صفقة القرن: الممكن والمستحيل

هل تستطيع واشنطن فرضها على العرب والفلسطينيين؟

محمد قواص (*)

سال حبر كثير في الأسابيع الأخيرة وقبلها خلال السنوات الأخيرة في الحديث طويلا عن الخطة التي عظّم الرئيس الأميركي من شأنها حتى باتت تعرف باسم »صفقة القرن«. وقد يكون الإعلان عن خطة الإدارة الأميركية للسلام في الشرق الأوسط أفضل من ذلك الغموض الذي اجتاح المنطقة حول أمرها منذ بدء الحديث عن »صفقة القرن«. وأن تكون تلك الخطة ملتصقة بظاهرة دونالد في الولايات المتحدة، فبالإمكان التسليم، دون أي تقليل من شأن الحدث، في أن الصفقة المعلنة لا تعدو عن كونها، بدورها، ظاهرة لا ترقى إلى مستوى تحول تاريخي يمكن في إطاره الحديث عن تسوية لأكثر القضايا التاريخية تعقيدا في العالم.
يتحدث ترامب عن الصفقة-الخطة بصفتها اقتراحا للسلام. والسلام في معناه البديهي يُنسج بين متخاصميْن، فيما أن »الخصم« الفلسطيني غائب، وأن غيابه هامشيا في روحية ما توصل إليه فريق صهر الرئيس ومستشاره، جاريد كوشنر. الأمر أوقح من أي مبادرات دولية، أميركية خصوصا، سبق عرضها، بالتداول مع الفلسطينيين والعرب، وأكثر السيناريوهات غباء في إرساء سلام بين الشعوب، بحيث لا تلمس في ثناياها الحد الأدنى من العصب العتيق لفلسطين والفلسطينيين في تاريخ العالم وجغرافيته.

