دراسات المستقبلات: القوى الاسيوية البازغة وصناعة الارتقاء الحضاري

أ. د. مازن الرمضاني*

تنطوي السياسة الدولية ومنذ انتهاء الحرب الباردة في عام 1991 على تحولات نوعية مهمة. وبسبب من مخرجاتها لم يعد هيكل السلطة الذي كان مهيمنا على تفاعلات ما بعد الحرب العالمية الثانية قائما. فعلى انقاضه يتشكل هيكل جديد تؤشر المعطيات الدولية الراهنة انه سيكون مختلفا اختلافا جذريا عن ذاك القديم.

إن عصرنا كما أكد في وقته المستقبلي الأمريكي الفين توفلر هو عصر تحول السلطة. إن هذا التحول لم يكن بمعزل عن اثرمخرجات قانون تاريخي ثابت هو قانون التغيير وانماط الحركة المتجددة والمتدفقة الناجمة عنه وتراكمات افرازاتها وقوة دفعها باتجاه الجديد. وتقترن مكونات بعض هذه الانماط بسلوك قوى دولية ترتقي تدريجيا وبثبات إلى مستوى الدول الكبرى/أو العظمى تسمى بالقوى الدولية البازغة أو الصاعدة.

وكما ان الرؤية الموضوعية لا تستطيع التنكر لدور وتأثير الدول الكبرى والعظمى التقليدية: الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي في صناعة التفاعلات الدولية كذلك لا تستطيع اسقاط دور وتأثير هذه القوى الدولية البازغة في بلورة حصيلة هذه التفاعلات والهيكل الدولي الجديد.

وفي ضوء واقعها الجغرافي، واصلها الحضاري، ينتمي بعض هذه الدول البازغة إلى الغرب كألمانيا وبعضها الاخر إلى الشرق كالصين واليابان والهند مثلا. وتلتقي هذه الدول في قاسم مشترك يكمن في تجذر إرادتها على تأمين الارتقاء الحضاري داخليا سبيلا لأداء دور دولي فاعل يتماهى ومخرجات هذا الارتقاء الداخلي..

وسيصار، في هذا المقال التركيز على ارتقاء القوى الأسيوية البازغة حصرا. وتفيد تجربة هذا الارتقاء أنه يؤشر سمات فريدة ومثالها الآتي:

أولا إنها استطاعت انجازه خلال فترة زمنية قصيرة لاحقة على نهاية الحرب العالمية الثانية. فالنهضة اليابانية بدأت خطواتها الأولى مباشرة بعد انتهاء هذه الحرب. أما التجارب الاسيوية الأخرى فانها ترجع الى بضعة عقود من الزمن ولا غير. فبينما بدأت مثلا تجربة سنغافورة في عام 1965، لم تنطلق الصين عمليا في عملية التحديث الداخلي الشامل وتوظيفها دراسات المستقبلات دعما لهذه العملية إلا بعد وفاة ماوتسي تونغ في عام 1976. أما تجربة كوريا الجنوبية فتعود إلى عام 1980.

 وتبرهن التجربة الاسيوية إن الارتقاء الحضاري لا يحتاج إلى فترة طويلة جدا من الزمان حتى يتحقق. وتبعا لذلك تضحى تلك الرؤية التي تؤكد على أن تجربة الغرب في التحديث مع أهميتها هي النموذج الذي ينبغي الاقتداء به رؤية ناقصة في الأقل.

 أما السمة الثانية، فمفادها أن الارتقاء الأسيوي السريع لم يكن مرهونا بعرق محدد أو خلفية ثقافية معينة. فإلى جانب تجارب المجتمعات الاسيوية ذات الاكثرية الصينية تبرز اخرى مهمة هي تجربة مجتمع أسيوي أكثريته من المسلمين هو المجتمع الماليزي.

