الاحتضار بين الفلسفة وفن المواساة

لقد كان وما زال ديدن الناس على مر الزمن الاختلاف؛ وهو يشمل قضايا كثيرة ومتنوعة، إلا ان هناك قضية مركزية لا يمكن لاثنين في هذا الكون ان يختلفا عليها؛ ألا وهي الموت. نعم قد تختلف العقائد والآراء فيما بعد الموت وهل هناك حياة أم لا. إلّا ان الموت نفسه قضية يتفق عليها الجميع من دون استثناء. فهذه الحقيقة هي الوحيدة التي يجتمع عليها الناس جميعا. بل من الممكن أن نتوسع في دائرة هذا الاتفاق لتشمل الحيوانات والنباتات وجميع الكائنات وحتى الجمادات. فطبيعة الكون تثبت أن لكل عنصر من عناصر هذه الحياة عمرا محددا ولا بد لهذا العمر ان ينقضي. وعليه فالموت هو الركيزة الأساسية التي تدفع الناس الى الهرب منه. لكن الاعتقاد هو من يحدد طبيعة هذا الهرب؛ فالمتأمل والمعتقد بحياة أخرى بعد الموت مطمئِّنٌ الى انه سيواصل حياته بعد الموت لكن بعالم آخر وبطرق أخرى مغايرة. أما غير المعتقد فدائما ما يتصور العدم والهباء والتلاشي والانقضاء وهذه الأمور من الناحية الفلسفية المادية غير واقعية.

فالعدم من الناحية المنطقية الفلسفية العقلية حقيقته (اللاشيء المطلق)؛ فلا يوجد فيه أي شكل من أشكال الوجود على الإطلاق؛ لا ظلام ولا نور ولا جهات؛ فلا قريب ولا بعيد إذ لا مكان ولا بداية ولا نهاية إذ لا زمان. كما أنه لا ماض ولا حاضر ولا مستقبل. ولا وجود لمادة بكثافتها أو ذرّاتها كما لا وجود لطاقة ولا ضوء ولا حركة ولا وعي ولا عقل ولا روح ولا إدراك ولا أفكار ولا مشاعر ولا ذاكرة ولا خيال. فهو محو تام للوجود بكل أشكاله وأنواعه وصوره؛ وهو فناء تام للزمان والمكان والهيئة والكتلة وغياب تام عن الوعي وخلو المادة وهذا كله يفوق التصور.

وقد عارض مجموعة من العلماء شبهة العدم وتصدوا لها وقدموا أدلة عقلية كثيرة على بطلانها.

فذهب ابن حزم  الى ان العدم ليس معنى ولا شيء، وقال ابن القيّم ان ما ليس له حقيقة خارجية ولا ذهنية فليس بشيء، بل هو عدمٌ صرف، مؤكدا أنه لا ريب أن العدم ليس بفعل فاعل ولا جعل جاعل. كما رأى ابن أبي العز الحنفي ان نفي الماهية هو نفي الوجود، إذ لا تتصور الماهية إلا مع الوجود ولا فرق بين (لا ماهية) و(لا وجود).

من أجل ذلك قسّم السيد الطباطبائي في (نهاية الحكمة) العدم الى قسمين؛ الأول ما يمكن أن يتصوره الذهن والعقل تبعا للحواس. والثاني ما لا يمكن أن يتصوره العقل. وقد أطلق على الأول (العدم المضاف) وعلى الثاني (العدم المطلق). وقال ان العدم المضاف الذي يمكن تصوّره بعد أن يضاف إلى وجود مثل عدم البصر أو عدم السمع أو غير ذلك، ومن هنا لا يمكنُ أن نفهم العدم البحت؛ إذ كيف نفهم شيئاً لا يمكننا تصوّره؟ وهو بذلك يبطل شبهة العدم المطلق بالكامل لأنه أمر خارجٌ عن الإدراك والتصور.

وعليه فان الموت ليس بالضرورة عدماً مطلقاً وفق ما يعتقد به الماديون. فهو حسب العقائديين انتقال من مرحلة حياتية الى أخرى وفق ضوابط وآليات المرحلة اللاحقة.

