القصيدة المختلفة والمتجددة

 في حوار مع الشاعر فاروق شويخ

تشكل قصائد الشاعر الجنوبي فاروق شويخ تجربة لافتة في المشهد الشعري اللبناني والعربي، لما راكمه من منجزات في الأدب والشعر خصوصًا. تنفتح قصائده على آفاق تدعو إلى  اجتراح لحظة شعرية خاصة من حيث الأسئلة التي تطرحها والرؤية إلى العالم والتأمل فيه، هذا بالإضافة إلى المتخيل الذي يتجاوز اللحظة الراهنة ليشكل بناء جماليًّا، ويجنح الشاعر في نصوصه نحو التفكير في مواضيع تتعلق بالحياة والإنسان ويقدم مواقف من الوجود والعالم، حيث أن القارئ ينتبه إلى الهاجس والشاغل الوحيد لدى الشاعر هو الشعر نفسه الذي يشكل دائرة تحتوي على كل ما يدور من حوله. وفاروق شويخ الدكتور والناقد المتخصص بالأدب الحديث، يمدّنا في نصوصه بمعرفة ويقدمها إلى متلقي الشعر ومحبي الأدب، وينتمي معظم شعره إلى أجواء من  الصوفية التي تحتاج إلى قارئ عالم ومهتم به. كذلك يحترف هذا الشاعر الكتابة، يطوّع اللغة يتلاعب بمفرداتها، ويشتغل على العروض لتكون قصيدته متجددة تسير في مسارات مختلفة ولافتة وقريبة من المتلقي المهتم بهذا النوع من الشعر خصوصًا.

الحصاد التقت الشاعر اللبناني فاروق شويخ وكان لها معه الحوار الآتي:

فاروق شويخ للحصاد: “تكمنُ قوة القصيدة في السير إلى المختلف الدائم والسعي إلى التجديد والتلاعب الدائم باللغة والمنطق العروضي الذي يحتمل الكثير من التدخل والاجتهاد.”

“في القصيدة إشاراتٌ للاستمرار في هيئة تفاؤل مفتعل، ولولا الحلم وامتداداته وبريقه لَما كان بالإمكان مجابهة قسوة الواقع وسطوته.”

“نحن نعرف من يتحكم بمصائر الشعوب وسياسات الدول، إن كان للأديب دور فهو في خَلق الانتباه وخلخلة الراكد، ويمكنُ أن تتحول بعص القصائد إلى أناشيدَ حماسية تُعمّق فكرة الانتماء.”

“الحصاد”: يتمثل الوعي في الفكرة الشعرية من خلال ارتباطها بالواقع واستنطاق الأثر، ما هي أهمية ذلك في كتابة قصيدة تؤثر في القارئ؟

فاروق شويخ: غالبًا ما ينتظر القارئ المضمون المباشر ويستميله الوضوح وغايته الكبرى تكون فهم المضمون. انطلاقًا من هذا الفهم، أرى أنّ الفكرة مدماك رئيس في النصّ الشعريّ، وإذا كانت مرآة للواقع فهذا يمهّد الطريق إلى ذهن القارئ بشكل عام، فهو ينتظر هذا الأمر ويتوقعه.

“الحصاد”: تقول في ديوان “منمنمات على جسد المعنى”:

ماذا تفعل ي هذا في يومك؟/ تستيقظ ثم تنام وقد تنسى أن تستيقظ ثانية/ نم وتخلص من شمس لا تطلع إلا لتغيظك/ أو لتكون خطاك فريستها السهلة!/ ماذا تفعل يا هذا إلا أنك تنتظر الفجأة والحدث المدهش/ هذا يومك/ لا تتوقع أفضل منه. ماذا عن أسئلة القلق وكتابة الدهشة التي تخلق القصيدة في حالات من التجلي؟

فاروق شويخ: بالنسبة إلي، إنّ الأسئلة في الشعر هي أقصى غايات الشعر؛ فالمعنى الناجز والإجابات المفترضة لا تخدم الفن، إنما القلق المتوتر والسؤال الذي يحمل الشكّ والبحث الدائم وإن كان ظاهريًّا هو جوهر الشعر.

