الدكتور هيثم الشيباني
كانت العمارة بيئية بالفطرة منذ فجر الحضارات القديمة بل ومنذ أن شيد الإنسان أول مأوى له. فقد حاول البشر دائما التأقلم مع بيئاته والتعايش معها، وظهر هذا التأقلم مثلا باستعمال المواد المتاحة محليا وباعتماد أساليب بناء ناجحة في الحماية من عوامل الطبيعة كالحر والبرد والأمطار. وبدأت العمارة بالابتعاد عن الفطرة البيئية مع بداية الثورة الصناعية في أوروبا في القرن التاسع عشر. فالهجرة الكثيفة إلى المدن واختراع مواد وتقنيات بناء جديدة واكتشاف النفط وتوفره بأسعار زهيدة لاستعماله في التدفئة واكتشاف الكهرباء وتطبيقاته الكثيرة كلها عوامل جعلت العمارة تبتعد شيئا فشيئا عن بيئتها. أدى هذا التحرر وتطور في أساليب العمارة خلال ما يقرب من قرن ونصف القرن إلى تراكم تأثيرات سلبية كثيرة على البيئة. فصناعة البناء واستعمال الأبنية مسؤولان اليوم عن حوالي 50 من انبعاثات غازات الدفيئة واستنزاف طبقة الأوزون وعن حوالي 50 أيضا من مجموع النفايات الصلبة و40 من تلوث البحار والأنهار. كذلك مشاكل التضخم العشوائي في المدن.
كانت الصدمة النفطية الأولى عام 1973، والارتفاع الكبير في أسعار الوقود الذي رافقها قد غيرت التفكير بأساليب العمارة بهدف توفير الطاقة في الدرجة الأولى. تبنى معماريون من أمثال ريتشارد رودجرز ونورمان فوستر من بريطانيا وتوماس هيرتسوغ وفراي أُتّو من ألمانيا وروبرت فوكس وبروس فول من الولايات المتحدة استكشاف تصاميم معمارية جديدة تدور حول ترشيد استهلاك الطاقة والتأثير البيئي طويل المدى.
انتشرت أفكار العمارة البيئية وتطورت عالميا منذ منتصف السبعينيات بتأثير انتشار الوعي البيئي. وبعد عقدين من الزمن بدأت تتشكل منظمات تضم المعماريين والمهندسين والمطورين ذوي التوجه البيئي كان من أبرزها مجالس البناء الأخضر التي انتشرت في أكثر من مائة دولة
من ضمنها دول عربية مثل الأردن والإمارات والبحرين وعمان والكويت، وقطر ولبنان ومصر والمغرب. المجلس العالمي للبناء الأخضر ومركزه الرئيسي في تورنتو، كندا، يقوم بتنسيق أنشطة هذه المجالس، وليست هذه المجالس هي الوحيدة التي تعنى بالعمارة البيئية إلا أنها الأكثر نشاطا وتنظيما ونفوذا. فهي تضم اليوم أكثر من 27 ألف عضو حول العالم من مكاتب هندسية وشركات ومنظمات مهنية. المهمة الأولى التي تتولاها هذه المجالس هي تطوير معايير تقييم المشاريع من الناحية البيئية والتأكيد على السلطات المحلية للأخذ بهذه المعايير في تشريعاتها المعمارية.
ان نظام الريادة في التصميم الطاقي والبيئي، يعني مجموعة معايير طورها المجلس الأميركي للبناء الأخضر عام 1994 قد نال اعترافاً دولياً به كمقياس لتصميم وإنشاء وتشغيل المباني. يقوم نظام التصنيف بتقييم وقياس الأثر البيئي للمبنى وأداءه على المدى الطويل ويعني ذلك اختيار الموقع وتوفير الطاقة وكفاءة استعمال الماء وانبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكاربون وجودة البيئة الداخلية وغير ذلك. ويتم تصنيف المباني التي تنال الشهادة إلى 3 مراتب حسب درجة تطبيقها للمعايير المطلوبة وهي المرتبة البلاتينية والذهبية والفضية. وقد قامت مجالس البناء الأخضر في العديد من الدول بتطوير أنظمة تقييم مشابهة ولكنها تركز أكثر على الخصوصيات المحلية منها نظام التقييم بدرجات اللؤلؤ- إستدامة في الإمارات العربية المتحدة، ونظام أرز لتقييم المباني في لبنان. وبذكر أيضاً نظام BREEAM الذي وضعته الحكومية البريطانية عام 1990 فكان أول نظام تقييم بيئي في العالم. يتم العمل به اليوم في أكثر من 70 دولة.
