سوزان سونتاج ومواهبها العابرة للحدود

بيروت من ليندا نصّار

لا يمكن للمخيّلة أن تبقى منكفئة على ذاتها وأن تظلّ لامرئيّة في ظلّ إمكانيّة امتدادها عبر الفنون المحسوسة، خصوصا وأنّها تستمدّ وحيها من المواد الأساسيّة المطروحة في الوجود لتلوّن من خلالها الفكرة الأصليّة سواء كانت مكتملة أم غير مكتملة فتختمر في ذهن المبدع. هذه المخيّلة تبثّ الصّور في شرايين الحياة وهي تتحوّل إلى أداة تحرّر الإنسان من كبوته النّفسيّة، كما أنّها وسيلة مقاومة ضدّ القلق الذي يهزّ أعمدة الإنسان بهشاشته تبعا للظّروف المحيطة به.

هذه الصّور التي تطرحها المخيّلة، تطلق نفسها عبر الفنون ومنها ثقافة الصّورة في عالم تطوّر عبر الزّمان ليصنع من هذه الأخيرة، وبوساطة التكنولوجيا خصوصا، فنّا مستقلّا قائما بحد ذاته، وهذا ما أطلق عليه تسمية  »فنّ الفوتوغرافيا«. من جهة أخرى كما نعلم، يمكن لهذه الصّور أن تتجلّى في الأدب والنّصوص الإبداعيّة وغيرها من الفنون.

تعبّر الفنون عن الإنسان وتوثّق تاريخه الاجتماعيّ والسّياسيّ من خلال الاحتفاظ باللّقطات الّتي تكبح اللّحظات الزّمنيّة لتنقل إلينا الرّسالة العابرة للزّمان والمكان معا.

وممّا لا شكّ فيه أنّ للصّورة قدرة كبيرة على تقصّي ذهن الرّائي فيفهم من خلالها الأحداث ويتصوّرها من جديد ليحصل على المعرفة من زاوية نظره الخاصّة، وهذه الصّورة قد تتجسّد في نصّ أدبيّ فتضيف إليه جمالا.

كذلك تعتبر الصّورة الحقيقة المؤكّدة التي لا تزول عبر الزمان والشاهد الإثبات على تفاصيل الواقع، إنّها الذّاكرة الجماعيّة للشعوب الّذي تنقله ما لم تتعرّض للتّعديلات الّتي يمكن للتكنولوجيّات الحديثة أن تمسّ حقائقها وإعادة صياغة واقعها بشكل مغاير.

سونتاج

سوزان سونتاج المخرجة والكاتبة ستكون أنموذج هذه المقالة، وسنركّز من خلال قراءتنا على ناحيّة الكتابة والنّقد.

وفي لمحة عنها

سوزان سونتاغ كاتبة  ومخرجة سينمائيّة أميركية كما أنها ناقدة وروائيّة تمتّعت بإبداع عابر للحدود.

ولدت  سوزان في مانهاتن نيويورك، في 16 يناير 1933. حصّلت شهادتها من جامعة شيكاغو وهارفارد وأوكسفورد.

وبحسب موقعها: أصدرت أربع روايات: المحسن (1963) زمرة الموت (1967) عاشقة البركان (1992) في أميركا (2000). ومجموعة قصصية بعنوان  »أنا، إلى آخره« (1977)، وعدة مسرحيات، وعددا من الكتب تتضمن مقالاتها النقدية: ضد التأويل (1966) أساليب الإرادة الراديكالية (1969) عن التصوير الفوتوغرافي (1977) المرض بوصفه مجازا (1978) تحت مدار زحل (1980) الأيدز ومجازاته (1988) حيث يزول الضغط (2001) في ما يتعلق بوجع الآخرين (2003)

ترجمت كتب سوزان سونتاج إلى عدّة لغات عالميّة ما خصّها بجوائز تقديرا لرؤيتها واهتمامها بالإنسان وبتجربته في الحياة.

توفيت سونتاج في 28 ديسمبر 2004 بعد إصابتها بسرطان الدم الذي صارعته لسنوات من حياتها.

بالإضافة إلى اهتمامها بالإخراج والتصوير وممارستها هذه المهنة، ناقشت سونتاج موضوع النقد والتأويل بشكل كبير فكتابها  »ضدّ التّأويل ومقالات أخرى« عبارة عن مقالات لهذه الكاتبة والمخرجة الأميركيّة وقد راجت شهرته في أنحاء العالم وترجم مرارا إلى عدّة لغات.