“الحصاد”: تكتب في مكان آخر من الديوان: لا يعطي الحلم سوى كرة تتدحرج في قبضة يومك/ هذا حلمك لا تتأمل أصدق منه. هل تتأمل أن تمنحك الغفوة ما لم تمنحك اليقظة إياه؟ كيف يحافظ الشاعر على الأمل وسط الخيبات والانكسارات التي يعيشها الإنسان؟ وهل يمكن أن تستمد من الحلم حياة؟

فاروق شويخ: على الرُّغم من تتالي الخيبات وتكرر الإحباط، تومض في القصيدة إشاراتٌ للاستمرار في هيئة تفاؤل مفتعل، ولولا الحلم وامتداداته وبريقه لَما كان بالإمكان مجابهة قسوة الواقع وسطوته… أكاد أجزم أن الحُلم، وإن جاء بصورته المجازية، طريقٌ مثاليّ لصناعة الحياة وإكمالها.

“الحصاد: ماذا يوحي إليك ليل الشعراء وحدائق المعنى والعتم الذي تتأمله يدور في بال الخيال كما تقول، وماذا عن علاقتك بالزمن وارتباطه بحواس الشاعر الذي يقع فريسة الليل ليستوحي القصائد؟

فاروق شويخ: الليل كائنٌ ذكيّ لأنه لا يشارك سحره وأسراره أحدًا، فيه أجد المعنى الهارب الذي لا يمكن أن أجده في ضوضاء النهار وتفاهة الواقع. في الليل فقط يمكن أن أنتقم من قساوة الزمن، لأني بكل بساطة أستغله وأستنزفه تمامًا.

“الحصاد”: ما هو دور الأديب في المعاناة الإنسانية، وكيف يمكن أن يمثل تغييرًا في المآسي والحروب خصوصًا؟

فاروق شويخ: ثمّةَ مفهومٌ، إن لم أقل إنه خاطئ، فهو ملتبس؛ عن أنّ الأديب يمكنه تغيير العالم والشاعر عمله الهدم وإعادة البناء… هذه باعتقادي آراء خيالية، نحن نعرف من يتحكم بمصائر الشعوب وسياسات الدول، إن كان للأديب دور فهو في خَلق الانتباه وخلخلة الراكد، ويمكنُ أن تتحول بعص القصائد إلى أناشيدَ حماسية تُعمّق فكرة الانتماء… ولكن، هل هناك على مرّ العصور أديب استطاع أن يلدَ ثورةً أو تجمُّعًا في مقارعة الطغيان؟!

“الحصاد”: يتمثل الحنين إلى الماضي وذاكرة الطفولة من خلال الشعر. كيف يمكن للذاكرة بوصفها انتقائية أن ترسم صور الماضي البعيد؟ وماذا عن دور الخيال الذي يضيفه الشاعرإلى كتابة نصوصه للخروج بصور شعرية ممتزجة بذكريات الطفولة؟

فاروق شويخ: إن لم يكن الحنين هو الشعر فهو معظمه! والنُّزوع إلى الماضي وذكريات الطفولة أمرٌ يسكن مخيلة الشاعر في كل الأوقات. تحدّث الكثيرون عن أهمية الذاكرة والتذكُّر في العمل الشعري؛ يقول بودلير “إن العبقرية هي الطفولة المستعادة قصدًا”، فلا يمكن ببساطة الهروب من لحظات أو بالأحرى هي محطات أساسية في بناء الإنسان وتكوينه. فضلاً عن أن تلك المرحلة التي كان فيها الشاعر طفلاً محاطة بكثير من البراءة التي يفتقدها الإنسان في عمره المتقدم الآن. أقول في قصيدة مخاطبًا ماضيَّ الهارب:

يا خيالَ الفردوس، يا عمريَ الغاربَ قل لي إن الزمانَ كذوبُ

قل لطفلٍ لها بفَيءِ دواليكَ بأنّ العُنقودَ بعدُ رطيبُ

هاتِهِ خمرةً أُرنِّحْ بها الوقتَ، عسى يستطابُ هذا الكوبُ

كيف يذوي ويَيْبَسُ الأمسُ في عينَيَّ والعشقُ مسكُهُ المسكوبُ !