صفقة القرن: إعلان أميركي إسرائيلي لا صفة دولية له

إعدام الوطن الدولة

والخطة تتقدم بصفتها حكم الأقوياء على الأقل ضعفا. وفيما تجاهر إسرائيل في غيّها احتلالا وضما للأراضي وتشييدا للمستوطنات ورفعا للأسوار ونشرا للحواجز وتقطيعا لحياة الفلسطينيين، تأتي الولايات المتحدة لتتقدم بما يشرّع كل ذلك أميركيا ويجعله قانونيا تحت عنوان إقامة السلام.
وفلسطين بمعناها التاريخي مقتطعة بقرار أممي جائر أباح تمرير مبضع يقسم الأرض بين يهود وعرب عام 1947. وهي مقتطعة بحكم القوة في الحروب التي خيضت منذ تلك عام 1948. وهي مقتطعة بين مناطق ثلاث أباح اتفاق أوسلو رسمها بانتظار الحل النهائي. وفي ما تُطل به خطة ترامب وصهره، »تبارك« واشنطن كيانا أهليا لا دولة، تقام على ما تبقى من أراض بعد أن يصار إلى اقتطاع ما تم البناء عليه استيطانا وما يلزم الدولة العبرية لدواعي الأمن والمياه والاقتصاد والرموز الدينية.
على ذلك تتحول فلسطين الدولة في معادلة الصفقة إلى منطقة عقارية لا تشبه أي كيان سياسي في العالم. لا عسكر ولا دبلوماسية ولا استقلال في التعاقد مع دول العالم. وعلى ذلك لا يشبه »الحل النهائي« ما سبق أن خطّته الاتفاقيات الدولية وقوانين الأمم المتحدة وما ثبتته الرباعية الدولية وما جعله المجتمع الدولي سقفا لأي وفاق. وعلى ذلك تنفذ واشنطن إعداما موصوفا للمبادرة العربية للسلام (2002) التي ما برح العرب في ليلهم ونهارهم، فرادى ومجتمعين، يكررون التمسك بها كقاعدة يتم من خلالها مقايضة الأرض بالسلام.
»صفقة القرن« هي إحدى سمات الزمن الشعبوي الذي داهم هذا العالم خلال السنوات الأخيرة. بات الشعبويون يتبادلون الخدمات بحيث ترتسم قناة خصوبة بين تلك الشعبوية التي جسدها على نحو صاعق إطاحة دونالد ترامب بالأوبامية وورثتها، وتلك الشعبويات التي راجت في بريطانيا وإيطاليا وأنحاء عديدة من أوروبا مرورا بالبرازيل والفيليبين ودول أخرى. في تلك الشعبوية الأميركية الأسرائيلية نزوع للتسويق للمستقبل بما تيسر من أدوات الراهن، وبيع للسيئ بصفته أفضل من الأسوأ. وفي ذلك ما يُسرد هذه الأيام عما خسره الفلسطينيون والعرب من رفضهم خلال العقود المنصرمة لما هو ممكن، وعما سيخسروه حكما إذا ما رفضوا صفقة ترامب المعجزة.
والصفقة في حقائقها المعلنة هدايا تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل الحليفة وتحتفل بها بحضور إسرائيل الدولة بشخص حاكمها ومعارضه. وهي بهذه الصفة مناسبة ثنائية أميركية إسرائيلية تشبه في فجاجتها سوقية الصديقين الحميمين، ترامب ونتنياهو، ناهيك عن كونها مناسبة تهمل دعوة الفلسطينيين، ليس فقط لأن المدعوين لن يصفقوا للعرس ولن يباركوا العروسين، بل لأن الصفقة في أصلها لا تحتاج أي بركة خارج حدود العائلة التي اجتمعت في حفل إعلانها.
ورغم أن فضائياتنا تصدح بالحدث، ورغم أن منابرنا تتنافس في لعن الأمر الواقع المرفوض، إلا أن الحدث لن يعدو كونه حدثا ينتهي ضجيجه مع انتهاء أي ضجيج وتتبخر مفاعيله مع الأسباب التي فرضت توقيت إعلان كان بالإمكان أن يجري قبل عام أو بعد عام. جابه ترامب محاكمته وجهد لمنع خلعه عن حكم بلاده. وواضح أن الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ هيأت له تحقيق ذلك، وسيخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة دون أن يقلقه، حتى الآن أي منافس. وسيجابه نتنياهو تهم الفساد التي تحاصره عفنا. ولا شيء منعه من خوض الانتخابات

الرئيس الفلسطيني محمود عباس: الفلسطينيون رافضون

التشريعية ممهورا بصدقة »صفقة« قدمها له ترامب على صحن من هواء.