يوجد اليوم في العالم أكثر من مليار و200 مليون متر مربع من المساحات المبنية المصنفة بيئيا بحسب نظام LEED وأكثر من 2. 250. 000 من الأبنية المصنفة بحسب نظام BREEAM، وهناك الكثير من الأبنية البيئية التي لم تصنف بعد. والمؤشِّر العام لاتجاه العمارة البيئية تصاعدي بكل وضوح. أعدت مؤسسة دودج للمعلومات والتحليل عن آفاق العمارة الخضراء شملت 60 بلداً توقعت ان يتضاعف عدد المشاريع البيئية المنفذة سنوياً كل ثلاث سنوات.
وتقول هذه الدراسة إن بلدان الاقتصادات الناشئة مثل الهند، والبرازيل وجنوب أفريقيا والسعودية سوف تكون العامل الأساسي لنمو العمارة البيئية. فتتوقع أن يتضاعف عدد المشاريع البيئية في السعودية ست مرات خلال السنوات الثلاث القادمة. كما توقعت ان يستمر توسع العمارة الخضراء في البلدان الصناعية ليبلغ حوالي ثلث مشاريع البناء الجديدة في نهاية سنة 2018.
ان السبب الرئيسي في هذا التقدم المتوقع للعمارة الخضراء هو الوعي البيئي المتنامي عند المهتمين في صناعة البناء. وهناك أسباب أخرى ربما تكون وراء هذا التطور. فقد اكتشف المطوِرون العقاريون والمستثمرون المردود الاقتصادي بعيد المدى للعمارة البيئية. فالأبنية الخضراء ولو أنها تتطلب في البداية استثماراً أعلى بحوالي 5 الى 10 في المائة من كلفة الأبنية العادية لكنها توفر كثيرا في تكاليف الطاقة والتشغيل والصيانة.
وجدت دراسات عديدة ان إنتاجية الموظف الذي يعمل داخل مبنى يراعي مبادئ العمارة البيئية يمكن ان تزيد من 15 إلى 20 بالمئة. كما إن تبني بعض الحكومات للمعايير البيئية وإدراجها في تشريعاتها المعمارية والحوافز الضريبية والمكافآت التي تمنح للمشاريع البيئية، ساهمت بشكل ملحوظ في انتشار العمارة الخضراء.
من المتوقع إن الدول التي وقعت على اتفاقية باريس حول تغير المناخ (195 دولة) سوف تأخذ بشروط العمارة الخضراء وفاء لالتزامات المؤتمر المذكور.
تعتقد ليزا بايت وهي معمارية في إدارة المجلس العالمي للبناء الأخضر، أن التصميم المعماري البيئي اليوم هو التصميم الجيد. وسوف تكون الصفة البيئية الخضراء أو المستدامة مصاحبة لمصطلح العمارة لأنها إن لم تكن بيئية فإنها لن تكون عماره.
يتطلب الاهتمام بالتنمية المستدامة
يتم فهم التنمية المستدامة، والمدن الخضراء من خلال حماية البيئة وحماية الثروات الوطنية الطبيعية كالمحميات،
هناك طرق عديدة لتحويل المدن العادية الى خضراء،
يتطلب تنفيذ طرق السيارات بشكل حضاري، واحاطتها بحدائق جميله وورود موسمية وتشجيرها بنباتات شبه دائمية، وتنفيذ على الجوانب طرق كافيه للمشاة والدراجات الهوائيه وتشجيع المواطنين على شراء الدراجات الكهربائية حماية للبيئة وضمانا لانسيابية المرور. اما المشي فهو طريقة ناجحة للراحة النفسية وتعزيز اللياقة البدنيه.
يتطلب الشروع بتشييد المباني الخضراء، حيث يتحقق تقليل الانبعاث الحراري الذي تصدره المباني، وتقليل العوادم التي تخرج من
استخدام الوقود الملوث للبيئه لأغراض التدفئه.
أما المدن والدول المتاح لها نصيب وافر من أشعة الشمس فان استخدام الطاقة الشمسية لأغراض التدفئة والطاقة الكهربائيه يؤدي الى منافع اقتصادية وبيئيه مؤكده، كما هو معروف عالميا وكتبنا عنها عدة مقالات سابقه نشرناها في مجلة الحصاد.
نقترح ان تتجه الحكومة والأفراد لإقامة مبان خضراء، وهدفها تقليل الانبعاث الحراري
ان المحافظة على المباني
بخصوص العمارة البيئيه ومستقبلها، لا بد ان تكون دول الاقتصادات الناشئة ميدانها أخضر، كما وأن البناء الأخضر يحسن من سمعة المالك، ويجعل المشروع أكثر جاذبية للزبائن مما يرفع من قيمة العقار. ولا يكفي اعتبار المبنى صديقا للبيئه، بوجود اللاقطات الشمسيه على سطحه. فما هي المعايير لتقييم المشاريع العمرانية بيئيا؟ وكيف يمكن للمسات البيئية أن تتدخل في التخطيط العمراني؟ وكيف هو مستقبل العمارة البيئية مع حقيقة التكاثر السكاني في المدن ؟
يتطلب مراعاة بعض الحقائق في الخطط العمرانيه:
– ان عملية تصنيع مواد البناء ونقلها، وعملية البناء نفسها واستعمال المبنى من قبل شاغليه كلها تستهلك طاقة وموارد طبيعية. ً مما تسبب في تلوث الهواء الماء، التربة والتلوث الصوتي، والضوئي وغيرهما من الملوثات.
