شلبية الحكواتية، نموذج نسائي طوّعت السرد حكاية للصغار والكبار

 »أبحثُ في القصّة عن الشخصيّات القويّة والجميلة، التي تُخاطب شخصياتنا المعاصرة«

نسرين الرجب- لبنان

لم ينته زمن الحكاية، لأن الكلام لم ينته ولأن الإنسان المتعطّش للسماع والغوص في عالم الخيال أعاد إحياء مجدها، فعادت مهنة الحكواتي بصورتها المعاصرة، استفادت من الحداثة في توظيف مضامين وقيَم ملهمة تجذب الأجيال الحاضرة. المرأة الحكواتيّة تخطت عتبات المساحة الخاصة لتكون في الواجهة، كسرت الصورة النمطيّة، ورفعت صوتها في وجه الخرس المدوّي الذي أولده الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي.

سالي شلبي، أو  »شلبية الحكواتية«، فلسطينيّة أردنيّة، نموذج نسائي طوّعت السرد حكاية للصغار والكبار، عن تجربتها الشخصية في عالم الحكي، ورؤيتها عن هذا الفن وما يضيفه الى حياتنا، كان للحصاد معها هذا اللقاء.

شلبيّة الحكواتيّة

أنَّثَت سالي إسم العائلة، ومعه لفظة حكواتي، وكسرت جمود التعريف بالذات للجمهور لتكون  »شلبيّة الحكواتيّة«، عن اختيارها لهذا الاسم، تقول:  »كان قرارا لحظي آني منذ بدأت الحكي منذ خمسة عشر عاما، طلبت من عريف الحفل في نادي الخطابة -حيث كنت مُنتسبة- أن

سالي شلبي

يعرفني بـ »شلبية الحكواتية«، باعتبار أنني أريد أن أحكي الحكايات للأطفال، فقد كان هناك حوالي مئتي طفل في الجمهور، ومنذ ذلك الوقت وأنا أستعمل هذا الاسم في مهنتي«.

 »كلنا في العائلة حكّائين ماهرين«

 تعود سالي في الحديث عن المؤثّرات التي كوّنت شغفها بهذا الفن، إلى الجلسات العائليّة حيث كان الحكي جزءا أساسيا، إضافة إلى اهتمامها بعالم الكتب وحبّها للقراءة منذ الطفولة، والاستماع إلى حكايات الجدّة والعائلة، وعن هذا تخبرنا: »كنا نسكن في الكويت، وفي الصيف كنا ننتقل لقضاء العطلة الصيفية في فلسطين، كانت جدتي تحكي لنا القصص والحكايات، وكان الحكي جزءا أساسيّا من تواصلنا كعائلة مع بعضنا البعض، فكلنا في العائلة حكّائين ماهرين، كنا نجتمع في بيت جدي ويبدأ الحديث ويحكي الكبار القصص والحكايات العائلية بطريقة مسلية وشيّقة، ولقد تأثرت بالطبع بهذا الجو، أيضا، الوالدة والخالات كنّ معلمات وكاتبات يستخدمن القصص في حياتهن«.

في بداياتها، انتسبت  »سالي شلبي« إلى نادي الخطابة Toastmasters، واستفادت من هذه التجربة في تطوير مهارات التواصل والاتصال، لم تنسجم مع الخطابة لكونها تخاطب الفكر أكثر، وهي –والقول لها- بطبعها كانت تميل للحكي الذي يخرج من القلب أكثر من الحكي الذي يخضع لبراهين العقل، فاتّجهت إلى فن الحكي. أعطتها القصص هذه المساحة، ومن هنا كانت انطلاقتها في أول عرض لها مع نادي الخطابة في العام 2005.

كان مجال اختصاصها وعملها -لاحقا- في حقل التكنولوجيا والإدارة، أثناء ذلك كانت تحكي الحكايات في أعياد الميلاد أو محلات الترفيه للأطفال من باب الهواية، ولكن كل ذلك لم يرضِ شغفها حتى قررت أن تتفرّغ لعملها الخاص كحكواتيّة، تقول:  »كونه يمثّل حقيقة ما أردت أن أكونه، لم أعد أريد أن يكون هذا العمل ثانويّا بل أردت أن يكون هو الأساس«، فقرّرت أن تركّز جهودها وطاقاتها على فن الحكي، وهنا حدثت النقلة النوعيّة، فبدأت عملها كحكواتيّة محترفة في العام 2012.

الحكاية.. تمُر بعدّة تطورات

تُشير  »سالي شلبي« إلى أنّ القصص تحيا وتعيش، وإذا لم نحيي القصص من خلال الحكي بصوت عالٍ، تكّف عن التطوُّر وكذلك نحن! تضيف: حتى الحكاية نفسها تمُر بعدّة تطورات قبل أن تثبت في قالب محدّد، تُحكى القصة أكثر من مرة وتتغير سرديتها عن كلّ مرة تُحكى فيها، فلكي تتّخذ قالبها الصحيح قد تأخذ سنة أو اثنتين بعد أن تكون قد حُكيت في عدّة عروض، وهي تخضع لحالة تطور مستمر وسياق زمني ومكاني عند العرض.