أين روسيا؟

بيد أن كل الجلبة لا تعدو كونها أميركية يعارضها أصحاب الشأن الفلسطينيون ويعارضها العرب وتعارضها أوروبا وأفريقيا الدول الإسلامية واللائحة تطول. والخطة في مغازيها يمكن للرئيس الأميركي أن يفتخر كثيرا بها لكن يجب التذكير أن حفل الإعلان عنها كان محدودا، يكاد يكون ثنائيا أميركيا إسرائيليا، دون أي حضور دولي، لا سيما الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين.
وفيما كانت روسيا حاضرة في كل ورش السلم الفلسطيني الإسرائيلي، فإن غياب موسكو عن »صفقة القرن« يجرد هذه الخطة من تغطية وازنة متعددة الأطراف، كما أنها تقوي الطرف الفلسطيني (الغائب الأكبر عن الحفل في واشنطن) في رفض خطة ترامب بالاعتماد بشكل جدي على عدم وجود تواطؤ أو ضغوط من قبل دول كبرى في مقدمها روسيا.
وتبدو موسكو متأملة للحدث وتراقب تداعياته وردود الفعل عليه في العالم. اكتفت الإدارة الروسية بالإدعاء أنها بصدد دراسة خطة البيت الأبيض (قبل أن ترفضها) مستندة في النأي بالنفس عنها على موقف صدر عن سفيرها في الأمم المتحدة فاسيلي نيبيسيا يؤكد فيه أن الولايات المتحدة لم تتشاور مع روسيا بشأن الخطة ولم تطلعها حتى على مضمونها.
وعلى عكس ما يمكن أن يتخيله المراقبون فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي تقصد المرور بموسكو في طريق عودته من الولايات المتحدة، لم يأت للتسويق لصفقة ترامب لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي للمفارقة أيضا، لم يأت على ذكر الصفقة في الكلمة التي أدلى بها في استقبال نتنياهو. جاء الأخير مهجوسا بمصيره الذي ستقرره الانتخابات التشريعية في مارس المقبل، مستجديا عطف بوتين في الإفراج عن مواطنة إسرائيلية تعتقلها السلطات الروسية بتهمة تهريب المخدرات.
قدم بوتين لنتنياهو ما يريد، أصدر عفوا، وبات نتنياهو سعيدا أنه سيعود إلى إسرائيل محققا لناخبيه وعدا بالعمل لدى موسكو للإفراج عن مواطنة إسرائيلية من السجون الروسية. بالمقابل فإن بوتين ينظر للأمر بصفته تفصيلا داخل خططه الكبرى لتوسيع دور بلاده في الشرق الأوسط وتمتين علاقاته من أجل ذلك مع إسرائيل.
وبدا أن لقاء نتنياهو مع بوتين يهدف بالنسبة لرئيس وزراء إسرائيل إلى استدراج مزيد من أصوات الناخبين الإسرائيليين ذي الأصول الروسي والتي عادة ما تصب لصالح زعيم حزب إسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان.
وقد لا تذهب موسكو باتجاه معارضة علنية مفرطة لصفقة ترامب التي تؤكد من جديد أرجحية الولايات المتحدة في تقرير مسائل الشرق الأوسط، بما يعني أيضا تأكيد استمرار روسيا في لعب دور ثانوي لا يتعدى الهامش الذي تسمح به واشنطن في المنطقة. غير أن لروسيا مصلحة في تقويض هذه الصفقة، تاركة للفلسطينيين وكل دول المنطقة التصويب بطرق شتى على خطة ترامب وفريق مستشاره وصهره جاريد كوشنر. ولا شك أن بوتين، بما يحمله من طموحات لاستعادة دور روسي بارز في العالم، ينظر بعين الريية إلى خطة أميركية يراد لها أن تحل أكثر القضايا التاريخية تعقيدا في الشرق الأوسط دون شراكة روسية أساسية حقيقية وفاعلة.
كانت موسكو شريكا في العملية الدبلوماسية الإسرائيلية العربية في أيام الإمبراطورية السوفيتية. وقع الرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشوف دعوة لمؤتمر مدريد لعام 1991 حول الشرق الأوسط إلى جانب الرئيس جورج بوش. وفي حفل توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، وقف نائب وزير الخارجية الروسي أندريه كوزيريف إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي يتسحاق رابين. كما تمت دعوة الرئيس الروسي بوريس يلتسين لحضور توقيع اتفاقية السلام بين إسرائيل والأردن عام 1994، إلى جانب الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. كما دعا الرئيس الأميركي

