مصر وقرن من الزمان على الحرب العالمية الاولى

صفحات التسلط الاستعماري وركائزها من السخرة والاستبداد

كيف ولدت ثورة 1919 من رحم الحرب العالمية الاولى ؟

أمين الغفاري

مر قرن من الزمان على نهاية الحرب العالمية الأولى بكل ماجرى فيها من ألوان الأستبداد والسخرة على الشعوب المستعمرة تحت شعارات مزورة، وباسم نداءات الحرية وحق تقرير المصير لتلك الشعوب، وتلك هي النغمة الوحيدة التي ما فتأت القوى الاستعمارية تعزفها، وحتى الآن ما زال هو اللحن الواحد في كل حروبها وأنها تقوم بالدفاع عن الحرية وأمن الشعوب وخلاصها، وأن الديموقراطية على الدوام ومجتمعها الليبرالي كانوا هما المقصد والغاية، وأن كل من رفعت السلاح في مواجاهتهم، كانوا من حفنة الديكتاتورين المغتصبين المتسلطين على شعوبهم.

في الحربين العالميتين الذي شهدهما العالم وأكتوى بأتونهما، كانت الأحداث تفرض نفسها على مصر. فقد كانت خلال تلك الحربين احدى المستعمرات البريطانية، منذ دخولها الى الأراضي المصرية عام 1882 وضرب الثورة العرابية، ودعاويها بعد ذلك من خلال تصريح (اللورد جرانفيل) وزير الخارجية البريطانية في 3 يناير عام 1883(أن لامطامح لبريطانيا في مصر سوى عودة الأمن والنظام) ومع ذلك استمر الاحتلال أكثر من سبعين عاما.

في الحرب العالمية الأولى (28 يوليو 1914 – 11 نوفمبر 1918) قام حسين رشدي باشا رئيس الوزراء المصري والقائم بعمل الخديوي عباس حلمي الثاني نظرا لسفره الى استانبول، باعلان حياد مصر، حتى لايزج بها في أتون حرب لامصلحة لها فيها، علما ان مصر كانت حتى ذلك الحين احدى ولايات الدولة العثمانية. قامت بريطانيا من جانبها باعلان الحماية على مصر في 19 ديسمبر 1914، وكذلك الأطاحة بالخديوي عباس حلمي الثاني وهو الحاكم الشرعي لمصر لميوله للدولة العثمانية، ومنعه من الرجوع الى البلاد، نظرا لمواقفه السابقة المناهضة

الخديوي عباس حلمي الثاني
تم عزله لدوره الوطني في مواجهة الاحتلال

للأحتلال البريطاني ومؤازرته للحركة الوطنية المصرية المناهضة للأحتلال، وكانت علاقته بأحد أعلام الحركة الوطنية مصطفى كامل غير خافية على أحد، كما اعلنت تنصيب (السلطان حسين كامل) ابن الخديوي اسماعيل حاكما على مصر واطلاق لقب(السلطان) عليه عوضا عن لقب (الخديوي) تأكيدا على فصل مصر عن الدولة العثمانية. لم يستطع رشدي باشا الأستمرار على مبدأ الحياد الذي سبق وان اعلنه، وتحت زعم أنه من الأفضل لمصر أن تغير من حالتها السياسية من كونها تابعة للدولة العثمانية الى مستعمرة بريطانية تضم الى الامبراطورية، على أمل أنها تستطيع مستقبلا التفاوض على تحسين وضعيتها. تحت هذا الزعم أتخذ مجلس الوزراء قرارا بالدخول رسميا في حالة حرب الى جانب الحلفاء يوم 5 أغسطس عام 1914. ترتيبا على ذلك قامت سلطة الأحتلال بتعطيل كل وسائل الراي والتشريع والتعبير ابتداء من الهيئة البرلمانية الى الرقابة على الصحف والبرقيات وكل وسائل الاتصال أو الأجتماع، وظهرت بعض الصحف ببعض الفراغات البيضاء في صفحاتها، نتيجة لعمليات الحذف المتكررة.

