فرناندو بيسوا، ألفارو دي كامبوس واللاطمأنينة في الكتابة

بيروت من ليندا نصار

يعيش الشاعر عزلة داخلية تدفعه إلى أن يصنع لنفسه عالما من الابداع يجعله شديد التفرد في طرحه قصائد مستقاة من إيقاعات الحياة انطلاقا من رؤى مختلفة. من الفكرة مرورا بالمخيلة فالعاطفة إلى اللغة ينطلق الشعراء في عالم يتأرجح بين الواقع والمجاز لتتعدد عندهم أشكال الكتابة. هكذا يكتب الشاعر عالما يتماهى وقصيدته لتأتي نصوصه نتيجة تأثير وتأثر فتدهش العالم.
من الشعراء اللافتين العظماءالذين طبعوا صورة القرن العشرين فرناندو بيسوا الذي يعدّ من الشعراء المتقنين كتابة الشعر المختلف، فقد استطاع هذا الشاعر أن يراكم ما قدمه إليه الكون فنهل من الواقع مستنطقا الأثر ليخرج بقصيدة تشكل مفارقة بالنسبة إلى قارئه وهذه المفارقة تكمن بين القسوة في التعبير ومسّ الإحساس الداخلي للإنسان والدخول إلى أعماقه، وبين اللين في إبراز العواطف من خلال إظهار المعاناة والألم من هنا تدعونا نصوص بيسوا إلى قراءة متأنية تختلف عن قراءة ما هو مألوف وتصوب البوصلة نحو حداثة الكتابة.
بالنسبة إليه، من عمق التخييل الشعري يستعيد الشاعر لحظات مرت وعبرت عن الأنا التي تدعو القارئ إلى التعاطف معها ويبقى سبب

فرناندو بيسوا

الحزن مجهولا ما يدعو المتلقي إلى أن يقيم بين رؤيتين للكتابة: الواقع المادي الملموس والمتخيل بكل ما يحمله من بعد ماورائي لتشكيل هذا العالم. وكأن الشاعر في حالة ضياع بين مدينة داخلية ذاتية حرة وبين المدينة الكونية التي تطفو على ظهر سفينة مفتوحة على كافة احتمالات العالم.
تبدو علاقة الشاعر بالشعر حديثا داخليّا فهو يحفر أعماق أناه ليكتب وهو في موقع مواجهة الذات وتتبدى عنده النزعة المازوخية، كما يقف أحيانا في موقع الإنسان الذي تهزه الأعاصير من كل جانب لتظهر هذه الذات مرهفة ضعيفة تحتاج إلى عالم أنكره، خصوصا وأن بيسوا عاش حياته وبرغم قربه من الوسط الثقافي في لشبونة إلا أنه كان منغلقا بكل هذا الكم من الإبداع الذي رافقه حتى وفاته، وهو الذي وجد الحرية في القدرة على العيش في عزلة والعبودية في التعلق بالعالم. أما المسافة بين الحياة والموت فهي نفسها مسافة زنزانة وتابوت في غرفة مغلقة. أوليس القبر هو الذي يفصل الإنسان عن العالم أيضا؟ »نحن لا نحب أحدا أبدا. ما نحبه فقط هو فكرتنا عمن نتوهم أننا نحب، ما نحبه هو مفهومنا عن ذواتنا«، هكذا يقول شاعرنا.
من الحياة الناقصة صنع بيسوا حيوات منحها لشخصياته المبتكرة التي كانت صادقة في تعبيرها عن واقع امتزج بالمتخيل الشعري وكأنه بذلك يكمل نفسه ويملأ نقصه الكبير عبر الكتابة. فكل الانكسارات والعواصف التي صوّبت نحوه جعلت من بيسوا شخصا متصدّعا لا تلتئم نفسه إلا بالإبداع.
تعددت أشكال الكتابة لدى بيسوا فمن اليوميات الملقحة بالسرد إلى الشعر وكل ذلك وسط ذاتية تحمل شعرية عالية وكأن الشاعر يشيد قلعة يحصن فيها ذاته من المجهول. وفي هذا دليل على امتلاكه أدوات الكتابة والموهبة الخالصة التي جعلت منه كاتبا مشهورا. نعم إنه بيسوا الذي كتب في الظل لتبصر قصائده النور بعد وفاته وتصبح في متناول القراء.
كتب بيسوا قصائده في مزاج خاص وكأن الحزن غلبه فعاش غريبا متنقلا كما في ديوانه »ألفارو دي كامبوس« الذي يجعلنا ندرك حالات الشاعر وما مر به من نوبات لكتابة الحياة.
كذلك عاش بيسوا في تعددية الأنا فهي حالات الفصام والتنازع بين الأنا الحاضرة والأنا الماثلة قد ظهر ذلك جليّا في قصائده التي عبرت عن قوة حضور هذه الأنا وكأنّه يصنع من نفسه شخصا يتجدد على طريقته لا كما يريده الآخرون، الأمر الذي جعله يختار أسماء مستعارة لأبطال دواوينه. من هنا تبدو الهوة كبيرة في ما هو عليه وما يريد أن يكون. فالشاعر عاش في عالم من الثنائيات الضدية في الإطارين المكاني والزماني. هذا الاختلاف والتنوع في التجربة هو الذي جعل منه يكتب شعرا خالصا صادقا بعيدا عن كل صناعة أو زيف. »بدأت أعرف نفسي، أنا غير موجود… أنا الهوة بين ما أريد أن أكونه وما صنعه مني الآخرون… هذا هو أنا. انتهى«
عاش الشاعر عزلة إنسانية قبل أن تكون كتابية وشعرية وكأن هذا الحزن المتزايد والقلق الوجودي الذي رافقه وأسقطه على معظم قصائده جعله فاقد الرغبة في كل شيء إلا بالكتابة لأنها عالم الراحة، »فألفارو دي كامبوس« في رحلاته استعمل أدوات الواقع والأشياء المطروحة في الوجود ليصنع منها قصائد قاسية في بعضها.
يكتب بيسوا في مكان آخر:
»أهو حنين إلى شيء ما،
أم ارتباك في المشاعر؟ تجاه أي وطن مبهم؟
أي ساحل؟ أي سفينة؟ أي رصيف؟
يمرض فينا التفكير
فلا يبقى سوى فراغ هائل في دخيلتنا،
مع قلق غامض كان سيكون حجرا أو ألما
لو عرف كيف يكونه..«

