هل يعاد إحياء “اتفاق بلازا” للسطيرة على “تأسُّد” العملة الأميركية؟
في كل الاجتماعات الدولية التي عُقدت في الآونة الأخيرة، وآخرها تلك السنوية التي عقدها صندوق النقد والبنك الدوليان في واشنطن في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كان الدولار “يتنقل” بين الحوارات حيث كان يتم تشريح الانعكاسات السلبية لقوة العملة الاميركية على مجمل الاقتصادات في العالم.
فالدولار الأميركي ليس مجرد عملة للولايات المتحدة، إنه أيضاً، من نواح كثيرة، عملة العالم. ما يقرب من نصف التجارة والتمويل العالميين يتم باستخدام الدولار. لذلك عندما يتخذ مجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي إجراءات تؤثر على قيمة الدولار، فإن لها تأثيرات غير مباشرة على البلدان في جميع أنحاء العالم.

في السبعينات، اقترضت العديد من البلدان في أميركا اللاتينية بكثافة بالدولار الأميركي. ثم، في الثمانينات، رفع الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية عالية، مما ساعد على تقوية الدولار، وصعّب بالتالي على هذه البلدان سداد ديونها. بلدان كثيرة وقعت في اضطراب مالي، مثل المكسيك وتشيلي والأرجنتين، وما تلاها كانت فترة من الاضطراب الاقتصادي والركود المعروف آنذاك بـ”العقد الضائع”.
اليوم، يعيد الاحتياطي الفدرالي المشهد نفسه. فهو يرفع أسعار الفائدة بهدف هزيمة التضخم الآخذ في الارتفاع بلا سقف. فالهمّ الأساسي للمصرف المركزي الأميركي هو الانتصار على التضخم. هي أولوية لا تتعداها أي أولوية أخرى بالنسبة إليه، بصرف النظر عن نتائج هذه المعركة على الاقتصاد.
إلاّ أنّ بلوغ هذا الهدف بعيد المنال، عزز الدولار وجعله قوياً، مرتفعاً لأعلى مستوى له منذ 20 عاماً. ولا مؤشرات تشير إلى أن قوته ستخفت في أي وقت قريب، فيما تبعات ارتفاعه تصيب البلدان المتقدمة والناشئة على حد سواء.
لقد دفعت سياسة التشدد النقدي المسترة إلى الجنوح نحو الاستثمارات الآمنة. إذ تسببت في خروج المستثمرين من مراكزهم الاستثمارية في أوروبا والأسواق الصاعدة وأماكن أخرى والبحث عن ملاذ آمن في أدوات استثمارية مقومة بالدولار، أي سوق سندات الخزانة الأميركية التي تعتبر أحد أكبر الأسواق وأكثرها سيولة في العالم، مع حماية قانونية قوية، حيث يثق المستثمرون في قدرتهم على الوصول إلى أموالهم في أي وقت.
عادة، يمكن للبلدان أن تحصل على بعض الفوائد من انخفاض عملاتها لأنها تجعل منتجاتها أرخص وأكثر قدرة على

المنافسة في الخارج. لكن في الوقت الحالي، فإن أي مكسب من ارتفاع الصادرات يكون ضعيفاً، لأن النمو الاقتصادي يتداعى في كل مكان تقريباً.
بصورة أكثر جلاءً، يسبب ارتفاع الدولار ألماً في الخارج بطرق عدة. فهو:
– يجعل واردات البلدان الأخرى أكثر تكلفة، مما يزيد من الضغوط التضخمية الحالية.
– يضغط على الشركات والمستهلكين والحكومات التي تقترض بالدولار، وذلك لأن هناك حاجة إلى مزيد من العملة المحلية للتحويل إلى دولارات عند سداد مدفوعات القروض.
– يجبر المصارف المركزية في البلدان الأخرى على رفع أسعار الفائدة لمحاولة دعم عملاتها ومنع الأموال من الهروب من حدودها. لكن هذه المعدلات المرتفعة تضعف في المقابل النمو الاقتصادي وتزيد من البطالة.
ببساطة، “يعتبر ارتفاع قيمة الدولار خبراً سيئاً للاقتصاد العالمي”، كما تقول “كابيتال إيكونوميكس”. وتضيف “هذا سبب آخر لتوقعنا أن يسقط الاقتصاد العالمي في حالة ركود العام المقبل”.
لقد نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأميركية مقالاً لعالِم الاقتصاد الأميركي باري إيتشنغرين الذي حذر من مخاطر الدولار القوي. قال الكاتب إن ارتفاع الدولار يؤدي إلى تفاقم مشكلات عشرات البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل حول مدى قدرتها على تحمل الديون، خصوصا أن الكثير من ديون الشركات في هذه البلدان مقوّمة بالدولار وهي لصالح مستثمرين أجانب. والحل بالنسبة لعاٍلم الاقتصاد، يمكن أن يكون من خلال اعتماد المصارف المركزية سياسة تنويع احتياطياتها ومعاملاتها بعيداً عن مخاطر الدولار القوي والتوجه نحو عملات منطقة اليورو والصين والاقتصادات الأصغر، وذلك يجعل البلدان ذات المخاطر العالية أقل عرضة لقرارات مصرف مركزي واحد.