النظام العربي الرسمي: نرضى بما يرضى به الفلسطينيون

جورج دبليو بوش روسيا للانضمام إلى اللجنة الرباعية الدولية التي وقعت خارطة الطريق للسلام عام 2003 وإطلاق عملية أنابوليس للسلام عام 2007.
لم تحد روسيا عن تمسكها بحل للقضية الفلسطينية وفق المرجعيات الدولية. وفي زيارة إلى الرياض في مارس 2019، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن موسكو والرياض قد اتفقتا على أن حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يجب أن يستند إلى قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية لعام 2002. بعبارة أخرى، لا يمكن أن يكون الحل قائماً على خطة أمريكية تتجاهل القانون الدولي والإجماع العربي الإسلامي الراسخ في المبادرة العربية.
وفي مقابلة أجراها في ذلك الوقت مع وكالة الأنباء الكويتية، قال لافروف إن صيغة المضي قدمًا في العملية الدبلوماسية لم تكن خطة تقودها الولايات المتحدة، بل جهود مشتركة من جانب المجتمع الدولي ككل لتشجيع مفاوضات مباشرة بين الجانبين. واتهم لافروف ترامب بالتخلي عن »اللجنة الرباعية« – التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي – لصالح خطة من جانب واحد توسط فيها وسيط واحد. كما لاحظ لافروف أن الخطوط العريضة للخطة تتناقض مع المعايير الدولية لاتفاق إسرائيلي فلسطيني. وتوقع أن يرفض الفلسطينيون الخطة، وانتقد التدابير الأحادية التي تتخذها الولايات المتحدة وحذر من تأثيرها السلبي على عملية السلام.
وكان لافروف يلمح في إدانة التدابير الأحادية إلى ما قررته إدارة ترامب من اعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها كما الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان. وذهب لافروف أكثر من ذلك، قال في أبريل 2019 إن تلك القرارات كشفت النقاب عن نوايا أمريكية لتدمير البنية التحتية المقبولة المنصوص عليها في القانون الدولي كأساس لقضية الشرق الأوسط.
وفيما استقبل بوتين ضيفه الإسرائيلي يرى دبلوماسيون روس أن موسكو تتهم نتنياهو بالوقوف وراء خطة القرن والقرارات الأحادية التي اتخذها الرئيس ترامب قبل ذلك، وبالتالي فإنه من غير المحتمل أن تكون القيادة الروسية مرتاحة لزعامة نتنياهو الذي يمثل في إسرائيل والشرق الأوسط مقاربة ترامب لمستقبل الشرق الأوسط، خصوصا أن نتنياهو لم يخف أنه شخصيا كان وراء قرار ترامب بإخراج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي.
وبحكم الجغرافيا تجد روسيا نفسها معنية بمستقبل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بصفته جزء أصيلا من فضاء روسيا في الأمن الاستراتيجي. يملك بوتين ما لا يملكه ترامب. يحتفظ بعلاقات مع إيران ومستمر بالتواصل مع الفلسطينيين، ويقارب بماكيافيلية عالية علاقاته بإسرائيل. لم يذهب الرئيس الروسي باتجاه التدخل العسكري في سوريا قبل عقد اتفاق مع نتنياهو يعطي إسرائيل حرية التحرك العسكري لحماية نفسها من أية أخطار تتهددها من سوريا. حتى أن نتنياهو الذي يذكر ناخبيه بهذا الإنجاز، قال خلال رحلة له إلى موسكو في سبتمبر عام 2019، عشية الانتخابات الإسرائيلية أيضا، إن التنسيق بين إسرائيل وروسيا في سوريا مهم بشكل خاص لإسرائيل في ضوء التوترات على حدودها الشمالية، وخاصة تجاه وكلاء إيران في سوريا ولبنان وللتصدي لنشر صواريخ دقيقة موجهة إلى قلب إسرائيل.
في كتابه عام 2001 »هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية«، أوصى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بأن يضمن قادة الولايات المتحدة وحلفاؤها أن صوت روسيا يحظى بالاحترام الذي يستحقه في النظام الدولي الناشئ حديثًا. أكد الرجل الذي شغل منصب وزير الخارجية في فترة الحرب الباردة أنه من المهم أن تشعر روسيا بأنها شريك في صنع القرار الدولي، خاصة فيما يتعلق بالقرارات التي تؤثر على أمنها. وعلى ذلك فإن سيد الكرملين حريص على التأثر بتوصية كيسنجر وجعلها قاعدة في سياساته الخارجية، وبالتالي فإن موسكو ستعمل على تذكير كافة فرقاء الصراع أن لا صفقة بإمكانها أن تمر في الشرق الأوسط، لا في هذا القرن ولا في بعده دون أن يكون موسكو كلمة فصل تأخذ بعين الاعتبار مصالح روسيا وطموحاتها في الشرق الأوسط.