 تميل سالي لقصص الكبار، التي تُبنى على عرض قصصي كامل، وهي تؤمن أنّ لكل قصة طريقة تحضير مُختلفة، وجهد مختلف، فهي ترى أنّ:  » قصص الأطفال لا تحتاج جهدا كقصص الكبار مثلا، قصص الكبار أطول زمنيا وتتضمن شخصيات أكثر، والحبكة فيها أشد تعقيدا، ويُمكن للحاكي أن ينتقل من حدث إلى آخر ومن شخصية إلى أخرى في موقف ما، من دون أن يعرقل بذلك مسار السرد، وللحكّاء/ة أن يُعالج عدّة مواقف في نفس الحكاية، وهذا ما لا يتناسب مع قصص الصغار التي تحتاج زمنا قصيرا يُراعي مسألة التركيز والانتباه لديهم، وتكون حبكتها بسيطة، وسردها واضح. والتحضير يختلف بحسب المدة الزمنية التي يستغرقها عرض الحكاية«.

 »لا أُمثّل دور الحكواتي«

قديما كانت المهنة حكرا على الرجال لأنهم كانوا في المساحة العامة، والنساء كنّ في المساحة الخاصة، كان هناك حكواتي المقهى وحكواتي المدينة، وحكواتي القرية المتجوّل، ترى  »سالي شلبي« أنه:  »كان لدى حكواتيي المقاهي قديمّا كتابا يحتوي على السِيَر، لكلّ مقهى إرثها الخاص من القِصص والسِيَر، والتي تنتقل من حكّاء إلى حكّاء في ذات المقهى، كان هناك، أيضا، الحكواتي المتنقّل، الذي يمتلك مخزونه الخاص من القصص، فكانوا يتناقلونها شفويّا بين بعضهم البعض، يعتمدون بذلك على مهارة السمع والحفظ«.

أمّا اليوم، فقد تغيّرت الاعتبارات، دخلت النساء المجالات العامة، وأصبح الأمر امتدادا طبيعيّا لأيّ مهنة تمارسها المرأة، تلفت  »سالي شلبي« إلى أنّها لم تواجه صعوبات شخصيّة لكونها امرأة، بل كانت الصعوبات حول تفكيك الصورة النمطية للمرأة في الحكي. فالنمطيّة كما توضّح :  »أن نحكي للأطفال فقط، أو أن نرتدي ثوبا، أو أن نكون في شكل معين«. تضيف:  »واجهتني بالطبع عروضا صعبة وتحديّات، كان لها الفضل أن مكّنتني من العمل على تطوير آدائي، الممارسة هي مفتاح أي حكواتيّ أو حكواتيّة ناجحين؛ ممارسة القراءة، التمارين، التدريب وطبعا العرض«.

 وعن مصدر الحكايات، تقول: الحكايات موجودة في كل مكان، ولا يوجد مصدرا واحدا يلجأ إليه الحكواتيون والحكواتيات لأخذ القصص، تُضيف:  »أنا في حالة بحث مستمرة عن الحكايات الجميلة واللافتة، فقد تأتيني عن طريق أصدقاء، أو من قبل باحثين في التاريخ الشفويّ، أو الكتب، أحيانا أعيد صياغة بعض القصص الشعبية، وأعمد إلى تأليف بعض الحكايات، وأيضا، من خلال التبادل مع حكواتيين آخرين، فالحكايات حولنا في كل المكان، في المجتمعات القريبة والأهالي، أنتقي الحكاية إذا وجدت فيها ما يلمسني من الداخل، جماليـتها أو القوّة التي تميّزها، أن يكون فيها شيء من الضروري أن يُحكى، فليست كل القصص تستهويني، أبحث في القصة عن الشخصيات القوية والجميلة، التي تخاطب شخصياتنا المعاصرة«.

لا توافق  »شلبية« على فكرة الحكواتي التقليديّ، ومع أن الناس يطلبون منها أن تكون فلكلوريّة، ويسألونها أن ترتدي زيّا تقليديّا قديما ليصبح بذلك  »زَيْ حكواتي«، وأن تحكي على طريقة الحكواتي القديم، إلا أنّها ترفض ذلك، انطلاقا من مفهومها الخاص:  » نحن أبناء اليوم، ونعمل بما يتلاءم معنا، ويناسبنا، الحكواتيون القدامى كانوا يحكون عن عصرهم من موقعهم، ونحن كذلك ننطلق من عصرنا ومن موقعنا، أنا لا أحتاج أن أرتدي زيّا تقليديّا لأصبح حكواتيّة، ولا أُمثل دور الحكواتي. الحكواتي/ـــــــــــة الحقيقي هو/هي الشخص الذي لديه مخزون قصصي، ويستطيع أن يحكي القصة الملائمة في المكان والمناسبة التي تستدعي حكيّها، ولا يقوم بتقليد أيّ أحد، فلكل واحد منّا نهجه وأسلوبه الخاص«.

