الشنفرى، الصعلوك الذي ألف القِفار

لا يمكن أن نتجاوز في هذه السلسلة الحديث عن طائفة من الشعراء الذين كان لهم ثقلهم الخاص في ديوان الشعر العربي، هؤلاء كانوا فئة منبوذة في مجتمع القبائل، شقوا طريقًا بعيدًا عن النظام السائد وتمردوا على العادات والتقاليد الاجتماعية، منهم من نفتهم أقوامهم لكثرة انحلالهم ومنهم من نشل نفسه من قبيلته وأهله وهام في القفار متخذين من الجبال حصونًا.

الصعاليك منهج فكر وأسلوب فرار

الصعاليك طائفة من الفقراء المتمردين تتصف بالحماسة والشجاعة والفخر، اتبعوا منهج  الغزو للغنيمة وللثأر لأنفسهم ولمثليهم من الفقراء والمنبوذين، بنى هؤلاء القلاع وكانوا يخرجون أسرابًا يغزون ويعودون فرارًا، منهم عدائين مهرة يُضرب بهم المثال في العدو، كثيرو الجلد والتحمل.

ثاروا على نظام القبيلة بما فيها من تمييز وعنصريّة وظلم في توزيع الثروات والنفوذ، وقد أجمعت المصادر على ثلاثة تصنيفات لهم: الأغربة أي الذين يكونون من أمهات حبشيّات مثل السّليك بن السُّلكة هؤلاء ثاروا على العنصرية والتمييز الذي لقوه وعلى حالة النكران التي تطال وجودهم. الخلعاء الذين تخلعهم قبائلهم نفورا من سلوكيات منحرفة أو انحلال

الشنفري الأزدي

خُلقي وتجاوزهم أعراف القبيلة، أما التصنيف الثالث فهم المحترفون الذين احترفوا الصعلكة وحولوها إلى موقف وحالة فكرية مقرونة بالوعي الاجتماعي وطريقة في الاحتجاج، منهم “عروة بن الورد” الذي كان يوزع مغانمه على الفقراء والمعوزين.

ووضعوا معايير للتفاضل قوامها العمل والفعل كما يقول الشاعر: ” ما بالثراء يسود كل مسود    … ولكن بالفعال يسود”، وكان الصعاليك يدعمون بعضهم البعض، ويعطفون على الصعاليك العجزة منهم:

  “فإذا غنيت فأن جاري نيله     من نائلي وميسري معهود”

صوّر أدب الصعاليك واقعهم، انعكس أسلوب حياتهم على تركيب قصائدهم التي غلب عليها المقطوعات لنمط حياتهم الذي لا يحتمل التباطوء والوقوف على الطلل ووصف الراحلة والتعريج على الصحب .

خالفت قصائدهم مطالع الشعر الجاهلي المعروفة، مثل شعرهم الوحدة الموضوعية  التي تدور حول المغامرات الغزوات الفقر والصبر، عكسوا قلقهم وتصوراتهم، لم يلجأوا للمحسنات البديعية والصور الخيالية كثيرا وذلك لطبيعة عيشهم ولافتقارهم  لم يكن لديهم رفاهية الاستقرار فعاشوا على قلقهم مهددون بالقتل، كانت تضرب بهم الأمثلة في الشدّة والسرعة، فيقال: أعدى ذي الرجلين وذي ساقين وذي عينين لما فيهم من خفّة وسرعة، ومن هؤلاء الشنفرى.

الشنفرى الثائر المتفرّد

الشَّنفَرَى هو ثابت بن أوس الأزديُّ. وأصله من الأزد من بني سلامان بن مفرّجٍ،  قيل أن الشنفرى لقبه ومنهم من قال أنه اسمه، ويعني الغليظ الشفتين، كان والدايه يتعرضان للمضايقات في قبيلة بني سلامان، حتى قتلت القبيلة والده أوس وهو لا يزال رضيعًا، فأقسمت أمّه  التي كانت من قبيلة بني فهم أن تنتقم لقتلة زوجها، أخذته إلى قبيلتها التي خذلتها ولم تلبي دعوتها لاسترداد حقها.