كلما تقدمنا بالقراءة اتضحت لنا صور العالم ومشاهد تظنها هادئة إنما هي في طبيعة عمقها تحوي الأنا الممزقة والذات المتشظية وسط تغيّر اتجاهات أمواج المحيط الحياتي لتظهر شخصية المهندس البحري »ألفارو دي كامبوس« الاسم المستعار لفرناندو بيسوا، ويأخذنا إلى عالم الشعر المستمد من مخيلة البحار.
لم يكتف بيسوا بكتابة مفردات تعبّر عن مفارقات عميقة بل عاش هذه المفارقة التي حتما كان لها الأثر الأكبر في اختياره عشرات الأسماء المستعارة للمغامرات التي عبرت عنها شخصيات دواوينه والتي كاد يتماهى معها حتى ولو كان في صدد إنكارها أحيانا كما حدث في ديوان ألفارو دي كامبوس الذي سبق أن تحدثنا عنه.
في كتابه اللاطمأنينة كتب بيسوا كل ما يشغل تفكيره وقد كان يتوجه إلى صديقه الشاعر »ويتمان« في كثير من الأحيان:
» ا، ا اة ا.. ا أنت، وأ أنا، وا أ ..
»بينى وبين الحياة بلور رقيق. ولست بقادر على مسها، بسبب رؤيتى وإدراكى الجليين جدا لها.
»حتى أنا الحالم دوما، تأتينى بعض اللحظات التى يهرب الحلم منى فيها؛ حينئذ تبدو الأشياء واضحة بالنسبة إلي، فينزاح ضباب ما يحيط بى. وكل النتوءات المرئية تجرح بحدة جلد روحي. كل القساوات المرئية تؤذى ما في داخلي من قساوات.
كل أعباء وضغوط الأشياء المرئية تثقل على من داخل الروح.
حياتى هى جَلَدي الدائم بحياتي نفسها«.
يعتبر كتاب اللاطمأنينة خير تجسيد للسرد التأملي وكأن الشاعر تأمل بالمسيرة الكتابية فبعد كل ما كتبه وجد نفسه في مكان خال وكأنه يفتقد للحظة حب تمنى أن يحياها أو عائلة لم تحطه في الأيام الباقية من حياته. يحدثنا الشاعر عن حياة فاقدة المعنى عن لحظات شعر فيها بأزمة ثقة بشخصيته وطبعه. كل ذلك استعاض عنه بمخيلة غنية تصنع الصور من دون الحاجة إلى الذاكرة المرئية أحيانا وهي المخيلة الحرّة وسط قيود الذات في داخله. كل هذه النزاعات والنوبات المؤلمة فاضت على أوراقه التي وجدت عنده وكانت مليئة بالكلمات مدرجة في صناديق غرفته.
يطول الحديث عن بيسوا لما راكمه من أعمال أدبية عظيمة أسست لحداثة الشعر. هذا الشاعر كتب من قلقه الوجوديّ ومن معاناة عابرة للزمان والمكان ليتابع مسيرة أسلافه بالبحث والكتابة.

العدد 101 –شباط 2020