متى تبدأ التسوية الكبرى حول لبنان وهل تكون بتعديل وتوضيح الدستور؟

الحصاد- بيروت

انتهى عهد رئيس الجمهورية ميشال عون نهاية الشهر الماضي ليدخل لبنان عهد الفراع الرئاسي والحكومي فترة غيرمحددة، مع ما يمكن ان يحمله هذا الفراغ من تزايد الازمات السياسية، برغم تحقيق “إنجاز” ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بين لبنان والكيان الاسرائيلي، مافتح الباب امام عودة البحث في تصحيح الحدود البحرية شمالاً بين لبنان من جهة و سوريا وقبرص من جهة ثانية.

  خرج عون رئيساً للجمهورية ليعود من منطقة الرابية في المتن رئيساً فخريا للتيار الوطني الحر وقد تحرر من

فشل الحوار الداخلي يستدعي الخارج

تبعات مسؤوليات الرئاسة وبروتوكولاتها وقوانينها وضوابطها وقيودها، وليقود من جديد كما قال “مسيرة الاصلاح والتغيير ومكافحة الفساد”. وهو ابلغ قبل مغادرته القصر الجمهوري بيوم واحد وفداً اعلامياً من خمسة صحافيين كان من ضمنه مندوب “الحصاد” انه: “طالما يعطيني ربي الصحة والعمر، لن أتوقف عن نضالي لتحقيق ما ناديت به طيلة حياتي السياسية. أنا مكمّل من الرابية”.

  اذاً، ما بعد رئاسة الجمهورية غير ما قبلها، وبعد “استراحة المحارب” فترة بسيطة، سيعود عون الزعيم السياسي المعارض “لمنظومة الحكم الفاسد” والمشاكس في كل مفاصل العمل السياسي، متكلاً على جمهور عريض اغلبه مسيحي، لكنه يضم “تلوينة” وازنة من طوائف اخرى، عدا إتكاله على كتلة نيابية وزانة وحضورفي مجلس الوزراء.

 ما ميّز عهد عون ان معارضته لم تقتصر على بعض الاحزاب التقليدية وبعض النواب المستقلين و”التغييريين”. بل كان هناك معارضون لعون ممن هم ضمن فريق “الممانعة”  الذي يُحسب عليه الرئيس السابق، كالرئيس نبيه بري وسليمان فرنجية وبعض الحلفاء الاخرين، فضاعت مواصفات المعارضة في من تعارض، والموالاة في من توالي، بينما فكرة المستقلين فعلياً ضاعت ما بين الطرفين. فالموالاة هنا معارضة هناك والمعارضة هنا موالاة هناك. لذلك لا انتظام في الحياة السياسية اللبنانية بل مواقف “غبّ الطلب السياسي” والظرف الموضوعي.  لذلك فشلت كل الاطراف في إنقاذ لبنان واهله مما يتخبط فيه، او هي لا ترغب بل من مصلحتها ابقاء الوضع على ما هو عليه من توتر سياسي، لتتمكن من الاستمرار في الإمساك بالوضع الداخلي بالتكافل والتضامن.

  وحدهم نواب التغيير لم يتقنوا بعد اللعبة السياسية اللبنانية لأنهم لم يفهموها او تمردوا عليها فعجزوا عن المواجهة بسبب تكتل المتعارضين موالاة ومعارضة تقليدية ضدهم لأنهم عارضوا الاداء التوافقي المجلسي المفهوم لكن غير المبرر. وبسبب انقسامهم مجموعات شتى، فخرج منهم النائبان وضاح الصادق وابراهيم منيمنة.

ابواب مفتوحة على كل الاحتمالات

  هو لبنان المفتوحة ابوابه على كل الاحتمالات: عدم انتظام الحياة السياسية والدستورية. الخلافات والتفاهمات والمعارضات، وما بين بين.

فبعد خروج الرئيس عون من الرئاسة ودخول لبنان مرحلة الشغور الرئاسي، ومع وجود حكومة تصريف اعمال لا يعترف بشرعيتها الرئيس عون و”تيارة البرتقالي”، أُلقِي الحمل على مجلس النواب لمواجهة التطورات المستجدة. فبين توجيه عون قبل نهاية ولايته بيوم واحد رسالة الى المجلس النيابي يدعو فيها الى إسقاط تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة، ورسالة ميقاتي ايضاً الى المجلس التي لا يعترف فيها بموقف عون ويؤكد استمرار الحكومة في تصريف الاعمال، وقع الاشتباك السياسي والدستوري، برغم كل التحذيرات من مخاطرهذا الاشتباك الذي فاقم تعقيدات الوضع السياسي الداخلي، وزاد إرباك الدول المعنية بالوضع اللبناني التي طالما نادت بسرعة تشكيل حكومة كاملة المواصفات الدستورية وتحوزثقة المجلس النيابي، وانتخاب رئيس للجمهورية… لكن عبثاً. ما اثار مخاوف من ان تنفض هذه الدول يدها من لبنان في هذه الفترة، بخاصة بعد توقيع تفاهم ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان

هل يكون اقتراح العسيري مدخلاً للتسوية؟

الاسرائيلي، وهو الامر الذي كان اولوية في سياسة الولايات المتحدة الاميركية خلال الاشهر الستة الماضية، لتوفير الغاز والنفط لأوروبا من حقول شرقي البحر المتوسط كبديل عن الغازالروسي الذي توقف نتيجة الحرب الروسية – الاوكرانية.

فشل دعوات الحوار

  واحدة من القضايا الاساسية التي تفاعل معها الرأي العام اللبناني كانت دعوة رئيس المجلس النيابي نبيه بري الكتل النيابية الى الحوار للتوافق على انتخاب رئيس للجمهورية والتي انقسم حولها موقف الكتل بين مؤيد ومعارض، فأعلن بري ” انه بعد إستمزاج الآراء حول الدعوة للحوار بين الكتل النيابية للوصول لرئيس توافقي، يعتذر الرئيس بري عن السير قدماً بهذا التوجه نتيجة الإعتراض والتحفظ لاسيما من كتلتي “القوات اللبنانية و”التيارالوطني الحر”.

 يُذكر ان حزب الكتائب اعترض ايضا على دعوة بري للحوار، واعتبران الاولوية حسب الدستور هي انتخاب رئيس للجمهورية ولا يحق للمجلس النيابي الانشغال بأي امرآخر.

   وقبل دعوة برّي، فشلت السفارة السويسرية في بيروت بإتمام دعوة العشاء التي دُعي اليه بعض ممثلي القوى السياسية والشخصيات الأساسية في لبنان كتمهيد لجلسة الحوار التي كان من المقرّر عقدها في جُنيف في شهر تشرين الثاني – نوفمبر الماضي، للتباحث حول مختلف الملفات والحلول المتوقّعة للأزمة اللبنانية. لكن فشل هذا الحراك أثار بلبلة في الأوساط السياسية وطرح العديد من الاستفهامات حوله.

  وثمة مؤشرات تدلّ على أن الاشتباك  السياسي اللبناني سينتقل من مرحلة الاشتباك المرحلي حول العناوين اليومية الاجرائية، الى مرحلة الاشتباك الاخطر حول قضايا استراتيجية ووطنية، ومنها بشكل خاص كيفية تطوير النظام وتصحيحه وسد الثغرات القائمة في دستور الطائف، وسط انقسام حاد بين راغب في توضيح وتعديل بعض مواد دستور الطائف بعد الخلافات حول مواضيع صلاحيات رئيسي الجمهورية والحكومة والمهل الدستورية لتشكيل الحكومات وكيفية مراعاة التوازنات السياسية والطائفية، وبين رافض بشدة المس بالدستور تحت اي ظرف اوسبب.

 مفاجأة سعودية: تعديل أو توضيح الدستور!

  وبعد كل التطورات التي حصلت قبيل وبعد نهاية عهد الرئيس عون، والتي اظهرت عقم النظام السياسي وكثير من الثغرات في دستور الطائف، كشف سفير المملكة العربيّة السعوديّة السابق لدى لبنان الدكتور علي بن عواض عسيري (2009 ـ 2016) عن فكرة لعقد مؤتمر تستضيفه الرياض “لتعديل بنود في الطائف أو توضيحها”.

  قدّم عسيري العرض في مقال حمل توقيعه، ونشرته صحيفة “الشرق الأوسط” صبيحة 31 تشرين الأول- اكتوبر المنصرم، اليوم الأخير من ولاية الرئيس ميشال عون. وتحدث في مقاله عن “لقاء تشاوري، يقتصر على الرؤساء الثلاثة (الجمهوريّة، والبرلمان، والحكومة)، ومعهم الرؤساء السابقين، ورؤساء المؤسسات الأمنيّة، ورؤساء الطوائف، ونخبة من المرجعيات القانونية، والدستوريّة. موضحاً انه “لقاء تشاوري يحسم أمر الاجتهادات غير المنزّهة عن الغرض، ويُؤخذ بما قد ينتهي إليه التشاور لجهة تعديل في بنود الطائف، أو توضيحها، أو حتى التوصية بإصدار (إضافة) مادة أو أكثر لم يلحظها في حينه إتفاق الطائف”. وقال: بذلك لا يعود الحديث حول ما يتصل باتفاق الطائف يتجدد، ولا يعود لبنان على هذه الفرادة في التخبط كل ست سنوات عند مَن يترأس الجمهورية ثم تباعاً مَن يترأس الحكومة فضلاً عمَن يترأس البرلمان.