ومن بديه القول ان الاحتضار هو أول مراحل هذا الانتقال من حياة الدنيا الى الحياة الأخرى والتي يسميها القرآن (البرزخ)؛ والبرزخ لغةً هو الحاجز وكل ما يحجز بين شيئين أو مكانين. وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤيد هذا المعنى من قبيل قوله تعالى (مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان)، وقوله (وهو الذى مرج البحرين هذا عذبٌ فراتٌ وهذا ملحٌ أجاج وجعل بينهما بررخا) أي حاجزا. وعندما يتناول موضوع الموت يحدد هذه اللفظة للدلالة على انتقال الانسان من هذه الحياة لحياة أخرى غيرها وهو يواصل حياته فيها وان هناك حاجزا برزخا فيما بين الحياتين فيقول تعالى (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون). وان الاحتضار هي المرحلة التي تسبق الموت وتشرف عليه؛ بمعنى أن الاحْتِضارهو الإِشْرافُ على المَوْتِ بِظهُورِ عَلاماتِه. ويقال في اللغة انَّ حُضِرَ المَرِيضُ واحْتُضِر إذا حَضَرَهُ المَوْتُ ونَزَلَ بِه، فهو في النَّزْع ويسمى مُحْتَضَرٌ ومَحْضُورٌ ويعني بظهور علاماته كاسْتِرْخاءِ القَدَمَيْنِ واعْوِجاجِ الأَنْفِ وانْخِسافِ الصُّدْغَيْنِ وامْتِدادِ جِلْدَةِ الوَجْهِ.

وتتفق جميع الحضارات الإنسانية كالبابلية والآشورية والفرعونية والصينية والهندية واليونانية وجميع الأديان السماوية على أن الموت هو مفارقة الروح للجسد.

على أننا من المهم أن نتوقف عند مسألة الروح هذه؛ كونها مغالطة. فان الذي يفارق الجسد إنما هي النفس لأن الروح جوهر؛ وبمعنى أدق هي الوقود الذي يحرك النفس والتي بدورها تسوق هذا البدن. وهذا ما يبيّنه القرآن الكريم؛ فهو لم يستعمل أي لفظة للروح في سياق الموت والحياة الأخرى وكان في ذلك كله يستعمل لفظة النفس من قبيل قوله تعالى (اللهُ يَتَوَفى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمى إِن فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكرُونَ). لذا فان النفس هي من تجري عليها الوفاة. أما الروح فهي خالدة. من أجل ذلك يتعامل القرآن دائما بألفاظ النفس في قضايا البرزخ والبعث والنشور من قبيل قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ).وقوله تعالى (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة  ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).

وعلى هذا، فان مفهوم الموت هو تحرر النفس من سجن الجسد وعودتها لعالم الحقائق والخلود.

وهكذا كانت نظرة الكثير من عظماء الفلاسفة الأوائل والمحدثين. فكان إفلاطون ينظر إلى الموت على أنه ليس نهاية الحياة، بل بداية مرحلة جديدة من الوجود. وكان يعتقد أن الروح خالدة، وأنها كانت موجودة قبل أن تتجسد في الجسد البشري. وقد دعا كل فيلسوف حقيقي بأن يكون مستعدًا للموت، لأنه يسعى دائمًا لفهم الحقائق الأبدية المتجاوزة للمادة. وهذا في الأصل هو اعتقاد أستاذه سقراط الذي لم يكن يخشى الموت. بل كان يعتبره انتقالًا لحالة أخرى من الوجود.

وهذا الفيلسوف الفرنسي ديكارات يخاطب صديقا له بأن لا يخاف من الموت بقوله ان العلاج الناجع من خشية الموت يتمثل في الاعتقاده الجازم بأن أنفسنا تبقى بعد أجسامنا.

وكان لكل هذه المفاهيم والحقائق والموروثات أثرها في النفس البشرية وقد انعكس ذلك كله على الطبيعة العقلية المؤثرة في جوانب الفن والأدب والشعر كونها من الموضوعات التي تتشابك فيها العقيدة بالأحاسيس والشعور. وقد نقلت لنا كتب التراث كماً ليس بالقليل عما يمكن أن نسميه (أدب الاحتضار). حيث أنه يصور بلغة رفيعة وألفاظ مناسبة حالات الاحتضار التي تنزل بالأديب والشاعر والعالِم؛ من ذلك ما روي عن يعقوب بن الربيع الذي رثي جارية له ماتت؛ فقال يصف سكرات الموت وساعات الاحتضار:

حتى إذا فَتُرَ اللسانُ وأصبحَت

للموت قد ذَبُلَت ذُبولَ النرجسِ

وتسهَّلَت منها محاسنُ وجهِها

وغدا الأنينُ تحثُّه بتنفسٍ

رجع اليقينُ مطامعي يأساً كما

رجع اليقينُ مطامعَ المتلمسٍ

وهي صورة مخيفة يرسمها الشاعر على لسان حال جاريته وقد فتر لسانها وذبلت وردة جمالها وطُمست معالم حسن وجهها؛ وبدل ان تغنيه أصبح الأنين غناءها من شدة الألم وصعوبة الموت.