تعتبر الكاتبة أنّ النقد أصبح غافلا عن جماليّات الأعمال الأدبيّة  لأنّه يحفر في صميمها فيشرّحها ويفكك ما تثيره من جدل فيكون بذلك قد أهمل النّاحية الفنّيّة في أثناء البحث عن الفكرة أو المعنى الذي يروم إليه المنجز، وموقفها هنا كان دفاعا عن الصّورة الّتي تصدرها المخيّلة وهي التي تثير الإبداع في أيّ عمل فنّيّ والّتي لا ينظر إليها النّقد على أنّها إبداع.

النص بالنسبة إلى كاتبتنا يستحق القراءة والاستمتاع به قبل وضعه على مجهر النقد، فيجب إعمال الحواس ليشعر الناقد بالعمل الأدبي قبل أن يبدأ بتأويله.

تقول سوزان سونتاج:   »يفترض التأويل تفاوتا بين المعنى الواضح للنص ومتطلبات القراء. إنه يسعى إلى إلغاء التفاوت فقد أصبح النص، لسبب ما، غير مقبول؛ ولكن لا يمكن إهماله. والتأويل خطة جذرية للاحتفاظ بنص قديم من خلال ترقيعه، إذ يعتقد أنه مهم لدرجة لا يجوز طرحها جانبا. والمفسر لا يفعل سوى تعديل أو تبديل في النص من دون محوه أو إعادة كتابته، ولكنه يعجز عن الإقرار بذلك، فيزعم أنه يوضحه فقط بأن يميط اللثام عن معناه الحقيقي.«

 »لا شك عندي مثلا بأن النظرة العاقلة إلى الكون هي الصحيحة. ولكن هل الحقيقة هي المطلوب دائما؟ ليست الحاجة إلى الحقيقة ثابتة، وكذلك الحاجة إلى الراحة، فالفكرة التي تكون ملتوية قد تحدث وقعا فكريا أعظم من الحقيقة، ولعلها تخدم بصورة فضلى حاجات الذهن التي تتنوع. الحقيقة توازن، ولكن نقيض الحقيقة، أي اللاتوازن، قد لا يكون كذبة.«

من هنا نلاحظ أنّه في تطرّقها إلى موضوع الكتابة استطاعت سونتاج أن تميّز وتعرف وظيفة الناقد فكانت لها نظرة مختلفة خصوصا في ما يختصّ بالروايات وتأويلها أيضا.

أثّرت الحياة الشخصيّة لسوزان سونتاج خصوصا في فترة الطفولة بكتابتها وهذه المرحلة هي التي جعلت منها إنسانة متعدّدة المواهب.

بالنسبة إلى فنّ التصوير، تعتبر هذه الكاتبة أنّ مجالاته قد اتّسعت وصارت تخدم كلّ فئات الناس بعد أن كان دورها محصورا بما يساعد السلطة الحاكمة لحماية المصالح الشخصية والقوانين في البلاد. ونلاحظ أهمّيّة الصورة والتقاطها أدقّ التفاصيل وأفضلها، فمثلا للصّور دور مهمّ في الحروب. ما زالت الصّور تشهد على مذبحة الأرمن في تركيا أو على تقسيم ألمانيا  وسقوط جدار برلين.

 تقول سونتاج عن الصور:

 »إنّ الصور لا تُظهر في الواقع ماتفعله الحرب كحرب. إنها تُظهر طريقة محددة لشنّ الحرب، طريقة كانت توصف بأنها ” بربريّة ” يكون فيها المدنيّون هم الهدف«.

 »إن صور الجثث المقطعة يمكن أن تستخدم لتفعيل إدانة الحرب، وقد توضح جزءا من واقعها لأولئك الذين ليست لديهم خبرة في الحرب على الإطلاق.«

تحدّثت سونتاج عن الفونوجرافيا في إحدى مقالاتها حيث كتبت:

 »تتيح لنا إعادة رؤية النّاس والأشياء بشكل جديد ومختلف، لم نكن لنكتشفه إلا من خلال وجودهم في هذه الصّور، وبالتّالي يمكن لها أن تثير تعاطفنا، وفي الوقت نفسه تظلّ هذه الصّور حائلا بيننا وبين حقيقة وواقع هؤلاء المتواجدين فيها، وهو ما يجعل بعض المصوّرين الفوتوغرافيّين قادرين على أن يحوّلوا النّاس في صورهم إلى أدوات يستخدمونهم لاستغلال واستثمار آلامهم«.

هنا تبدّى لنا، من خلال هذه الفقرة، التمييز ما بين الصور الواقعيّة واللّحظة الحقيقيّة لالتقاطها وما بين تأويل الصورة أي اعتبارها صورة مجازيّة أو استعارة أي إعادة تصوير الواقع بما يتماشى مع اللّحظة الآنيّة لإعطائها معنى آخر.

العدد 100 –كانون الثاني 2020