خطة ترامب وعائلته

صفقة القرن لا ترتبط بمزاج العالم الراهن. هي ترتبط بمزاج ترامب الشخصي ومصيره. لن يكون للصفقة أي وجود إذا ما أطاح الديمقراطيون بترامب وهم الذين يجاهر بعضهم في الاستخفاف بالمولود العائلي الهجين. ولن يكون للصفقة لزوميتها في الولاية الثانية لترامب إذا ما فاز في تلك الانتخابات. حتى أن في الكلام عن فترة انتقالية من 4 سنوات قبل تنفيذ الصفقة تلميح لولاية رئاسية أميركية تنتهي فتنتهي معها روائحها. وفي هزال صفقة يرتبط بقاؤها بمصير اللاعبين، ينكشف عري خطة السلم التي، للمناسبة، ورغم الزلزال الذي تحدثه في منطقتنا، لا

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: الصفقة تهديد لنفوذ موسكو في الشرق الأوسط

يأخذها العالم، كل العالم، على محمل الجد.
لا يمكن للدول أن تتدخل في شؤون الولايات المتحدة في ما تتخذه من قرارات تصدر عن رئيسها أو قوانين تصدر عن برلمانها. اعترفت الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل وبالجولان جزء من أراض إسرائيل. أغلقت واشنطن مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في المدينة وقطعت تمويلها للأونروا واتخذت تدابير عدائية ضد فلسطين فكرة ووطنا وشعبا ومصيرا. بالمقابل رفضت بلدان العالم تلك الموجات الأميركية المشوشة وراحت، من خلال تمسكها بالثوابت الدولية المتعلقة بفلسطين، تدافع عن نفسها ضد تسيّب قد يطال قضايا ومسائل أخرى. وعلى هذا بقي همس الصفقة متلاشيا في فراغ لا يحظى برعاية أوروبا ولا اليابان ولا الصين وروسيا.. إلخ، وللمفارقة الكبرى لا يحظى برضى الكونغرس وعتاة الشأن الشرق أوسطي في الولايات المتحدة.
جال جاريد كوشنر وأصحابه كثيرا على دول المنطقة. تنقل من عاصمة عربية إلى أخرى تاركا وراءه كما كثيفا من التسريبات. اكتفت العواصم بالإصغاء ولم يصدر عن أي عاصمة أي رواية رسمية تشي بمباركة ما لما ترسمه الصفقة في نصوصها. وحين كان مطلوبا أن يحدد العرب مجتمعين موقفا، قالوا ذلك، بمناسبات روتينية لا تستدعي أي طارئ، أن النظام العربي الرسمي متمسك بمبادرة السلام وبدولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وبقية الديباجة المعتمدة.
وإذا ما تركنا الحديث عن العامل الفلسطيني إلى سطورنا الأخيرة، فذلك أنه العامل الأهم الذي في بديهية وجوده ما يمكنه لوحده أن يقرر عيش أية صفقة من موتها. والصفقة بهذا المعنى عبق يتقزز له الفلسطينيون هذه الأيام دون أن يهتز لهم بال في أن أي تسوية نهائية تحتاج إلى توقيع فلسطيني ما زال غائبا.
ورُبَّ متأمل في حقيقة أن الولايات المتحدة التي تعجز عن حماية سفارتها في بغداد لا تستطيع أن تفرض على الفلسطينيين والمنطقة صفقة مرتجلة على عجل يراد لها أن تبتلع التاريخ.