وعليه نتساءل: ما الذي ادى إلى صنع هذا الارتقاء الحضاري الاسيوي؟

بدون الدخول في الآراء المتعددة ذات العلاقة والتي لسنا بصددها نرى أن هذا الارتقاء كان حصيلة لجهد الانسان الأسيوي أساسا. ومثلما تؤكد التجربة الانسانية أن الارتقاء الحضاري لا تصنعه متغيرات مادية و/أو فكرية فحسب وانما كذلك الارادة البشرية. ولنتذكر أنها صانعة التحولات الكبرى في تاريخ الشعوب والدول. ونرى أن هذا الجهدالأسيوي كان محصلة لتفاعل اربعة متغيرات أساسية:

فإما عن المتغير الأول فهو التعامل الكفوء مع الزمن. فالانسان الأسيوي يتعامل مع الزمان تعاملا ارتبط أساسا بالحركة والتغيير وأدواتهما. ولم يؤد ذلك إلى أن يفقد الزمان مفهومه الدهري فحسب وإنما إلى أن يتعامل هذا الانسان مع الزمان تعاملا ابداعيا. فيوم العمل في اليابان مثلا هو الاعلى انتاجا. فبعد خمس سنوات فقط على خسارتها في الحرب العالمية الثانية، بلغ معدل النموالاقتصادي لليابان نحو 121 وبذلك كان الاول في العالم في وقته.

 ومنذ الانفتاح الواسع على العالم بعد نهاية السبعينيات والناتج المحلي الاجمالي الصيني يسجل اعلى معدل نمو في العالم وعلى نحو يتراوح بين 8- 10 تقريبا. وتؤكد آراء أن الاقتصاد الصيني سيكون في عام 2025 الاول من نوعه في العالم شرط استمرار معدل نموه الحالي.

أن هذا الانجاز الفريد لم يكن بمعزل عن أثر نظام القيم السائد في المجتمعات الاسيوية. ففي هذه المجتمعات تذوب الانا في مجمل الجماعة الاجتماعية أي المجتمع عموما ولصالحها أساسا، هذا على خلاف سواها من المجتمعات الاخرى. لذا يعد الانضباط والتنظيم الاجتماعي سمات أسيوية فريدة، وهوالامرالذي أتاح للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية في الدول الاسيوية توظيف هذه القيم وسواها لدعم النجاح الاقتصادي والانتاج المبدع للثروة.

وإما عن المتغير الثاني فهو يكمن في تبني سياسات تنموية بنكهة أسيوية. من المعروف أن الاقتصاديات الاسيوية، باستثناء الصين التي تنفتح على الاقتصاد العالمي ولا سيما اقتصادات حافة المحيط الهادي، تعد جزءا من النظام الرسمالي. غير أن الاسيويين يرون أن نظامهم الاقتصادي يطرح، إلى جانب النظم الاقتصادية المعروفة نظاما ثالثا. فالتنمية في هذه الدول لم تتحقق جراء دور القطاع الخاص فقط، وانما أيضا جراء الدور التدخلي للدولة وتوجيهها لقوى السوق نحو تلك المسارات التي تؤمن تحقيق أهداف اقتصادية منشودة. لذا لم تكن الليبرالية الاقتصادية في هذه الدول شرطا لازما للارتقاء الاقتصادي.

واتساقا مع هذه الرؤية فلقد تبنت الحكومات والشركات الاسيوية، وضمن تخطيط بعيد المدى توليفة من الآليات رمت بها إلى تأمين درجة عالية من الانتاج والنمو الاقتصادي. ومن بينها، ايلاء دور القيادة الادارية في التخطيط والتوجيه والمتابعة لجهد الفرد العامل كما ونوعا، أولوية متميزة. هذا اضافة إلى تغليب النهوض الاقتصادي على سواه. وتقدم الصين أنموذجا بهذا الصدد. فادراك القيادة الصينية أن الانصراف إلى تأمين التفوق العسكري ينطوي بالضرورة على تحمل اكلاف باهظة تؤخر عملية النهوض الاقتصادي الامر الذي دفعها ومنذ نهاية السبعينيات إلى البدء ببرنامج واسع للتحديث الداخلي يولي هذا النهوض أولوية متقدمة على سواه. وتجدر الاشارة إلى أن الانفتاح الصيني الواسع على العالم تزامن ايضا مع نمو قدراتها العسكرية وهو الأمرالذي افضى إلى انعكاسات ايجابية على شعورها الذاتي بالأمن. إن ايلاء الصين نهوضها الاقتصادي مثل هذه الاولوية ينطوي على دلالة مهمة قوامها رفد عملية التحديث الداخلي بما يحقق نجاحها، وأن يكون هذا النجاح ركيزة أساسية لدور دولي فاعل يؤمن تحقيق الغاية النهائية للمشروع القومي الصيني في الريادة والقيادة الدولية.

