رؤية المستقبل والتنبؤ بمأساة إسرائيل

 عن رواية “الطريق إلى عين حارود” للأديب عاموس كينان

(ترجمة وتعقيب الكاتب الفلسطيني أنطوان شلحت)

الكشف عن الواقع الإسرائيلي

صوّر أدب النهايات الواقع المجتمعي الإسرائيلي وانتقده من وجهة نظر كتّابه الذين عملوا على التنبؤ بمصير هذا الواقع. ويدخل هذا النوع من الأدب في عملية الكشف عن المشاكل التي تهيمن على المجتمعات وتنخر فيها، حيث تتبدى حقيقتها بنزع أقنعتها وإجلاء حقيقتها. وراج أدب النهايات وصار من صميم الثقافة المجتمعية خصوصًا في ما يختص بإسرائيل حيث برزت روايات تحمل الرؤى بمستقبلها وتنبئ بمأساتها وانهياراتها وهزائمها المتوقّعة.

  روايات كثيرة إذًا برزت وصنّفت ضمن هذا الجنس ومنها الرواية التي اختارها وترجمها عن العبرية وعقّب لها الكاتب الفلسطيني أنطوان شلحت.

ويتّخذ شلحت وضعية الناقد المطّلع المثقف والباحث في هذا النوع من الأدب في عمله على رواية “الطريق إلى عين حارود” للأديب عاموس كينان (1927-2009) وقد قام بترجمة هذه الرواية إلى العربية “وصدرت في العام نفسه لصدورها باللغة العبرية (1984) في مجلة “الكرمل” الفصلية الثقافية الفلسطينية، وعادت وصدرت في كتاب عن “دار الكلمة للنشر” في بيروت في عام 1987، وقدّمها إلى القراء العرب الشاعر سميح القاسم”.

وتعدّ هذه الدراسة المطوّلة (تعقيب أنطوان شلحت وبعنوان الطريق إلى عين حارود وإرهاصات أدب النهايات العبري) بمنزلة مرجع مهمّ في نقد “أدب النهايات” فيعتمد في منهجه التحليل والنقد بطريقة التعمّق والكشف عن الأفكار المتناقضة ومواجهتها بطرح الأدلة والحجج المنطقية ومقارنة الوضعيات والأفكار ونقدها بتدرج منطقي، يظهر هشاشة الإسرائيليين في مختلف نواحي حياتهم.

ويعدّ الناقد والكاتب المترجم الفلسطيني أنطوان شلحت (من فلسطين 48) من الأدباء والمثقفين المناضلين الذين ساهموا في تشكيل الوعي بالقضيّة الفلسطينية، والمحافظة على أن تبقى في أذهان الأجيال المقبلة، من خلال إيلاء العناية بالترجمات العبرية وتعريبها ومتابعة الأحداث والصراعات وكتابة المقالات حولها، بالإضافة إلى النضال الثقافي لمواجهة الاحتلال الصهيونيّ الوحشيّ المستمرّ.

وأنطوان شلحت الباحث في الشؤون الإسرائيلية يترأس وحدة الترجمة في “مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية”، والهيئة الإدارية لجمعية الثقافة العربية أيضًا. وقد صدرت له كتب بحثية عدة في السياسة والنقد هذا بالإضافة إلى الكتب المترجمة عن العبرية، كما نشرت له عشرات الأبحاث والمقالات في مجموعة من الصحف. وهو اليوم رئيس تحرير ضفة ثالثة الموقع الثقافي في صحيفة العربي الجديد.

النظرة التشاؤمية لمستقبل إسرائيل

وهناك دراسات كثيرة أيضًا تناولت هذا النوع من الأدب (أدب النهايات) ونظرة الإسرائيلي إلى مستقبل بلاده وهي نظرة تشاؤمية انطلاقًا من نبوءات تتوقع هزيمته. ويعتبر المحللون أن ذلك قد يتحقق بسبب الفساد واعتماد السياسات التي أدت إلى انقسامات في الداخل الإسرائيلي، كذلك تبدو عندهم الآفات والعيوب المسكوت عنها والتي أصابت المجتمع الإسرائيلي أيضًا. ويهيمن الخوف والشعور بالذنب تجاه ما اقترفه النظام العسكري وسلطاتهم  بالفلسطينيين من تشريد واغتصاب أراض وبناء مستوطنات على حساب الشعب المهدور دمه، والتاريخ شاهد على ذلك.