على ذلك تتحول فلسطين الدولة في معادلة الصفقة إلى منطقة عقارية لا تشبه أي كيان سياسي في العالم. لا عسكر ولا دبلوماسية ولا استقلال في التعاقد مع دول العالم. وعلى ذلك لا يشبه »الحل النهائي« ما سبق أن خطّته الاتفاقيات الدولية وقوانين الأمم المتحدة وما ثبتته الرباعية الدولية وما جعله المجتمع الدولي سقفا لأي وفاق. وعلى ذلك تنفذ واشنطن إعداما موصوفا للمبادرة العربية للسلام (2002) التي ما برح العرب في ليلهم ونهارهم، فرادى ومجتمعين، يكررون التمسك بها كقاعدة يتم من خلالها مقايضة الأرض بالسلام.

هل تنفجر انتفاضة جديدة بوجه إسرائيل؟

الصفقة في حقائقها المعلنة هدايا تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل الحليفة وتحتفل بها بحضور إسرائيل الدولة بشخص حاكمها ومعارضه. وهي بهذه الصفة مناسبة ثنائية أميركية إسرائيلية تشبه في فجاجتها سوقية الصديقين الحميمين، ترامب ونتنياهو، ناهيك عن كونها مناسبة تهمل دعوة الفلسطينيين، ليس فقط لأن المدعوين لن يصفقوا للعرس ولن يباركوا العروسين، بل لأن الصفقة في أصلها لا تحتاج أي بركة خارج حدود العائلة التي اجتمعت في حفل إعلانها.

صفقة القرن لا ترتبط بمزاج العالم الراهن. هي ترتبط بمزاج ترامب الشخصي ومصيره. لن يكون للصفقة أي وجود إذا ما أطاح الديمقراطيون بترامب وهم الذين يجاهر بعضهم في الاستخفاف بالمولود العائلي الهجين. ولن يكون للصفقة لزوميتها في الولاية الثانية لترامب إذا ما فاز في تلك الانتخابات. حتى أن في الكلام عن فترة انتقالية من 4 سنوات قبل تنفيذ الصفقة تلميح لولاية رئاسية أميركية تنتهي فتنتهي معها روائحها. وفي هزال صفقة يرتبط بقاؤها بمصير اللاعبين، ينكشف عري خطة السلم التي، للمناسبة، ورغم الزلزال الذي تحدثه في منطقتنا، لا يأخذها العالم، كل العالم، على محمل الجد.

»الصفقة« ولبنان!

وضع اتفاق الطائف عام 1989 مسألة رفض توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بندا مستقلا داخل الدستور اللبناني، يتساءل مراقبون حول قدرة لبنان على مقاومة الضغوط الدولية، الأميركية خصوصا، السياسية والاقتصادية، لإجبار بيروت على التعامل مع الحالة الفلسطينية كأمر واقع لا بد منه، كما دفع كافة القوى السياسية إلى مراجعة أدبياتها العقائدية في هذا الصدد.
ويعتبر المراقبون أن مسألة توطين الفلسطينيين في الأردن وبقية دول الشتات العربي لم تعد أمر محرماً لا بالنسبة للدول المعنية كما للاجئين أنفسهم، وأن أمر الاستخفاف بالأمر لم يعد مجديا.
وتؤكد مصادر دبلوماسية في بيروت أن الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي يتعرض لها لبنان قد أوهنت مناعة البلد على مقاومة ما قد تحمله صفقة القرن من ضغوط لإجباره على تنفيذ قسطه من خطة ترامب لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وترى المصادر أن على لبنان تطوير نظرته إلى مسألة اللاجئين بشكل ذاتي وداخل حوار لبناني لبناني، خصوصا أن ما أنجزته لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني وعملية تعداد الفلسطينيين في لبنان، والتي جرت تحت إشراف الأمم المتحدة، تمهد الطريق نحو نظرة واقعية للوجود الفلسطيني في البلد ثبت بالأرقام أنه أقل بكثير مما علق في الوعي الجماعي اللبناني منذ عقود.
وتقول المصادر إنه لا طائل من تعويل لبنان على فشل صفقة القرن وعلى رفض فلسطيني لها، معتبرين أن مسألة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ستبقى بندا أساسيا داخل أي تسوية سياسية فلسطينية إسرائيلية، وأن كافة مشاريع الحل السابقة واللاحقة تسقط حق العودة للاجئين الفلسطينيين أو تجعل هذا الحق محدودا ونسبيا، بحيث أن مسألة توطين الفلسطينيين في لبنان هي مسألة حتمية لن تتجاوزها أية تسويات.
وترى مراجع سياسية أن لبنان غير قادر على التعاطي مع صفقة القرن إلا تعاطيا سلبيا بحكم هيمنة حزب الله وحاجة إيران وميليشياتها في لبنان إلى استخدام العامل الفلسطيني من جديد لخدمة أجندة ترتبط هذه الأيام بالصراع بين واشنطن وطهران.
ويقول هؤلاء إنه في ظل هذه الظروف، فإنه من المستحيل تصور أن تسهّل طهران نقاشا لبنانيا لبنانيا في هذا الشأن بشكل مجاني، وأن قضية شائكة بهذا الحجم لا بد أن تكون جزء من أي طاولة مفاوضات مقبلة بين إيران والولايات المتحدة.
وتتوقع بعض المصادر أن تصطدم حكومة حسان دياب الجديدة بواقع جديد بسبب صفقة القرن يتجاوز الدعوات الدولية من الحكومة اللبنانية إلى تقديم خطة ناجعة لإصلاح الهيكل الاقتصادي اللبناني يسيطر بها على الهدر ويتم من خلال مكافحة الفساد.