ونقل أيضا انه لما مرض أمية بن أبي الصلت مرضه الذي مات فيه، جعل يقول: قد دنا أجلي، وهذه المرضة منيّتي، وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد، فلما دنت وفاته أغمي عليه قليلاً، ثم أفاق وهو يقول:

لبيكما لبيكما هاأنذا لديكما

لا مال فيقذيني ولا عشيرة فتنجيني. ثم أغمي عليه أيضاً بعد ساعة حتى ظن من حضر من أهله أنه قد مضى، ثم أفاق وهو يقول:

لبيكما لبيكما هاأنذا لديكما

لا بريء فأعتذر، ولا قوي فأنتصر. ثم إنه بقي يُحدّث من حضره ساعة، ثم أغمي عليه مثل المرتين الأوليين، حتى يئسوا من حياته، وأفاق وهو يقول:

لبيكما لبيكما هاأنذا لديكما

محفوف بالنعم، محفوظ من الريب، فقال:

إن تغفر الله تغفرْ جمّا

وأي عبدٍ لك لا ألمّا

ثم أقبل على القوم، فقال: قد جاء وقتي، فكونوا في أهبتي، وحدثهم قليلا، ثم يئس القوم من موته، وأنشأ يقول:

كلُّ عيشٍ وإن تطاول دهراً

قِصرُهُ مرةً إلى أن يزولا

ليتني كنتُ قبل ما إن بدا لي

في رؤوس الجبال أرعى الوعولا

اِجعل الموتَ نصبَ عينيكَ واحذر

غولةَ الدهر إن للدهر غولا.

ونرى هنا كيف أن الشاعر يتمنى لو انه كان يرعى الوعول في الجبال على أنه قضى حياته بين مفاتن الدنيا وغرورها لشدة وهول ما يراه في الاحتضار ولسوء وعاقبة ما ينتظره.

ونقل أيضا أنه لما احتضر سيبويه، جعل رأسه في حجر أخيه، فقطرت قطرة من دموع أخيه على وجهه، فأفاق من غشيته، وقال:

أخيين كنا فرق الدهر بيننا

إلى المنزل الأقصى ومن يأمن الدهرا.

نعم هكذا يشعر المحتضر وهو في ساعاته الأخيرة. ان الدنيا أصبحت عنده لا تساوي شيئا وأن الفراق أصعب مما كان يتخيل وأن كل ما فعله وجناه في حياته أصبح على المحك.

وقد نقل محمد بن يعقوب البزاز قال كنت جارا لأبي نواس، فعدته في مرضه الذي مات فيه، ودخل عليه طبيب نصراني اسمه سعيد، فنظر إليه ووصف له دواء يعلله به، ثم خرج وخرجت بخروجه، فغمزني وقال مرهم لا يعذبوه بالدواء؛ فإنه الساعة يموت، فرجعت إليه فقال: سألتك بالله ما قال لك النصراني، فإني رأيته قد غمزك؟ فقلت: ما عسى أن يقول. فقال: أقسمت عليك لما أخبرتني. فأخبرته، فرفع عينيه إلى السماء، وسالت دموعه على خديه، وقال:

يا رب إني لم أزلْ

 في مثل حال السحره

حين استلاذوا بِعُرَى

الدين وكانوا كفره

فآمنوا يوماً ففا

زوا بثواب البرره

ولم أزل مستشعر ال

إيمان ياذا المقدره

فاغفر فإني منك أَو

لي منهمُ بالمغفره

وروي ان أحد معارفه رآه بعد موته بأيام في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال:غفر لي بأبيات قلتها، وهي الآن تحت وسادتي، فنظروا وإذا برقعة تحت وسادته في بيته فيها مكتوب:

يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذنوبي كَثرَة

فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ

إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ

فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ

أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً

فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ

ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا

وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ

ويروى أن آخر بيت قاله محمود الوراق في مرضه الذي مات فيه:

إِنَّ ظَنّي بِحُسنِ عَفوِكَ يا رب

جَميلٌ وَأَنتَ مالِك أَمري

صُنتُ سِرّي عَنِ القَرابَةِ وَالأَه

لِ جَميعاً وَأَنتَ موضِعُ سِرّي

ثِقَةً بِالَّذي لَدَيكَ مِنَ السِر

فَلا تُخزِني بِهِ يَومَ نَشري

يَومَ هَتكِ السُتورِ عَن حُجُبِ الغَي

بِ فَلا تَهتِكَنَّ لِلناسِ سَتري

لَقِّني حُجَّتي وَإِن لَم تَكُن يا

رَبِّ لي حُجَّةٌ وَلا وَجهُ عُذرِ

ان الاحتضار بما يتضمنه من مآس وآلام وصعوبات يجسد في الوقت نفسه عمق المعاني والمشاعر التي يعانيها المحتضر. وان الظاهر على أدب الاحتضار هذا كونه لا يلتفت الى ألم الموت وصعوبته وشدته بقدر ما يلتفت الى مشاعر الندم والحسرة على ما فات ومضى. من المفيد أن نتعلم من أشعار المحتضرين فهي خير سبيل للوصول الى سمو المعرفة وعظيم الاخلاق والإنسانية.