وفي تقدير المتابعين، فإن اقتراح العسيري لم يأتِ من فراغ او من من دون موافقة ولو ضمنية من اولي الامر السياسي واصحاب القرارفي المملكة. وتتحدث مصادر دبلوماسيّة بارزة في بيروت عن “أن شيئاً يُحضّر للبنان، وإن ما أشار إليه عسيري في مقاله، قد يكون خلاصة تشاور، وتخطيط، ما بين السعوديّة من جهة، والدول المعنيّة بوضع لبنان، من الولايات المتحدة، الى الإتحاد الأوروبي، وفرنسا، والفاتيكان، والأمم المتحدة، وجامعة الدول العربيّة، وعواصم أخرى صاحبة نفوذ وتأثيرفي الوضع اللبناني، والدليل أن ما عبّر عنه السفير السابق جاء متزامنا مع بيانات ثلاثة: الأول صادر عن جامعة الدول العربيّة. والثاني عن المفوضيّة العليا للإتحاد الأوروبي. والثالث عن وزارة الخارجيّة الفرنسيّة. وكلّها تحثّ على إنتخاب رئيس للجمهوريّة اليوم قبل الغد!

لكن موعد مثل هذا اللقاء الذي دعا اليه العسيري لم يُحدد لمزيد من المشاورات بين الدول المعنية، ومع القوى السياسية اللبنانية الاساسية. وترددت معلومات عن إحتمال إيفاد شخصيّة سعوديّة رسميّة إلى بيروت لتوجيه الدعوات ومقابلة أصحابها، أو تكليف السفير السعودي الحالي وليد البخاري الإضطلاع بهذه المهمّة.

 لكن ماطرحه عسيري يتناقض مع ما كان يتحدث عنه السفير وليد البخاري من التمسك باتفاق الطائف ودستوره وعدم المس به، وهو نظّم “إحتفالية” سياسية كبيرة في بيروت الشهر الماضي لمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين لعقد مؤتمر الطائف، كدليل على رغبة ما لعدم المس به. ولكن حصل التحضير لهذه “الاحتفالية” قبل ما اعلنه السفير عسيري.

مقدمات تسوية كبرى

  ويبدو أنّ ثمّة مقدّمات لتسوية كبرى ستحصل في لبنان عاجلاً أم آجلاً، ولو على المدى المتوسّط، بدأت تظهر بشكل أو بآخر. إذ إن القوى الداخلية والاقليمية والدولية المعنية بالملف اللبناني تعمل على وضع آلية لتخريج التسوية الى العلن وكيفية حسم التوازنات التي ستحكم البلاد خلال السنوات المقبلة، وقد تكون اولى إرهاصات هذه التسوية انتخاب رئيس “توافقي” للجمهورية، ومن ثم إجراء الحوار حول تعديل آليات الحكم والنظام السياسي في لبنان، بما يؤمّن الاستقرار السياسي والدستوري المستدام، لمنع تكرار تجارب السنوات الماضية من وقوع البلاد في الشغور الرئاسي والحكومي مرات عديدة.

  من هُنا فإن الأميركيين يعملون بشكل واضح على فهم طبيعة التغيرات التي طرأت على لبنان في المرحلة الماضية، لا سيما بعد الانتخابات النيابية الاخيرة التي انتجت واقعاً نيابياً جديداً بتوازنات جديدة، وكيفية ادارتها وفق الطريقة الأنسب التي تنقل لبنان من أزمته الحالية الى مرحلة نسبية من الاستقرار الاقتصادي والسياسي والأمني. ذلك إن استقرار لبنان هو من استقرار المنطقة، بحسب النظرة الاميركية، ما يجعل الهدوء اولوية في هذه المرحلة، مع الحاجة الملحة للغازوالنفط من شرقي البحر المتوسط لتدفئة اوروبا من الصقيع الآتي نتيجة انقطاع الواردات الروسية.