هي ينجح الفلسطينيون في تجاوز انقساماتهم؟

وتقول المصادر إن كثير من الضغوط الأميركية، لا سيما في ما صدر عن المسؤولين في واشنطن من مراقبة لأداء الحكومة قد ينطوي في الثنايا على ما هو مطلوب من لبنان للإفراج عن المساعدات الدولية المالية العاجلة.
وترى المصادر أنه سيجري بسهولة ربط الموقف الأميركي بمدى استعداد بيروت، والثنائية الشيعية خصوصا، للتحلي بالبراغماتية والمرونة في ما يتعلق بترسيم الحدود، البحرية والبرية، بين لبنان وإسرائيل، بما يتيح تنظيم أعمال التنقيب عن الهيدروكاربونات في المنطقة الاقتصادية الخالصة خصوصا في المناطق البحرية على حدود البلدين.
وتعتبر المصادر أن واشنطن ستجد في مناسبة الإعلان عن صفقة السلام عذرا جديدا لمقاربة الأزمة الاقتصادية اللبنانية وفق رؤية تتعلق بالمنطقة برمتها، وبمستقبل خطة السلم في المنطقة.
ويستبعد محللون حصول أي تحول لافت في هذه المسألة، ليس فقط بسبب موقف إيران المهيمن على القرار اللبناني، بل أيضا بسبب ضغوط قد تمارسها روسيا هده المرة، التي باتت، بحكم مصالحها في سوريا معنية مباشرة بالشأن اللبناني وموقعه وموقفه من تحديات الشرق الأوسط.
ويلفت هؤلاء إلى أن موسكو، التي قد تتنافس مع طهران على بسط النفوذ في سوريا، ستكون مضطرة إلى الاستناد على نفوذ حزب الله في لبنان لدفع النفوذ الروسي في سوريا لاختراق الحدود مع لبنان. ويعتبر هؤلاء أن موقف موسكو من مسألة صفقة القرن لا سيما في شقها اللبناني بات حاجة لبنانية لمواجهة الموقف الأميركي، لكنهم يلفتون أيضا أن الولايات المتحدة قد تصبح بحاجة إلى روسيا في إعانتها على تسويق تداعيات خطتها على لبنان واستخدام الخدمات الروسية لإحداث تحول استراتيجي في موقف لبنان إزاء القضايا المتعلق بالحل المتوخى.

(*) كاتب سياسي لبناني

العدد 102 –اذار 2020