صندوق النقد الدولي.. والديون
تقر رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا بأن ما يعانيه الاقتصاد العالمي اليوم “صعب على الجميع، لكنه أكثر قسوة بالنسبة للبلدان التي تعاني الآن جرّاء ارتفاع الدولار، وارتفاع تكاليف الاقتراض، وتدفقات رأس المال الخارجة”.
هي ضربة ثلاثية ثقيلة على البلدان التي تعاني من مستوى مرتفع من الديون، وتنذر بتفجر أزمة ديون عالمية.
وتظهر بيانات معهد التمويل الدولي أن حجم الدين العالمي يبلغ 300 تريليون دولار، وأن الأسواق الناشئة ستكون ملزمة بسداد ما يصل إلى 100 مليار دولار من الديون المقوّمة بالدولار حتى نهاية العام.
وفي ورقة أعدها كل من النائبة الأولى للمدير العام لصندوق النقد الدولي غيتا غوبيناث وبيار أوليفييه غورنشاس، يقول الصندوق إن قوة الدولار باتت تمثل الكثير من نقاط الضعف في العالم. فالدولار هو العملة الفعلية للتجارة العالمية، وارتفاعه الحاد يؤدي إلى الضغط على عشرات الدول ذات الدخل المنخفض وتلك النامية، خصوصاً تلك التي تعتمد بشكل كبير على واردات الغذاء والنفط وتقترض بالدولار لتمويلها.
كما أن الدولار القوي يجبر الدول على استخدام المزيد من عملتها لشراء الكمية نفسها من السلع. ويعني هذا السعر المرتفع أنهم يستوردون، عن غير قصد، المزيد من التضخم إلى جانب استيرادهم الحبوب والوقود. ولأنهم يقترضون بالدولار، عليهم أن يدفعوا فائدة بالدولار، مما يزيد من ضائقهم المالية.
وبحسب الورقة، إن “هذا الارتفاع الحاد في قيمة الدولار في غضون أشهر له تداعيات كبيرة على الاقتصاد الكلي لجميع البلدان تقريباً، نظراً إلى هيمنة الدولار على التجارة والتمويل الدوليين… في حين أن حصة الولايات المتحدة في صادرات البضائع العالمية انخفضت من 12 في المئة إلى 8 في المئة منذ عام 2000، فقد احتفظت حصة الدولار في الصادرات العالمية بحوالي 40 في المئة. بالنسبة للعديد من البلدان التي تكافح لخفض التضخم، فإن ضعف عملاتها مقارنة بالدولار جعل المعركة أكثر صعوبة”.
ما الذي يمكن أن تفعله الدول لمواجهة ارتفاع الدولار؟
لقد دخلت العديد من البلدان، بما في ذلك اليابان، أخيراً في أسواق الصرف الأجنبي للدفاع عن العملات ضد ارتفاع الدولار، عن طريق بيع الأصول الدولارية. ونتيجة لجهود التدخل هذه، انخفضت الاحتياطيات الأجنبية التي تحتفظ بها الاقتصادات الناشئة بأكثر من 6 في المئة في النصف الأول من عام 2022.
صحيح أن هذه الجهود أحادية الجانب أدت بشكل مؤقت إلى تباطؤ انخفاض قيمة العملة، لكنها لم تعكس الارتفاع الصعودي للدولار.
والسؤال هو: هل تقوم الدول بالتنسيق للتدخل من أجل استقرار أسواق العملات؟ هناك سابقة تاريخية لجهود منسّقة على هذا الصعيد لوقف صعود الدولار. ففي عام 1985، وافقت الولايات المتحدة واليابان وألمانيا الغربية وفرنسا والمملكة المتحدة على التدخل المشترك في أسواق العملات في ما أصبح يعرف بـ”اتفاق بلازا” (في إشارة إلى توقيع الاتفاق في فندق بلازا أكورد في نيويورك)، وذلك على خلفية تفاقم معدلات التضخم، وجهود زيادة أسعار الفائدة من جانب الاحتياطي الفدرالي وصعود سعر صرف الدولار. وشرعت الدول في بيع الدولار مقابل عملات أخرى في سوق الصرف الأجنبي، ما أدى إلى خفض قيمة الدولار.
يُشبه المشهد الحالي كثيراً ما حصل في “بلازا”. لكن، خلافاً لما هو عليه اليوم، كان هناك إجماع واسع النطاق على أن قيمة الدولار في عام 1985 تجاوزت بما يتفق مع الأساسيات المعروفة. وهذا الإجماع لم يتأمن بعد، علماً أن “بلازا” تطلّب سنوات من الدبلوماسية للتوصل إليه. وبالتالي، من غير الواضح أن “اتفاق بلازا جديدة” سيكون متوقعاً في أي وقت قريب.
لكن، ربما تتبدل هذه الصورة في حالة ركود الاقتصاد الأميركي ليؤدي حينها استمرار قوة الدولار عن تعثر كل شيء، من التوظيف إلى التجارة.