وإما المتغير الثالث فهو يقترن بتبني الواقعية السياسية الخارجية. تعد الواقعية بمعنى التعامل مع المعطيات الدولية على وفق قوانينها الموضوعية، توجها عاما اقترنت به عبر الزمان، العديد من السياسات الخارجية. فالواقعية كانت سبيلا لاعادة ترتيب البيت الداخلي وتوطيد دعائمه تأمينا لانطلاقة خارجية فاعلة لاحقا.

وإما عن المتغير الرابع فهو يعبر عن مخرجات انحياز العديد من صناع القرار الاسيوي إلى المستقبل. إن هذا الانحياز كان المدخل الاساس وراء الاخذ بدراسات المستقبلات وتوظيف مخرجاتها خدمة لمشاريع الارتقاء المنشودة.

تاريخيا يعود الاخذ بهذه الدراسات اسيويا إلى العقود الاخيرة من القرن الماضي وإن بإزمنة تتباين من دولة اسيوية إلى اخرى. وتجد هذه الدراسات ولاسيما في الدول الاسيوية المتقدمة كالصين واليابان والهند وكذلك في الدول الاسيوية السائرة في طريق النمو والتقدم كتايوان وماليزيا انطلاقة واعدة تدعمها استجابات رسمية ومجتمعية واسعة. وقد دفعت مخرجات هذه الانطلاقة بالمستقبلي الباكستاني الاصل سهيل اية الله إلى الافتراض ان تطور الدراسات الاسيوية للمستقبلات خلال العقود القادمة سيجعل من عموم دراسات المستقبلات تقترن بنكهة اسيوية.

وترد هذه الانطلاقة إلى ادراك صناع القرار في هذه الدول وسواها ايضا ان تأمين الارتقاء الداخلي ومن ثم الخارجي يستدعي الاستعانة بمخرجات دراسات المستقبلات. ومن هنا جاء الاهتمام والدعم الرسمي بانواعه لها. وتجدر الاشارة إلى ان هذا الاهتمام لا يقتصر على المؤسسات الرسمية فحسب وإنما يشمل ايضا المؤسسات غير الرسمية: المجتمعية والاكاديمية.

فإضافة إلى كثرة المراكزالخاصة التي تتخصص باستشراف مشاهد المستقبل، عمدت العديد من الجامعات الاسيوية إلى إدخال هذه الدراسات كمادة علمية ضمن برامجها للدراسات الاولية والعليا سبيلا لتسويق فكرة الانحياز إلى المستقبل تدريجيا داخل مجتمعاتها. فمثلا تُعد كلية دراسات المستقبلات في جامعة كيرلا الهندية من بين ابرز المؤسسات الاكاديمية في العالم اهتماما بهذه الدراسات. وتنفرد جامعة تام كانك التايوانية على صعيد العالم في انها تجعل النجاح في مادة دراسات المستقبلات احد المتطلبات الضرورية للحصول على الدرجة الجامعية الاؤلية.

 وتقدم التجربتان اليابانية والصينية نماذج جلية للارتقاء الحضاري الاسيوي. وسنتناولهما باختصار في ادناه:

فإما عن تجربة اليابان فأنها عمدت إلى تجنب الانغماس المكثف في التفاعلات الاقليمية والعالمية خلال فترة ما قبل السبعينيات من القرن الماضي. ومما ساعد على ذلك تأثير متغيرات خارجية، ابرزها العلاقة الأمنية اليابانية -الأمريكية وكذلك متغيرات داخلية اهمها الكوابح الدستورية وايلاء الاعتبارات الاقتصادية والتجارية في سياستها الخارجية أولوية على سواها.

وتؤكد محصلة هذه التجربة أنها كانت في صالح الارتقاء الاقتصادي الياباني. فاليابان عمدت إلى تجنبت الانغماس السياسي الخارجي المكثف الذي ينطوي عادة على كلفة باهظة الامر الذي أتاح لها فرصة مثلى لتركيز كامل جهدها الداخلي على الانتاج والتطوير. لذا عندما بدأت السياسة الدولية بعد السبعينيات من القرن الماضي، تنعم بالوفاق الأمريكي –السوفيتي كانت اليابان قد اصبحت دولة ناهضة وذات وضع داخلي متين.