– تحدث المباني تغييرات سلبية في المناخ المحلي، ومستوى المحيط الطبيعي أو المشيد.
– تشغل المباني والبنى التحتية مساحات ثمينة من الأرض وتساهم أحيانا في حدوث كوارث طبيعية كالفيضانات وهبوط التربة وانجرافها.
لذلك فلا بد من التوفيق ما بين البيئة والبناء.
أهداف العمارة البيئية
اولا حماية البيئة وترشيد استعمال الطاقة والموارد الأخرى. وذلك في حسن اختيار موقع البناء وشكله وحجمه ومواده وتجهيزاته. لذلك تسعى العمارة البيئية إلى تحقيق الأهداف التالية :
تخفيض استهلاك الطاقة والموارد الأخرى في عملية البناء.
الاستخدام المدروس للأنظمة الطبيعية والموارد المتجددة (الطاقة الشمسية التهوية الطبيعية مياه الأمطار خصائص الريح من حيث السرعة والاتجاه).
تأمين مناخ صحي لمستخدمي المبنى خال من الانبعاثات الضارة.
استعمال مواد بناء صحية من موارد مستدامة لا يستهلك تصنيعها الكثير من الطاقة.
تقليص المساحات المبنية قدر الامكان، وزيادة المساحات الخضراء.
الحفاظ على الأحياء المفيده من نبات وحيوان.
انسجام المبنى مع محيطه الطبيعي أو المشيد.
مبادئ العمارة البيئية :
استعمال الموارد المتوفرة محلياً.
الاستقلالية والاكتفاء الذاتي.
التأقلم مع ظروف الموقع.
التنوع داخل الوحدة السكنيه.
تتطلب العمارة البيئية محاولة تقليص العبء الذي يسببه البناء على البيئة إلى الحد الأدنى، واستعمال الموارد المتوفرة محلياً، مما يعني الاستغناء عن الطاقة المستوردة جهد المكان واستغلال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرهما من الطاقات المتجددة ومراعاة توفير الطاقة في بناء الجدران والسقوف المعزولة، والزجاج المزدوج.
يتطلب إن يراعي المشروع العمراني مبدأ تنوع مصادر الطاقة، وإستيعاب وظائف أخرى عند تخطيط أو إعادة تأهيل مجمع سكني مثلاً
(محلات تجارية مقاهي ملاعب أطفال وغير ذلك) لجعل الحياة فيه أكثر جاذبية وحيوية. كما أن تنوع فئات سكان حي أو منطقة في مدينة مثلا يمنع نشوء العزله السكانيه بكافة أنواعها سواء كانت عرقيه أو دينيه أو غير ذلك.
في البناء التقليدي تسير المواد في سلسلة ذات اتجاه واحد مقطوعة في نهايتها. فالمياه على سبيل المثال تصل إلى البيت نقية تستعمل ثم ترمى كمياه مجاري التي بدورها توصلها إلى البحر وتسبب تلوثه أو المواد الغذائية فإنها تدخل البيت كمواد أولية تستسهلَك ثم ترمى فضلاتها كنفايات وتتراكم هذه لتتحول إلى مشكلة نفايات مستعصية.
تتولى العمارة البيئية الاهتمام بمياه المجاري مثلا حيث تصفى ثم يعاد استعمالها والاستفاده من مخلفاتها. أما النفايات العضوية فيمكن تحويلها الى سماد يغذي النباتات التي بدورها تتحول الى غذاء للإنسان. أما الفضلات غير العضوية وهي في غالبيتها مواد ثمينه (معادن ورق زجاج) فبالإمكان إعادة تدويرها واستعمالها مجددا.
يقاس نجاح الوحدة العمرانيه(بيت، مبنى، قرية مدينة) بقدر ما تتمتع بالاستقلالية والاكتفاء الذاتي ويكون استهلاك الموارد أقل وأكثر عقلانية. إذ إن المسافات تصبح أقصر والتحكم بالمنظومات يصبح أسهل. فبدلا من تمديدات البنى التحتية المركزية التي تحتاج الى قطع مسافات طويلة وتستهلك بالتالي كميات كبيرة من المواد والطاقة وتكون أكثر عرضة للأعطال يمكن إنشاء بنى تحتية لامركزية توفر الموارد بسهولة.
العدد 101 –شباط 2020