وقفة مع ميثولوجيا شعر الجنّ

 الجنّ خلق كما الأنس يعيشون بين أظهرنا، إلا أنهم يروننا ولا نراهم، كما يقول القرآن الكريم (انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم). وهم خلق قادرون على التشكل بأشكال مختلفة، كما أن لهم عقولا وقدرة على الاختيار، وهم مثلنا مكلّفون ويخضعون لامتحانات الدنيا كما يتعرضون للحساب في الآخرة.

وقد داب القرآن على مخاطبتهم بالمقارنة مع الإنس في كثيرمن المواضع أشهرها لفظ (الثقلان) وعني الإنس والجنّ.

والجنّي في اللغة مفرد من الجنّ مؤنثه جنيّة، وقد سمّوا بذلك لاستتارهم عن الناس. وهم مخلوقون من النار أو من مارج من نار كما جاء في القرآن. وورد في اللغة أيضا ان الجنّ من كل شيء أوله ونشاطه وشدته؛ فجن الشباب عنفوانه، وجنّ النبات زهره ونوره، وجنّ الليل جنانه، وجنّ الناس جنانهم.

ومن كان من الجنّ كافرا سمّي شيطانا، وإن لم يكن كذلك سمّي جنيّا. كما أنهم أقوام وقبائل، وقد أطلق العرب قديما على قبائلهم تسميات عديدة رغم أنهم لم يروا منهم أحدا قط.

ومن التسميات التي أطلقت على قبائل الجنّ (الحن)؛ وهي قبيلة دون الجنّ في الرتبة، وفق ما يقول الأصمعي، و(بنو أقيش) و (بنو الشيصبان). وقد جاء في شعر حسان بن ثابت قوله:

ولي صاحب من الشيصبان

فطورا أقول وطورا هوه

و(بنومالك)، وقد زعم أنهم خير قبائل الجنّ وأفضلهم، وكذلك (بنوهمام) و(هرش). غير أن هذه التسميات لا سبيل الى التأكد منها أبدا كون أحد من الناس لم ير جنيّا من قبل. كما أن هذه الاسماء الواردة هي في الأصل للإنس. ومن الغرابة ان البعض سمّى أبناء إبليس بـ(لاقيس) و(الهفاف) و(مرّة) و(ولهان)، كما سمّوا أمهم (طرطبّة). ومن المضحك المبكي ما نقل في كتب التراث زعمهم أن الجنّ تركب ظهور الثيران إذا وردت البقر الماء فلم تشرب لأن الجنّ تصدّها عن الشرب، فكانوا يضربون الثيران لتشرب البقر الماء، حسبما أورد الأصفهاني في (سوائر الأمثال).

وكان العرب قديما أيضا يعتقدون أن من لطّخ نفسه بالقذارة امتنع عنه الجنّ والحن. بل لقد أورد الجاحظ في (الحيوان) أنهم زعموا ان عمرو بن يربوع متوّلد من سعلاة وإنسان أو هو الذي تزوّج السعلاة؛ والسعلاة أخبث الغيلان؛ والغيلان مفردها غول، نوع من الجنّ يعترضون المسافرين في الفلوات، وإنمّا سمّوا بالغيلان نسبة الى التغوّل أي التلوّن ليضل المسافرون طريقهم.

ومن أجل أن نكون منصفين لم يكن العرب قديما كلهم يعتقدون بهذه الأساطير والخرافات، فنجد أن هناك من يكذبّها وينفيها. يقول أحد الشعراء في ذلك:

الغول والخل والعنقاء ثالثة

أسماء أشياء لم توجد ولم تكن

ومن بديه القول أن ذكر الجنّ ارتبط دائما بالخوف والرعب والفزع بسبب ما نسج عنهم من خرافات وحكايات تصف هيئاتهم وأشكالهم المرعبة وألوانهم، وكتب الأدب مليئة بذكر الجنّ ومصاحبتهم للإنس وخاصة الشعراء؛ فقد نقلت مصاحبة بعض الشعراء للجنّ والغيلان وسماعهم أصواتهم وحسيسهم. بل قد جاء في بعض الكتب ودواوين الشعراء زعمهم أنهم صاحبوهم وأكلوا معهم؛ من ذلك قول أحدهم:

