقة كتاباتنا وتفكيرنا على أساس أنها »أنثوية«. كان لدينا انطباع قوي أن مؤلفاتنا سينظر إليها باستعلاء، حيث لاحظنا كيف يستخدم النقاد في بعض الأحيان أسلوب مهاجمة الشخصية كوسيلة عقاب، وأسلوب الغزل كمكافأة، وهو ليس بالمدح الحقيقي.«

 لم يكتف القدر بالفاجعة الأولى التي تعرّضت إليها برونتي، بل مناها بأختيها اللّتين كانتا موهوبتين أيضا. فجاءت الكتابة علاجا فعّالا لروح الفتاة المجروحة والمتألّم من الفقدان والغياب.

 تزوجت شارلوت »بآرثر بيل نيكولز«، مساعد والدها، وحملت توفيت »شارلوت«، مع ابنها الذي لم تلده، في 31 مارس 1855.

حملت رواياتها صفة العالميّة وقد عمل عليها بعض المخرجين كأفلام لتلاقي نجاحا كبيرا وتحظى بمشاهدات عديدة ومن أشهر رواياتها وبحسب الإنترنت نذكر:

 جين آير Jane Eyre، نشرت عام 1847 (عمل سينمائي)

 شيرلي Shirley، نشرت عام 1849

 فيليت Villette، نشرت عام 1853 (عمل سينمائي)

 البروفيسور The Professor لم تحظ بالنشر إلا بعد وفاة شارلوت برونتي عام 1857

 إيما (وهي رواية غير مكتملة، تم كتابة 20 صفحة منها فقط من قبل شارلوت برونتي، وتم نشرها أيضا بعد وفاتها عام 1860).

إذا ما غصنا أكثر في أسلوبها الكتابيّ، وإذا ما اطّلعنا على طريقة السّرد المحكم، يمكننا أن نكتشف شاعريّة »برونتي«، أمّا ما يكشف عن رومنسيّة الكاتبة وقوّة شخصيّتها وإصرارها، فهو المواضيع الحسّاسة الّتي تناولتها والّتي تختصّ بالحبّ وبوضع المرأة وضرورة تحريرها من القيود المتحكّمة بها، ومن العنف الّذي كانت تتعرّض له في القرن التّاسع عشر، وما زال مستمرّا حتّى اليوم في بعض البلدان. شخصيّات رواياتها جزء من السّياق الاجتماعيّ الّذي كان سائدا آنذاك، فجاءت عمليّة التّصوير كاشفة عن حالات من الموت الرّمزيّ الّذي يعيشه الإنسان المتألّم يوميّا، بحيث يصير هذا الألم رفيقا له، وهذا ما نلاحظه في شخصيّة »جين اير«. كما تكشف الرّواية عن اللّحظة التّاريخيّة الّتي حدثت فيها التّحوّلات الاجتماعيّة والثّقافيّة… وتوثّقها.

في نصوصها تكتب »شارلوت برونتي« عن الذّات الإنسانيّة في كلّ فصولها، وتعبّر عن هشاشة الكائن البشريّ الّذي يلتقط نثار الأمل من بين الآثار السّلبيّة المؤثّرة في مسعاه.

رواية جين اير

 »شارلوت برونتي« روت لنا سيرة »جين آير« وإذا ما قارنّاها بسيرة حياتها الخاصّة، لاحظنا أن ثمّة مشاهد متّصلة بها إلى حدّ كبير. تجدر الإشارة إلى أنّ »برونتي« تختار عناوين رواياتها وتسمّيها بوحي من الشّخصيّات والأمكنة الّتي أثّرت فيها، ما جعلها متقنة، متميّزة بقوّة طّرح المواضيع.

 تعتمد »شارلوت برونتي« استراتيجيّات وتقنيّات سرديّة ما يدلّ على إلمامها الكبير بالكتابة. فلا ريب في أن تحقّق هذه النّجاحات سواء في الرّواية المقروءة، أم المصوّرة المتحوّلة إلى أفلام سينمائيّة. روايات »برونتي« تكتب عن المجتمع في بناء جماليّ يظهر خصوصيّة وتميّزا. ففي رواية »جين اير« أيضا يمكننا تحليل التّربية والظّلم الّذي يتعرّض له الأطفال في المدارس خصوصا الدّاخليّة منها آنذاك، كما يمكننا الالتفات إلى وضع المرأة وعلاقتها بالرّجل، وإلى المجتمع بوصفه مبنيّا على أساس الطّبقيّة، ومواضيع أخرى لم نأت على ذكرها هنا…

مقتطفات من كتابات »شارلوت برونتي«:

 » – لقد حاولت أن أنساك، فعلت كل شيء، حاولت أن أشغل نفسي باستمرار، لماذا لا أملك أن أشعر نحوك بنفس القدر من الصداقة الذي تشعر به نحوي من دون زيادة أو نقصان، لو أنّني استطعت لتحرّرت، ولكن في وسعي أن أصمت لسنوات، إنّني أسألك صنيعا يا سيّدي… حدّثني عن أطفالك تكلّم عمّا يحلو لك يا أستاذي لمجرّد أن أحظى بحديثك فإنّه بالنسبة إليّ بمثابة الحياة، فـأمّا أن تمنعني الكتابة، وأما أن ترفض الردّ، فكأنّك تنتزع منّي السعادة الوحيدة التي حظيت بها من دنيـاي، وتنتزع منّي آخر نعمة لدي«.

– في رسالتها لأستاذها قسطنطين هيجر تقول:

 »- سيدي، إن الفقراء لا يحتاجون إلى الكثير ليصونوا بقاءهم في الحياة، بل إنهم لا يرجون سوى الفتات الذي يتساقط عن مائدة الغنيّ، وأنا الأخرى لا أطمع في غير قسط ضئيل من عطف من أحبّهم، إذ إنّني لا أدري ما الذي أفعله بالولاء الكامل…«

– في مكان آخر كتبت:

 »إن الكُـتّاب ليخطئون إذ يصرّون على أن يجعلوا من بطلاتهم جميلات، ويتّخذون من هذا قاعدة ولسوف أثبت أنّهم مخطئون، سأقدّم بطلة خالية من الجمال ضئيلة الجسم مثلي تماما«

العدد 90 – اذار 2019