القرية والسلطة في مصر

يذكر الدكتور علي بركات استاذ تاريخ مصر الحديث أن الذين استخدمتهم بريطانيا كدولة احتلال في تلك الحرب من المصريين لم يكونوا في عمومهم ضباطا وجنودا بقدر ما كان معظمهم مواطنين من الفلاحين وبعض الفئات الاخرى عن طريق القهر والاجبار، وامتد ذلك الى الأستيلاء على الدواب من خيل وحمير، وعلى المحاصيل الزراعية خاصة القمح، ثم باجبار هؤلاء الفلاحين عن طريق السخرة بخدمة بريطانيا والحلفاء، وضرب في ذلك مثلا بابراهيم باشا حليم الذي كان مديرا لمديرية (جرجا) خلال عام 1916 والنصف الاول من عام 1917 ورجال الحكومة في محافظته الذين يدخلون القرية وينتظرون رجوع الفلاحين الى منازلهم وقت الغروب فيحدقون بهم وينتقون أقدرهم على الخدمة، فاذا رفض أحدهم قاموا بجلده حتى يحصلون على اقرار بالقبول، وعلى هذا النحو ساقوا صبية في الرابعة عشر من العمر وشيوخا في سن السبعين الى مواقع الخدمة لجيش الاحتلال. ذكر الدكتور بركات أن

الوثائق البريطانية تشير الى ان عدد العمال المصريين الذين كانوا يعملن لدي الجيش البريطاني ازداد

تدريجيا باتساع ميادين القتال، حتى وصل في عام 1917 الى 247 الف عامل، ثم عاد وارتفع في عام

1918 الى 320799 عاملا. يشير الدكتور بركات كذلك الى مرجع آخر كتبه المؤرخ عبدالرحمن الرافعي ذكر فيه ان العمال الذي تم تجنيدهم في السلطة، كانوا يعملون في ظل ظروف بالغة القسوة في البلاد، التي رحلوا اليها في فلسطين، أوفي الجبهة الفرنسية، أوغيرها من الجبهات.

مصر معسكرا للقوات الامبراطوريه

تذكر الدكتوره لطيفة سالم في مؤلفها (مصر في الحرب العالمية الأولى) أن قرار(5 أغسطس عام 1914) قد أقحم مصر في الأنضمام الى انجلترا في الحرب، ومنذ اللحظة الأولى عملت على جعل مصر معسكرا لقواتها وقوات حلفائها اذ أن موقع مصر الأستراتيجي ووجود قناة السويس وهي الشريان الحيوي للأمبراطورية البريطانية جعل مصر بالغة الأهمية في أن تكون في جانبها، وراحت توالي استعداداتها داخل مصر، وأصبحت الأسكندرية قاعدة لحملة البحر المتوسط ومركزا لقيادة القوات، وشهدت البلاد طوفانا من جنود الامبراطورية من كل ملة ولون وجنس، والأغرب من ذلك أن مصر وحدها هي التي تحملت نفقات وتكاليف المعسكرات التي أقيمت على أرضها، فقد قرر مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 11 نوفمبر 1915 الموافقة على فتح اعتماد بمبلغ 8198 جنيها لوزارة الحربية لأنشاء معسكرات وفرق هجانه  »على ذمة شبه جزيرة سيناء« وكذلك قرر المجلس بعدها بستة أيام الموافقة على فتح اعتماد بمبلغ 3357 جنيها لوزارة الحربية  »على ذمة نفقات المعسكرات وفرق الهجانة التي تقرر انشاؤها« ثم جراء الحملة التي نظمت في منطقة (دارفور) تحملت المالية المصرية نفقات هذه

حسين رشدي باشا رئيس الوزراء
أصدر مرسوما بدخول مصر الحرب الى جانب الحلفاء

الحملة ووافق مجلس الوزراءعلى اعتماد مبلغ 35815 جنيها بميزانيةوزارة الحربية لسد النفقات اللازمة من اول يناير الى آخر مارس عام 1917 لأجل احتلال دارفور. هكذا مضى الامر في استنزاف أموال الشعب المصري، ثم تطور الأمر الى استغلال المصريين أنفسهم بالسيطرة عليهم لخدمة انجلترا وحلفائها، وقد ساهمت مصر بمجهود حربي وافر في هذه الحرب لدرجة اعتراف قواد انجلترا انفسهم واشادوا بتلك المساعدات التي رجحت كفتهم وحلفائهم، رغم انهم في تصريحاتهم الاولى اعلنوا ان مصر لن تتحمل شيئا في التكاليف ثم ما لبثوا ان ضربوا بذلك التصريح عرض الحائط.