ذاكرة شعبيّة

تُشير  »سالي شلبي« إلى أنّ الحكاية الشعبيّة ليست تُراثا فقط، بل هي ذاكرة شعبيّة، تحمل معارفنا الحياتيّة، حتى لو كانت تحتوي على رموز وسحر وغيلان وإلى غير ذلك، فمن المهم وجودها في حياتنا لأنها فعليّا هي الطريقة التي كُنا نتعلم أو نكتسب من خلالها المعارف في الزمن الماضي، فهي ليست موروثا عربيا فقط، بل هي موروث إنسانيّ، وتضيف:  »القصص هي طريقتنا نحن كبشر في الترابط، وبناء مجتمعاتنا، وتعليم أبنائنا، نحتاجها لأنها تُضيء أو تكشف الضوء عن مخزون قيِّم وجميل موجود في حضارتنا كعرب«.

مشاركات ونشاطات مختلفة

شاركت  »شلبيّة« في عدّة عروض ونشاطات داخل وخارج الأردن، ضمن فعاليات ومهرجانات مختلفة، منها مهرجان حكايا في الأردن الذي هو مستمر منذ اثنتي عشر سنة، ومهرجان حكايا في فلسطين منذ أربع سنوات، وهي تعمل من خلال هذين المهرجانين على بناء تواصل مجتمعيّ في محيطها وبيئتها، وهناك مشاركات في عدّة مهرجانات عربية ودولية منها: لبنان، وتونس والسويد وسكوتلندا، كما وعرضت في الإمارات، والبحرين، ومصر وألمانيا، وأميركا.

مشروع  »حكايات شلبية«

وعن المشاريع التي تعمل عليها، أشارت:  »حاليا أعمل على إنهاء مشروع  »حكايات شلبية«، الذي يركّز على عملي وعروضي المستقلة الذي تم دعمه بمنحة من مؤسسة عبد الحميد شومان، لدي عرض شهريّ للكبار أواظب عليه منذ سبع سنوات، ولديّ عروض دوريّة للأطفال مرتين شهريّا أواظب عليه منذ خمس سنوات، وقد تم دعمهم هذه السنة من قبل المشروع إضافة إلى مشاركات في المهرجانات والعروض حسب الطلب، ولديَّ، أيضا، بودكاست  »شلبيّات« بالشراكة مع مؤسسة  »صوت«، تمّ دعمه من قبل مؤسسة شومان هذا العام، لإنتاج قصص

 جديدة لهذه السنة، عملت أيضا على سيرة  »الظاهر بيبرس«:  »وهو مشروع أعمل عليه منذ أربع سنوات، ومستمرة فيه حتى إنتاج السيرة بشكل معاصر يلائم الحداثة الحاليَة، ولدي نشاطات أخرى، حيث أقوم بإعطاء وُرشٍ حول الحكاية والخرافة، وحاليّا سأدخل في إجازة شتويّة، أحضّر فيها للسنة القادمة«.

الشركاء المناسبين

ترى  »شلبية« أنّ مستقبل المهنة، يعتمد اليوم على عدة عناصر منها أن يجد المرء الشركاء المناسبين:  »سواء شركاء المكان حيث سنطرح حكاياتنا، الجمهور، الداعمين، المؤسسات الثقافية، أنا لديّ عملي المستقل، ولكن شركائي في فلسفة هذا العمل كُثُر، منهم الملتقى التربويّ العربي، ومسرح البلد في الأردن، وملتقى حكايا وغيرهم الذين نعمل سويا على إعادة مركزيّة القصة في حياتنا«.

تأخذ هذه المهنة –باعتقادها- منحنى تصاعديا جميلا، مع ارتفاع أعداد الأشخاص الذين يحكون الحكايات، والناس الذين يقدّرون هذا الفن، ويستمتعون بالاستماع إلى الحكايات عبر طرق وأماكن مختلفة : كل ما عملنا عليه كحكواتيين وكمؤسسات ثقافية بدأ بالظهور اليوم في الواقع الحالي.

تعتبر سالي شلبي أنّ ما يميّز عملها كحكواتيّة في الأردن، أنها من القِلّة المتفرغين لهذا الفن، مما يعطيها مساحة وفرص كبيرة للقيام بعروض متعددة، وتطوير مهنتها، تقول :  »لدي عروضي المستقلة التي لا تخضع لطلبات مؤسسات أو مدارس أو أشخاص يرغبون برؤية حكواتيّة، هي عروض أواظب عليها بشكل دوري ولها جمهورها«.

 وتختم بالقول أن لكل حكواتيّ ما يميزه أسلوبّا ونهجا، ولا يوجد طريقة واحدة صحيحة للحكي، فالأمر يشبه أداء أغنية ما يؤديها عدّة فنانين ولكل منهم أداؤه وتميّزه وجمهوره، وكذلك في الحكيّ.

العدد 100 –كانون الثاني 2020