ألقمت ولدها الكره والحقد اتجاه قتلة والده، إلا أن بني سلامان عادوا لاسترداده وكانت النية قتله خوفًا من أن يكبر وينتقم، ولكن تدخل أحد كبار القبيلة واقترح أن يتبناه لنفسه ولخدمته، وهكذا حرمت منه أمّه، وعاش لا يعرف والدايه الحقيقين يرعى الماشية في الجبال والأودية، حتى جاء يوم، وكان له أخت غير حقيقية توفيه بالزاد وهو في المرعى، فوسوس لها أحد رجال بني سلامان عن أصله، فداخل نفسها الكِبر عليه ولطمت الشنفرى على وجهه عندما طلب منها أن تغسل له شعره، وعيّرته بأصله:

“ألا ليت شعري والتلهف ضلة              بما ضربت كفّ الفتاة هجينها

ولو علمت قعسوس أنساب والدي          ووالدها ظلت تقاصر دونها

أنا ابن خيار الحجر بيتا ومنصبا          وأمي ابنة الأحرار لو تعلمينها”

ومن هنا راح يبحث عن الحقيقة التي أٌخبر بها على مضض، وطلب الزواج من ابنة الرجل والتي كان يشعر اتجاهها مشاعرا تتصارع مع مشاعر الأخوة حتى حسمت الحقيقة قراره، قبِل الرجل تزويجه ابنته التي كانت رافضة وكارهة له،  وظلّ طوال حياته يحاول إرضائها ويغزو القبائل لكي يوفي حاجاتها، تصعلك وقد أقسم أن يقتل من بني سلامان مئة شخص انتقامًا لأبيه وللرجل الذي تبناه وقد قتله قومه لموافقته على مصاهرة الشنفرى، وينقل له قول قاله للرجل الذي تبناه بعدما عرف الحقيقة،  ” سأقتل منكم مئة بما استعبدتموني” ويقصد بني سلامان. كان يغير على بني سلامان وبني غامد وبني الحارث.

 كان من أشهر عدائي العرب، تعرف إلى خاله تأبط شرًا، وكانا رفيقي الصعلكة.

 اشتهر بقصيدته اللامية وقد سميت بلامية العرب لاحتوائها على الكثير من الحكمة وأخلاق العرب، ويعلن في مطلعها:

” أَقِيمُوا بَنِي أُمِّي صُدُورَ مَطِيِّكُم            فإني إلى قومِ سِوَاكُــــــــــــــم لَأَمْيَلُ

  فَقد حُمِّت الحَاجاتُ وَاللَّيلُ مقمرٌ          وشُدَّت لِطيّاتٍ مَطَـــــــــايَا وَأَرْجُلُ

 وفي الأَرض مَنْأَى لِلكريم عَنِ الأذى       وَفِيهَا لِمَنْ خَافَ القِلَى مُتَعَزِّلُ”

  في البداية يتوجه بالكلام إلى بني أمّه والمقصود الصّلة لجهة الأم مما يعني أنه كان يُقيم بينهم بعدما عرف حقيقة نسبه، ويعلمهم بالتهيؤ للرحيل فلا مُقام لهم بعده فهو راحلٌ عنهم، وقد آن رحيله في ليلة قمراء لا يخفى فيها على أحد، وفي البيت الثالث يقول في الأرض متّسعٌ بعيدًا عن احتمال الأذى.