ويقدّم الشاعر سميح القاسم عاموس كينان وروايته للقارئ العربي من باب ردّ المعروف له واعترافًا منه بوفائه لصداقته معه، فلطالما اتّخذ عاموس كينان موقف الدفاع عن الفلسطينيين ونصرهم ما انعكس عليه سلبًا وصار تحت رقابة السلطات الإسرائيلية، وهذه القضايا السياسية والاجتماعية جمعت في ما بينه وبين القاسم. وشوّه الإسرائيليون مضمون مسرحية كينان “الأصدقاء يتحدثون عن يسوع” لإثارة النعرات الدينية مع الفلسطينيين المسيحيين. ويسجل الشاعر سميح القاسم موقفًا موضوعيًّا باختيار رواية “الطريق إلى عين حارود” ويعلل اختياره نظرًا لأهميتها. فهي رواية الفوضى والانقلابات العسكرية المتعاقبة التي تنتظرها إسرائيل إلى يومنا هذا، فيسجل ملاحظاته السلبية ليختم بملاحظاته الإيجابية تجاهها.

لمحة عن الرواية وملاحظات المترجم

وفي لمحة عن مضمون الرواية، نرى أنها تحكي قصّة الشاب الإسرائيلي الذي أراد بلوغ عين حارود المنطقة الوحيدة المحررة الإنسانية. حيث يبدو في الرواية وعي الإسرائيلي بأهمية العربي الفلسطيني الذي سيساعده على الهروب فيحمل الدرب أحاديث متبادلة بينهما، إذ يلتقي بمحمود الشخصية العربية، وتجري بين الاثنين خلال رحلتهما مواقف عديدة وتدور حوارات شتى بينهما. فنرى كأنّه كان لعاموس كنان “وعي مبكّر  تحديدًا بأن بلوغ عين حارود، وهي كما ذكرنا البقعة المحرّرة والإنسانية وغير العنصرية، وبكلمات أخرى بلوغ الحل الديمقراطي والإنساني الشامل للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، لن يتم من وجهة نظره إلا بمساهمة العرب الفلسطينيين كشركاء على قدم المساواة.”

ويوضح مترجم هذه الرواية مقاربته السياسية ومنظوره تجاهها، من خلال مجموعة من الملاحظات في هذا الشأن يقول:” إن رواية “الطريق إلى عين حارود” كانت بمنزلة “نبوءة” عاموس كينان في عام 1984 عن إسرائيلٍ ما، بدا وقتئذ أنها مبنية للمجهول، غير أنها بنظرة راهنة النبوءة التي تحققت بدءًا من عام 2001، وهو العام الذي أصبح فيه أريئيل شارون (الجنراليسمو)، بعد أن حدث كل ما حدث، رئيسًا للحكومة الإسرائيلية. وليس هذا فحسب وإنما أيضًا أصبحت إجراءاته غير الديمقراطية (باللغة الملطّفة) مسوّرة أيضًا بـ”جدار واقٍ” من شبه “إجماع قوميّ” أصمَّ يشكو من ندرة أصحاب المواقف الليبرالية أو، على الأصح، يشكو من ندرة تأثير أصحاب هذه المواقف الليبرالية في المناخ السياسي الرائج وما يستجرّه من موبقات تطول أيضًا الأوضاع الإسرائيلية الداخلية العامة برشاشها.”