 وهذا الوضع ساعدها بدورة على الاخذ برؤية استراتيجية ادت ليس فقط إلى إعادة هيكلة سياستها الخارجية وعلى نحو سهل عليها الجمع بين الاهداف الاقتصادية والاهداف السياسية والاستراتيجية ضمن اطار روية استراتيجية طويلة الامد لكيفية تحقيق الغاية النهائية لمشروعها في الريادة والقيادة ا وإنما كذلك الى منافسة الغرب والتفوق عليه على صعد شتى. وتفيد مخرجات هذه الرؤية أن اليابان بعد أن أنتهت من بناء أعجوبتها الاقتصادية وترسيخها بدأت تسعى عبر تكريس اعتماد الاخرين عليها إلى بناء أعجوبة أخرى هي أعجوبة ضمان الأمن القومي بجهد ذاتي.

وإما عن تجربة الصين، فلقد أنطوى تاريخ خطابها السياسي على إشارات واضحة تؤكد أنه استمر منذ عام 1949 وحتى المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1973 خطابا عقائديا. بيد أن هذا الخطاب كان يخفي، في الوقت ذاته نزوعا واقعيا بل وحتى نفعيا. وقد اكتسب هذا النزوع لاحقا زخما عمليا جراء مخرجات تخلفها الاقتصادي والعسكري أنذاك فضلا عن صراعها مع الدولتين العظميين واخفاق سياستها الخارجية في كسب دول عالم الجنوب إلى جانبها.

وقد دفع الاخفاق العام للسياسة الخارجية الصينية خلال زمان ما قبل بداية السبعينيات بصناع القرار الصيني إلى البدء بعملية إعادة هيكلتها باتجاه الانفتاح السياسي الخارجي الواسع وتوظيف مخرجاته لصالح الاسراع بعملية التحديث الداخلي ، والتي اصبحت بمثابة المهمة القومية الاولى للصين منذ المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1977.

وتؤشر المعطيات الموضوعية أن هذا التوجه الواقعي رفد سعي الصين نحو اهدافها العليا بعناصر داعمة مهمة. فالاقتصاد الصيني حقق قفزات استثنائية، كما تمت الاشارة إليه في اعلاه. كما أنها، بعد أن كانت دولة لا تحظى عموما بالقبول الدولي استطاعت لاحقا، وعبر انماط من السلوك تميز بتغليب التعاون على الصراع، أن تضحى احدى الدول الكبرى المؤثرة في التفاعلات الدولية وبضمنه بروزها كدولة أساسية في تفاعلات النظام شرق أسيوي، هذا فضلا عن تعاملها مع الولايات المتحدة الأمريكية من مركز القوة السياسية في معظم الاحيان. ومن هنا قيل أيضا: أن الصين ستكون الدولة القائدة للقرن الراهن، أو في الاقل ستقفز إلى المقدمة كأحد العوامل الاساسية المؤثرة في تحديد صورته.

وسواء، اتفق المرء أو لم يتفق مع هذه الاقوال فأنه لا يستطيع نكران حقيقة موضوعية هي أن الصين اضحت تحقق نموا متصاعدا في مجمل قدراتها على الفعل الهادف والمؤثر وأن هذا النمو لابد أن ينعكس ايجابا على فاعلية سياستها الخارجية، ومن ثم على دورها في المعادلة الدولية لصالحها. ولنتذكر أن الفاعلية الخارجية تؤسسها الفاعلية الداخلية أولا.

ويدفع نجاح الدول الاسيوية في صناعة الارتقاء الحضاري إلى سؤال فرعي هو: هل التجربة الاسيوية قابلة للنقل أو التصدير الى دول عالم الجنوب ولاسيما تلك المتاخرة و/أو المتخلفة حضاريا كاقطارنا العربية ؟

 ابتداء نرى أن تجارب التنمية لا تقبل الاستنساخ الحرفي. فالتنمية لا تستطيع أن تكون خارج ذلك الوعاء، الجغرافي والتاريخي والاقتصادي والثقافي والسياسي والمؤسسي، الذي يرعاها ويأخذ بها إلى افاق أرحب. ولاختلاف هذا الوعاء من دولة الى أخرى تتنوع بالتالي نماذج التنمية والنهوض في العالم وتتعدد. ومن بينها النموذج الاسيوي

على أن رؤية النموذج الاسيوي كأحد النماذج التنموية، لا يعني أنه لا يستحق التأمل والدراسة لاغراض الاستفادة العملية من بعض عناصر نجاحه في الاقل. ولنتذكر أن النجاح، مثلما هو الحال كذلك مع الاخفاق ينطوي في عالم اليوم على إمتدادات تتجاوز أطاره الجغرافي المحدد إلى تطر اشمل وابعد.

استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات*

العدد 98 – تشرين الثاني 2019