ويُروى حديث عن النبي محمد (ص) : “علموا أبناءكم لامية العرب”.  لما فيها من مكارم الأخلاق والحكمة والبلاغة، وفي اللامية يعلن استغنائه عن الآخرين واعتداده بذاته وبما يملكه، صيده للحيوانات البرية، يصف همومه يتحدى الطبيعة

الصعاليك

ويؤاخي مخلوقاتها، يحتج ويعصي ويثور لكرامته،  تمرد ظاهر ووجدانية مبطنة قوامها الشجاعة والكرامة، والصبر على البأس وتهذيب الشهوات:

 “وإن مدت يدي إلى الزاد لم أكن    بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل”

في لاميته حكمٌ متناثرة وخلاصة تجاربه في الحياة، وقناعاته بالقدر وبالترفع عن طلب الدنيا:

“وأعدم أحيانا وأغنى وإنّما     ينال الغنى ذو البعدة المتبذّل”

والشنفرى ينقل لنا مفهوم العطف عند الصعاليك واهتمامهم وتقديرهم للصحبة:

“ولي صاحبٌ من دونهم لا يخونني    إذا التبست كفي به يتأكّل”

ثم يكمل: ” ثلاثةُ أَصحابٍ فؤادٌ مشيَّعٌ      وأَبيضُ إِصليتٌ وَصَفراءُ عَيطَلُ”

ويقصد بهم هنا: القلب الشجاع والسيف المصقول والقوس، صحبة تحميه وتسنده وتجعله يواجه العالم الذي ظلمه من حين ولادته بجعله يتيمًا وبعيدا عن أهله وأمه، فوطنه قلبه الشجاع الذي يصبر على الضيم، وزاده سيفه وقوسه اللذان يدفعان عنه الضيم ويمكنّاه من الصيد، والغزو، والانتقام.

تميّزت قصائده ومقطوعاته الشعرية بوعورة وصعوبة المفردات التي تؤاخي الطبيعة القاسية في الصحراء والطبع البدوي الجلف، وقد آلف وحوشها:

” ولي، دونكم، أهلونَ: سِيْدٌ عَمَلَّسٌ          وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ”

السيد العملس هو الخبيث من الذئاب،  وأرقط زهلول قيل أنها الأفعى الملساء وقيل أنه النمر الأملس، والعرفاء الجيأل ضبعة طويلة العرف.

 يبدو الوزن ثقيلا بطيء الإيقاع كأُحدية، وفعل احتجاج في وجه ما لاقاه من ظلم وهوان.

وقد قيل عن الشنفرى: ” هو مثال للشاعر الفطري وليد القفار أليف الأودية شعره صورة عن طبعه وفكره وخشونة عيشه ودقته في التقاط التفاصيل، وفي شعره وجدانية مغمورة وحكمة وفخر واعتزاز وعلو نفس.”

الشنفرى وعاطفيته المكلومة

المرأة في تائيته وهي قصيدة مطولة له أيضًا، حنونة مثالية وكريمة، يبدأ قصيدته بالتغزل ثم وصف شجاعته وشدة بأسه.

“فيا جارتي وأنت غير مليمة (أي غير ملامة على فعل )  إذا ذكرت ولا بذات تقلت”

“لقد أعجبتني لا سقوطًا قناعها    إذا ما مشت ولا بذات تلفت”

أي لا تسرع في المشي فيسقط قناعها، ولا تتلفت بريبة، وذا إشارة إلى خجلها وعفتها.

“تبيت بعيد النوم تهدي غبوقها    لجارتها إذا الهدية قلت”

أي أنها تؤثر جارتها بزادها لكرمها حتى في أيام الجدب.

وهي تنأى بنفسها عن كلّ شبهة :” تحل بمنجاة من اللوم بيتها     إذا ما بيوت بالمذمّة حُلّت.”