أتـوا نـاري فـقـلت: منون أنتم

فقالوا: الجنّ قلت: عموا صباحا

نــزلت بــشــعــب وادي الجنّ لمـا

رأيـت الليـل قـد نـشر الجنّاحا

أتـــيـــتــهــم وللأقــدار حــتــمٌ

تـلاقـي المـرء صـبحاً أو رواحا

أتــيـتـهـم غـريـبـاً مـسـتـضـيـفـاً

رأوا قـتـلي إذا فـعـلوا جناحا

أتـونـي سـافـريـن فـقـلت أهلاً

رأيــت وجـوهـهـم وسـمـاً صـبـاحـا

نــحـرت لهـم وقـلت ألا هـلمـوا

كـلوا مـمـا طـهـيـت لكم سماحا

أتــانــي قــاشــرٌ وبــنــو أبـيـه

وقــد جـن الدجـى والليـل لاحـا

فـنـازعـنـي الزجـاجـة بـعـد وهن

مـزجـت لهـم بـهـا عـسـلاً وراحـا

وحــذرنــي أمــوراً ســوف تــأتــي

أهــزّ لهـا الصـوارم والرمـاحـا

ســأمــضــي للذي قــالوا بــعــزمٍ

ولا أبـــغـــي لذلكـــم قـــداحــا

ومن الجدير بالذكر ان بعض العلماء اهتمّ وعني بتصنيف كتب عن الجنّ وأخبارهم وحتى أشعارهم كما فعل ابن أبي الدنيا ولقيط المحاربي والمرزباني والسيوطي والجاحظ وغيرهم كثيرون. غير أننا نؤكد أن ما ورد من شعر الجنّ لم يكن كثيرا ولا يشكل قدرا يعتدّ به وأن أطول ما نسب  الى الجنّ من أشعار ثلاث قصائد إحداها:

رأوا غلاما بالأمس عندهم

 أزرى لديهم جهلا به الصغر

لم يفقدوه لا در درهم

لو علموا العلم فيه لأفتخروا

حتى إذا أدركته روعته

بين ثلاث وقلبه حذر

جاءت إليه الكبرى بأسقية

شتى وفي بعضها دم كدر

فقال هاتي إليَّ أشربه

قالت له ذر فقال لا أذر

فناولته فما تورع عن

أقصاه حتى أماده السكر

فنهنهته الوسطى فنازلها

كأنه الليث هاجه الذعر

قالت له هذه مراكبنا

فاركب فشر المراكب الحمر

 وقصيدة أخرى تقول:

حمدت من حطِّ أوزاري ومزَّقها

عنَّي فأصبح ذنبي اليوم مغفوراً

وكنت آلف من أتراب قرطبة

خوداً وبالصِّين أخرى بنت يغبورا

أزور تلك وهذي غير مكترث

في ليلةٍ قبل أن أستوضح النُّورا

والثالثة وهي الأطول حيث بلغت ستة وستين بيتا، جاء فيها:

بلقيس أودت ومضى ملكها

عنها فما في الأذن من هلبسيس

وأسرة المنذر حاروا عن الحـ

 يرة كلٌّ في ترابٍ رميس

إنَا لمسنا بعدكم فاعلموا

برقع فاهتاجت بشرٍّ بئيس

ترمي الشّياطين بنيرانها

حتى ترى مثل الرَّماد الدَّريس

والقصيدتان صنعهما أبو العلاء المعرّي وجعلهما على لسان الخيتعور أبي هدرس أحد الشياطين الذين سكنوا الأرض قبل آدم كما زعم.

ومما أخذ على الشعر المنسوب الى الجنّ أنه أحيانا يكون موزونا وأحيانا مسجوعا أو منثورا. ومن أمثلة ذلك:

ألم تر الجنّ وأبلاسها

ويأسها من بعد إنكاسها

ولحقوها بالقلاص وأحلاسها

حيث ان الشطر الثالث واضح فيه أنه غير موزون.