دور الجيش المصري

قام الجيش المصري بالمشاركة في معارك عدة وعلى جبهات متعددة منها الفصائل التي حاربت في شبه الجزيرة العربية لمساعدة شريف منطقة الحجاز الذي أعلن الثورة على الدولة العثمانية، وقد ذكر لورنس العرب أنه وجد في وادي صفرا معسكرا للجيش المصري تحت قيادة الماجور (نافع بك) وكان لذلك اسهامه في التصدي للترك. كذلك ساهم الجيش في العمليات الحربية على حدود مصر الغربية ضد جيش السنوسي والجيش الالماني وأحبط عملية الغزو لمصر بعد تقدمهما لأحتلال مرسى مطروح وسيوة والداخلة والخارجة، ثم حدثت معركة (عجاجيا) وانتصرت القوات المصرية وتم أسر(جعفر باشا) رئيس أركان الجيش العثماني في ليبيا. كما أن هناك عددا من الضباط والجنود المصريين قد حاربو في أكثر من جبهة في الدردنيل وفي غيرها، مما يطول شرحه يضاف الى ذلك أنه مع بداية عام 1916 أتيح للسلطة العسكرية استدعاء الرديف المصري وكان عدده 12 الف وهو الجيش المدرب على الاعمال العسكرية والذي قضى المدة المقررة تحت السلاح بمقتضى قانون العسكرية المصري وقدرها خمس سنوات ويستمر تحت طلب الحكومة بصفة احتياطي مدة خمس سنوات اخرى لأستخدامه في تنظيم التشهيلات اللازمة للدفاع عن قناة السويس بعدما اصبحت معرضة لغزو عثماني ألماني مرة ثانية وعلى ذلك رفع اسماعيل سري وزير الاشغال بصفته وزير الحربية والبحرية في 20 يناير مذكرة الى حسين رشدي باشا تتضمن مشروعا وزاريا يطلب افراد الرديف في جميع الفرق للخدمة العسكرية ماعدا من كان منهم في خدمة الحكومة وذلك بناء على طلب قائد عموم القوات البريطانية في مصر ولم يلبث 20 يناير عام 1916 ان يمر حتى وافق مجلس الوزراء، والجدير بالذكر أن أنجلترا رأت في أول الأمر أن تستأجر أفراد الرديف، ولكن الحكومة المصرية رفضت وعبر عن

 ذلك مسؤول بها قائلا (أني آنف أن يقال عني أني أؤجر رجالي للذود عن قنالي بمال غيري وليس بمالي)، في نفس الوقت لابد من الأشارة الى أن الرديف المصري لم يكن راضيا عما أصابه، فتعددت الأنتفاضات، وحدث صدام بينهم وبين رجال البوليس مما حدى في النهاية الى ترحيلهم خارج العاصمة، وفر بعضهم خارج الخدمة من بلدة الى أخرى.

قصة شاهد عيان من الجبهة الفرنسية

يشير الدكتور عصمت سيف الدولة في مذكراته، التي تم نشرها عن دار الهلال عام 1966، تحت عنوان(مشايخ جبل البداري) حسب رواية شاهد عيان من الفلاحين، الذين عملوا في الجبهة الفرنسية. حكى يونس عبدالله من قرية (الهمامية) مركز البداري أسيوط، أنهم عملوا في حفر الخنادق، في ظروف تساقط المطر والثلج، وأنه سافر الى فرنسا مع مجموعة يزيد عددها على خمسمائة فرد، جرى تقسيمهم الى فرق، وعلى كل فرقة رئيس عمال، وضمت الفرقة الي كان فيها يونس افرادا من قرى مركز البداري، وعهد الى ضابط (مغربي) يتكلم العربية، وكان معسكر العمال الذي ضم هذه الفرقة يبعد نحو ثلاث ساعات عن ميناء (كاليه) الفرنسي وأعطي كل فرد ثلاثة ألواح من الخشب لكي ينام عليها، مع ثلاثة بطاطين وحذاء برقبة، وكانت تلك غاية ما يحصل عليه، وتكتمل الرواية على لسان المشاهد، أن أحدهم مات متجمدا من البرد،