الشنفرى من الانتقام حتى الصلب

وفي التائية يصف سيفه:

 “حسامٌ كلون الملح صاف حديده    جزّار كأقطاع الغدير المنعّت”

 ويشير إلى ثأره من أحد قتلة أبيه وهو حرام بن جابر، مفتخرًا بانتقامه:

“جزينا سلامان بن مفرج قرضها      بما قدمت أيديهم وأزلّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت”

شفينا بعبدالله بعض غليلنـــــــــــــــا        وعوف لدى المعدى أوان استهلّت”

لقد صدق الشنفرى وعده في الثأر فقتل تسع وتسعين من قبيلته بعدما كان قد أقسم على قتل المئة، وقد وصل إلى المئة بعد مماته، في رواية على قدر ما تحمله من مأساة تبعث على السخرية، فقد قيل أنه بعد وفاة الشنفرى  قام رجل بركل جمجمته برجله وقد أصاب جرحه عظمة سببت له تهيُّجا وحمى، مسببة وفاته.

ومما يُشاع من الروايات عن مقتل الشنفرى، يروى أنه قتل من بني سلامان تسع وتسعين رجلا، فأقعدت له قبيلة بني سلامان رجالا يرصدونه، وقطعوا عنه مياه الآبار، وأوقعوه في كمين عند نزوله في أحد الآبار فقتلوه وصلبوه:  “فلما دنا من ماء الأزد قبضنا عليه، وأصبحنا به في بني سلامان، فربطوه إلى شجرة، وطلبو منه أن ينشد لهم شعرا فقال: الإنشاد على حين المسرة. ولما سألوه أين نقبرك، قال إنّ قبري محرّم عليكم، وطلب أن يتركوا جثته تنهشها الحيوانات والضباع:

  “لا تقبروني إنّ دفني محرّم               عليكم ولكن أبشري أمُّ عامــــر

  إذا احتملت رأسي وفي الرأس أكثري      وغودر عند الملتقى ثمّ سائري

  هنالك لا أرجو حياةً تســــــــــــــــرُّني           سَجيس الليالي مبسّلًا بالجرائر”

قيل أنه توفي قبل عقدين إلى ثلاثة عقود قبل الإسلام بحسب دراسة  للدكتور خالد الجبر.

“وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى    وفيها لمن خاف القلى متعزّل.

عاش الشنفرى شريدًا، واختار حياة التصعلك لأنها الطريقة الوحيدة والأكثر إتاحة لرجل مثله، رُبيَ في دار ليس داره وأهل ليسوا بأهله، ظنّه يحبونه فإذ بهم يستعبدونه، ويوكلون له المهام، كان القتلة يتربصون به من كلّ صوب حتى لا ينتقم لقتلهم أبيه، وظلوا يسيئوون إليه ويرمونه بالخشن من الكلام، حتى عرف أصله ومن هو،  فثار وتصعلك وحلف بالانتقام، وعلى الرغم من جلافة طبعه وحقده المتمكّن في نفسه، إلّا أن الحب ملك قلبه اتجاه قعسوس ابنة الرجل التي ربّاه، وهي على كِبرها وإنفتها ورفضها له، لم تكن لتبادله الحب، وظلت تعيّره وتطالبه بما يجعله في نفس مقامها من الملكية والغنى، فكان يغزو وينهب ليفيها ما تطلبه، وظلّت تذكره بوعده بالانتقام لقتلة أبيها، فوفى وعده.

 كان له صحبٌ من الصعاليك، هم وطنٌ لبعضهم البعض، يجمعهم رفضهم للذل والهوان، ويناصرون بعضهم، هذا بالطبع إذا جزمنا أن ليس كل من رفضته قبيلته كان صعلوكا ذا بأس بل إنّ منهم المجرمين على فطرة. ثار الشنفرى على وضعه وخلعته قبيلته معنويًا قبل أن يخلع هو نفسه منها ويعلن ثورته عليها انتقاما وحقدا، وكان الشعر هو الجانب الوجداني في نفسه، ومن خلاله عكس تصوراته وخلقه فخُلّد ذكره في ديوان الشعر العربي لامية وتائية يتناقلها العرب وهم يعرفون ما فيها من الدُرر والحكم البليغة والفروسيّة ويحفظونها كحفظهم للغة.

” وإني لحلوٌّ إن أريدت حلاوتي              ومرٌّ إذا نفس العزوف استمرّت”