ومما ورد أيضا:

عجبت للجنّ وتجساسها

وشدها العيس بأحلاسها

تهوي الى مكة تبغي الهدى

ما خير الجنّ كأنجاسها

ومنه ما ورد نثرا، كقولهم ان رجلا سمع من جوف بقرة كان يسوقها (يا آل ذريح قول فصيح، رجل نصيح، ان لا اله الا الله).

ومن الشعراء المعروفين الذين نسبوا شعرا الى الجنّ عبيد بن الأبرص، قال:

الخير أبقى وإن كان الزمان به

والشر أخبث ما أوعيت من زاد

وقد أورد البيهقي في (دلائل النبوّة) شعرا منسوبا الى الجنّ جاء فيه:

الحمد لله لم يخلق الخلق عبث

لم يخلنا حينا سدى من بعد عيسى واكترث

أرسل فينا أحمدا خير نبيّ قد بعث

صلّى عليه الله ما حجّ له ركن وحث

ومنه كذلك:

يا أيها الراقد في الليل الأحم

قد بعث الله نبيّا في الحرم

من هاشم أهل الوفاء والكرم

يجلو دجنّات الليالي والبهم

لكن كل الذي زعم من أشعار الجنّ وأقوالهم ونثرهم وسجعهم ضعيف أو مكذوب أو موضوع.

ومما ورد عنهم أيضا زعمهم أن الجنّ سمعت هاتفة شعرا زمن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه، جاء فيه:

جزى الله رب الناس خير جزائه

رفيقين حلّا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبرّ ثمّ ترحّلا

فأفلح من أمسى رفيق محمد

وزعموا ان رجلا أفتكّ جارية أسرها جنّي فتبعه الجنّي وهو يقول:

يا ذا الذي للحين يدعوه القدر

خلّ عن الحسناء رسلا ثمّ سر

وإن تكن ذا خبرة فينا اصطبر

ومن أشهر ما ورد عنهم في الإنشاد والإجابة قصة رجل قذف به البحر وحيدا الى جزيرة، فتمثل بالقول:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

فأجابه هاتف:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

ومن أجمل القصص في ذلك ما رواه التنوخي في (الفرج بعد الشدّة) عن العتبي، قوله: ركبت ذات يوم في البادية وأنا بحالة من الغم فألقي في روعي بيت من الشعر:

أرى الموت لمن أصبح

مغموما له أروح

فلمّا جنّ الليل سمعت هاتفا يهتف، من الهواء

ألا يا أيّها المرء   الذي الهمّ به برّح

وقد أنشد بيتا لم    يزل في فكره يسنح

إذا اشتدّ بك العسر ففكّر في ألم نشرح

فعسر بين يسرين  إذا فكّرتها فافرح

قال: فحفظت الأبيات وفرّج الله غمّي.

ويروى أيضا أن ضعفة القصّاصين زعم أن الجنّ ناحت على أبي حنيفة بعد موته تقول:

ذهب الفقه فلا فقه لكم

فاتقوا الله وكونوا خلفا

مات نعمان فمن هذا الذي

يُحيَى الليل إذا ما سجفا

بل زعموا أنهم ناحوا على الحسين بن علي رضي الله عنهما وأرضاهما،

منه:

ألا يا عين فاحتفلي بجهد

ومن يبكي على الشهداء بعدي

على رهط تقودهم المنايا

الى متجبّر في الملك عبد

ونحن إذ نذكر هذه الأشعار المنسوبة الى الجنّ لا بد أن نبيّن أن الشعر في حقيقته قد اقترن منذ أن بدأ بالسحر والكهانة والمغيبات. ولأن الشعر كان ولا زال مؤثرا في النفوس كونه يثير العاطفة ويشحذ الهمم نسبه البعض الى الجنّ، ليعلوا تأثيره. بل لا ينفى أن يكون وراء هذه النسبة مصلحة ما. ولم لا يقبله الناس وأن (أعذب الشعر أكذبه) كما يقال.