ويسترجع شلحت في تعقيبه إحدى حلقات “بروفايل” الأسبوعية للكاتب والصحافي الإسرائيلي أهارون بخار المنشورة في جريدة “بديعوت أحرونوت” والذي يسجّل موقفًا معارضًا لتشريد الشعب الفلسطيني وبناء بلاده على حسابهم متسائلًا بينه وبين نفسه عن معنى الصهيونية وماهيتها في الربع الأخير من القرن، مشككًا في هويته. ويقلل أنطوان شلحت من شأن طريقة تفكير “بخار” الذي اكتفى بالتساؤلات والحقيقة هي التي تكرس مبدأ كره ومعاداة العربي لمجرد أنه كذلك فتشريد الفلسطينيين تم لبناء وطن عبري مع تخطيط مسبق.

وفي إحدى مقالات “ب. ميخائيل” في جريدة بديعوت أحرونوت” أيضًا والذي يعتبر أنّ اليهودي تعرّض للظلم منذ طفولته وللقتل عبر الأجيال، يرى شلحت أن حملة التشكيك تطول ماهية جوانب أخرى في الدعاوى الصهيونية وهي ترتبط بماهية العلاقة بينها وبين “التاريخ اليهودي” كذلك. فيرى الناقد تناقضًا وتضليلًا كبيرًا في حديث “بخار” بين الدعوة لاستعمار فلسطين واعتبارها غير الواقع أنها خالية من السكان  وأن هجرة اليهود إليها هجرة شعب بلا أرض إلى أرض بلا شعب”، حسبما زعم قادتها.” وهو نفسه من يعترف بقوله:” لكنهم (العرب) هنا. وهم مغروسون جيدًا في أرضهم وموثقون بها بتلك السلاسل التي تربط الإنسان بأرضه ووطنه. وإذا لم تعرف الصهيونية كيف تتأقلم مع حقيقة وجودهم هنا فإنها تضع كل مشروع الانبعاث اليهودي في أرض إسرائيل (فلسطين) في خطر مستمر”!

ويجد شلحت سهولة للبحث في أهداف الأدب القيامي بالعودة إلى الجذور الأولى وهو “التفكير بفلسطين” كوطن قومي لليهود على تشريد الفلسطينيين والاستيلاء عليها.

اليوتوبيا الإسرائيلية واستعمار فلسطين

ويشير الناقد إلى السمات الأساسية لليوتوبيا الصهيونية التي تمت المناظرة حولها: استعمار فلسطين وبناء امبراطوريتهم كما هرتسل والفريق الثاني من الليبيراليين والاشتراكيين والشيوعيين غير المتفقين إلا على عداءتهم للسامية في أوروبا.

وما يفسر الأدب القيامي الإسرائيلي في تلك المرحلة حتى 2005 الخوف من فقدان “اليوتوبيا الصهيونية” وهو الحلم البريء الذي صار ملطخًا، وهو طريقة تحقيققه لم يرق إلى مستوى “الجنة الموعودة” ببما أنّ هذا الحلم الإسرائيلي به مبني على صدع إنكار الآخر والتعدّي على حقوقه.

ويستخلص أنطوان شلحت ويقول: “يمكن الإشارة أيضًا إلى أن علاقة نصوص كتاب هذه الروايات بواقعهم هي علاقة متعدية. ويبدو أنهم من وراء تصوير الكابوس القادم برسم ما هو قائم يهدفون إلى حفز أي معارضة ممكنة ضد تلك الديستوبيا”.

ويعرض شلحت رأي الناقد الإسرائيلي أريك جلانسور عن ازدهار الأدب الأعمال القيامية ما يثير فهم الخوف والقلق تجاه المستقبل وإسرائيل أصبحت أكثر تطرفًا وبات هذا الجانر الأدبي يميل إلى الترفيه.

ومن أبرز نماذج “أدب النهايات” الثالث “يشاي سريد” الصادرة عام 2015 ترجمت للعربية 2022 عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار(2015   بناء الهيكل الثالث بعد طرد الفلسطينين والصلاة في الهيكل الذي يعيدون بناءه وبعد عشرين عامًا يخرب نتيجة حرب مع العرب.  وروايات أخرى صدرت تحكي عن انهيار اسرائيل وتحوها إلى دولة فقيرة مهزومة بعد بناء الهيكل. ولا ينفي شلحت أن لهذه الظاهرة تعبيرها الاجتماعي والثقافي وقد سعى إلى توضيحها.