والزغاريدُ لم يَمُتْ لحنُها العذريُّ والنّايُ لم تَخُنهُ الثّقوبُ!

“الحصاد”: كيف تصف علاقتك باللغة ومشاكستها؟ إلى أي مدى أسعفتك هذه اللغة في التعبير عن أفكارك وقول كل ما تريده؟

فاروق شويخ : كلما فكّرتُ باللغة كأنثى حسناءَ مُغرية انتبهتُ إلى أنني أخبئ أغلى الكنوز وأشهى الأسرار. حقًّا إن اللغة عالم فسيح غير محدود. فباستطاعة الشاعر أن يشاغب ويشاكس، وبالمعنى الأدقّ؛ بمقدوره أنْ يتلاعب بالكلمات والمتتاليات النحوية والأوزان العروضية المألوفة ويصنعَ المختلف! اللغة نقطة البداية، فقبل أن نسأل عن عالم الشاعر وأفكاره وتوجهاته وأسلوبه التجديدي وموقفه من الحداثة والأصالة والمدارس الشعرية… لا ينبغي أن ننسى أن ثمة سرًّا خلف كل هذا، السرّ في مدى تمكُّن الشاعر من اللغة وتطويعها ومخاطبتها من مكانِ العارف المتمكِّن… قال البعض إن العلاقة بين الشاعر واللغة ينبغي أن تكون ليّنة قائمةً على الودّ والتقدير… وأنا أرى أنّ الشاعر يجب أنْ يكون في موقع الملك الآمر.

“الحصاد”: إنّ المتأمل في نصوصك ينتبه إلى رؤية خاصة للإنسان والحياة وقصيدتك صادقة بعيدة عن البلاغة المبتذلة والصور المصطنعة وفيها نزوع نحو الصوفية. أين تكمن قوة قصيدتك على صعيد التلقي؟

فاروق شويخ: انتبهتُ قبل إصدار مجموعتي الشعرية الثانية عام 2004 إلى أن الشاعر ينبغي أن يمتلك رؤيةً إلى العالم، وموقفًا من كل الظواهر حوله، ولا ينبغي أن تأتي قصيدته نصًّا غايته الترف. آمنتُ بهذا الموقف حتى أنّني أنجزتُ أطروحة الدكتوراه في النقد الأدبي الحديث بعنوان “الرؤية إلى العالم”. أعتقد أن الشاعر لا بدّ أن يكون ذا موقف واضح من الأقانيم الثلاثة الكبرى: الله والوجود والإنسان. لا بدّ أن تصحب القصيدة مُحسّناتٌ ما، على ألاّ تكونَ مبتذلةً كما قلتِ.

أما على صعيد التلقي، فإنْ كان في قصيدتي من قوة، فأعتقد أنها تكمنُ في السير إلى المختلف الدائم والسعي إلى التجديد والتلاعب الدائم باللغة والمنطق العروضي الذي يحتمل الكثير من التدخل والاجتهاد. ولا بدّ للقارئ من أن يتسلح بمعرفةٍ ما قبل الدخول إلى قصيدتي، لأنني أزعم أنّ شعري بمعظمه ينتمي إلى المُناخُ الصوفي وأحواله، فلا يمكن تلقّيه إن لم يكن القارئ عارفًا بمفردات الصوفيين ومقاماتهم. فعلى سبيل المثال أقول في قصيدة:

يداكَ حرفانِ؛ حرفاكَ اقترفْ بهما

معنايَ، وانفخُ به، قدّسْهُ معنايا

أُخفيكَ أحجيةً للعشق في لغتي

كي لا يرى أحدٌ عينيكَ إلاّيا

فالذي لا يعرف ما هما الحرفان (كُن) لن يفهم المعنى، فضلاً عن الإشارة إلى النفخ. وفي البيت الثاني يُخفي العاشق محبوبَهُ في لغتِه كي لا يراه سواه، وهذه كانت عادة المتصوفة، حيث كانوا يتحرّجون من الإفصاح فيُخفون أسماء من يحبّون في ثنايا قصائدهم.