قوات من سلاح الهجانة المصري في الحرب العالمية الاولى

وكان أن حملته عربة يجرها أحد البغال الى مكان مجهول، ولم نسمع عنه شيئا بعد ذلك. يستطرد الشاهد في قص روايته، ويقول أنهم أضربوا عن العمل، وأخبروا الضابط المغربي بأنهم يريدون العودة الى بلادهم، وبعده حضرت قوة فرنسية يقودها ضابط فرنسي برتبة جنرال، وقال لهم نحن نحارب وأولادنا تموت وأنتم ترفضون العمل.. نحن نعرف حالتكم قبل أن تحضروا الى هنا.. حقيقة أنتم متعبون، لكنكم تعيشون عيشة الآدميين بدلا من عيشة الكلاب التي كنتم تعيشونها.. عند ذلك الحد ثار رئيس المجموعة وقام بضرب ذلك القائد الفرنسي بالكوريك فشق صدره، وفي لحظة فتحت القوة المصاحبة له النار على المجموعة فماتوا جميعا، ووجد الراوي – أي يونس- نفسه بينهم ملقى على الارض، فنصحه الضابط ذو الأصل المغربي بألا يتحرك، ثم حضرت عربتان خشبيتان، وبعد التأكد من موت الشخص كان يلقى به في العربة، فلما وصل الجند الى الراوي – اي يونس – أخبرهم الضابط المغربي بأنه جريح، ثم أمره أن يتحرك حتى لايظنوه ميتا، ثم تركوه في الخيمة لمدة أسبوع، وبعدها أعادته السلطات الفرنسية الى ميناء(كاليه) حيث أعادته باخرة الى ميناء بورسعيد في مصر.

الحرب العالمية وثورة 19

قامت الامبراطورية البريطانية التي كانت لاتغرب عنها الشمس، على جماجم الضحايا من العهد الاستعماري الذي امتص دم الشعوب، وسلب منها رغيف الخبز ورشفة الماء. هكذا رأينا في التجربة المصرية مع العهود الاستعمارية، وكانت الأمبراطورية البريطانية بعد العثمانية أشدها مرارة، وأتعسها ذكرى. في الحرب العالمية الأولى قدمت مصر العون دما وعرقا ومالا، ومع ذلك لم يتنكر الحلفاء لوعودهم بحق تقرير المصيرفحسب، بل تآمروا لتقسيم المنطقة، وقاموا بتوزيع المغانم فصدر وعد بلفور باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ثم قسمت التركة العثمانية على الدول الحليفة، أي أننا بذلنا الدم لنستبدل استعمارا باسم الدين ودولة الخلافة باستعمار جديد باسم الحماية والوصاية والأنتداب بالأضافة الى تقسيم الأرض الى دول ان لم يكن لدويلات، ثم دخلنا الى عصر الأحلاف.

هكذا كانت ثورة 1919 المصرية انفجارا لتراكمات من احداث متوالية ومتتالية، ونتيجة لتعبئة زعامات مثل احمد عرابي ومصطفى كامل ومحمد فريد قامت لكي تسترد الأمة استقلالها وحريتها، وكانت قيادة سعد زغلول هي التتويج لكفاح وتعبئة تلك القيادات التي حملت الأمانة. الحرب العالمية الأولى هي احدى البوتقات التي انصهرت فيها الروح الوطنية، وكشفت عورات الأستعمار ومداهناته، والتي أدت في النهاية الى ثورة شعبية كانت نموذجا ومثلا لأرادة الشعوب وأدت في النهاية الى اعلان دستور عام 1923 وتصريح 28 فبراير 1922 باعلان استقلال مصر.

العدد 96 – ايلول 2019