إذا ماتوا انتبهوا

عندما يصير الدم بلون الماء، و”الماء بلون الغرق”، والغرق حتميّة القدر. وعندما يصير الموت أقصر الطّرق المتفرّعة من الجحيم، وولوج بوّابته وجهة ملعونة إنّما محتومة. وحين تصير أقصى أمنية إيجاد مساحة ضئيلة، وإنّما آمنة، بين الجثث. وحين تصبح أجمل أحلام الميت، أن يُذكر في تعداد القتلى، وأن يستر موته كفن نظيف، أو قذر لا فرق، وألا تتعفّن روحه قبل الوصول. أو عند محاولة الأرواح فكّ عقدة الكيس لانتزاع نفَس أخير، وقتها فقط تتحرّر النعوش من سكناها الضيّقة، ويتبعثر الموتى في الزّمن بلا وجوه ولا ملامح، بلا صوت ولا تعابير، وبلا أيّ إشارة إلى اجتثاث الموت حياة كانت هنا، على أرضٍ متعطّشة لالتهام كلّ من يجرؤ ويحلم بالنجاة. وقتها فقط، يتساوى الموتى والأرقام، ويتعطّل العدّاد.

في ليل غزة، ينام ثلاثة وعشرون ألفًا نومهم الأخير، خَدرهم الأخير. ناموا ليكمل التقني إصلاح العدّاد ويُستأنَف العدّ.

أرقام مضافة إلى ما سقط عبر التاريخ في الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية. أرقام تكاد لا تُحصى رغم مهارة المحتسبين. وما فائدة التعداد؟ وما الفارق بين الأعداد وبين صنوف الجرائم وأساليب القتل؟ إذا كانت كلها محاولات متفوّقة للإحصاء، وإذا كان “قتل إنسان واحد يُعدّ جريمة، وقتل مليون إنسان إحصاء”، بحسب مقولة جوزف ستالين الشهيرة.

الآلاف الرّاقدون في ليل غزة لا يأبهون للتّعداد، وهم يتشاطرون الفضاء البارد ولعنة الجغرافيا. لا يحسدون النّاجين على مصائرهم المتمرّغة في طينٍ ممزوج بالفوسفور وجذور الزيتون. النّائمون في ليل غزّة، منشغلون بحفظ أرقامهم وتدوينها على بوابات الموتى وعلى رايات الشّتات الجديدة.

الآلاف النائمون في ليل غزّة، لم يدركهم النّعاس، ولا حتّى منامات اليقظة. ناموا فقط من دون أن يغفوا. ناموا على كوابيس مصفّحة ضدّ الأحلام، غرقوا في موت طويل وعتيق، فالموت والنّوم عندهم سيّان، لأنهم “إذا ماتوا انتبهوا”. انتبهوا إلى جذوة حياة لم تتّقد يوم كانوا على ضفّتي النار، وإلى القبس المطمور تحت رماد متهالك. انتبهوا أنهم سيكونون يومًا كأمثالهم القتلى في التاريخ الذين وصفهم الطبيب “ريو” في رواية “الطّاعون” للكاتب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو بأنهم صاروا “دخانًا في المخيّلة”، وهو يتحدث عن زهاء مئة مليون قضوا في الطواعين الثلاثة الكبرى التي عرفها التاريخ. “ولكن ما مئة مليون نسمة؟ إن من يشترك في الحرب لا يكاد يعرف ما عسى يعنيه رجل ميت. ولما لم يكن للرجل الميت أي وزن إلا حين يُرى ميتًا، فإنّ مئة مليون جثة منتشرة عبر التاريخ ليست إلا دخاناً في المخيلة”.