صفقة قد تغيّر الشرق الأوسط
يشكّل الاتفاق بين السعودية وإيران الذي أُبرم في 10 آذار (مارس) 2023 تحولا قد يكون تاريخيا مفصليا في إعادة تشكّل خرائط المنطقة. وقد يؤسّس الحدث، إذا ما صدقت النوايا، تبدّلا في علاقات الشرق الأوسط مع العالم كما في علاقات العالم العربي مع إسرائيل. ولئن ما زلنا في مرحلة التجارب والاستكشاف في هذا الصدد، غير أن الرعاية الصينية للاتفاق توفّر بدورها أبعادا استرتيجية استنتجت كافة العواصم من خلالها مؤشّرات للدور الصيني المتنامي في مسائل الحلّ والعقد في ملفات العالم عامة وفي الشرق الأوسط خاصة.
التفصيل الصيني
لم يكن مفاجئا أن تتوصل السعودية وإيران إلى اتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما ويعيد فتح السفارات
والممثليات والقنصليات في البلدين. سبق للتسريبات التي خرجت قبل ذلك عن جلسات الحوار في بغداد والوساطة التي قادتها سلطنة عمان أن توقّعت قرب اجتماع وزيري الخارجية لوضع نقاط على حروف تطبيع العلاقات المنقطعة نهائياً منذ عام 2016. ومع ذلك لم يتحقق الأمر، وبقيت التصريحات الرسمية إيجابية من دون العبور نحو مرحلة متقدمة.
ما هو مفاجئ أن الأمر حصل في بكين برعاية الصين من دون أن يتسرّب في وسائل الإعلام قبل ذلك أي أعراض تشي بذلك. والأرجح أن كل ما تقدم في حوار السعودية وإيران لم يكن ليثمرَ اتفاقاً من دون دولة ضامنة كبرى صديقة للطرفين. ولئن لعبت بكين هذا الدور بصمت وهدوء ودأب وأقبلت الرياض وطهران على الانخراط داخل مبادرتها، فإن في الحدث ما يقدّم واجهة جديدة للنفوذ الذي باتت الصين تمتلكه في الشرق الأوسط. بمعنى آخر فإنه إذا كانت المناسبة اتفاق سعودي-إيراني فإن الحدث يؤسسّ لمكانة مقبلة للصين في المنطقة.
وحين نتحدث عن الحدث في ُبعده الشكليّ فتصحّ ملاحظة أن التطوّر جرى بناء على قواعد أمنية تولى توليفها الطرف الصيني برعاية مبادرة تعود لزيارة الزعيم الصيني شي جين بينغ إلى الرياض في 7 كانون الأول (ديسمبر) 2022 وزيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين في 14 شباط (فبراير) الماضي. وفق المقاربة الأمنية قاد وفديّ التفاوض، اللذين التقيا ما بين 6-10 آذار(مارس) الماضي، عن السعودية، مستشار الأمن الوطني السعودي مساعد بن محمد العيبان، وعن إيران، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني.
في الشكل أيضا أن الاتفاق يرسم خارطة طريق تمرّ عبر لقاء، لاحق على مستوى سياسي هذه المرة، بين وزيري خارجية البلدين، يشمل مناقشة مسائل تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين. وفي الشكل أيضا ديباجات عامة تتحدث عن تأكيد البلدين على “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”، بما يفضح حقيقة أن لبّ الخلاف أساسا يقوم على هذه المسألة بالذات والتي لم يتوانَ الطرف الإيراني عن التبجح بها حين فاخرت منابر طهران قبل سنوات بإعلانها السيطرة على 4 عواصم عربية.
ضريبة الجغرافيا
وعلى الرغم من أن الاتفاق اللافت لم يخضّ، في ما أظهره البيان المشترك، في عمق الملفات الخلافية، وعلى الرغم من أنه يعيد حال العلاقات في الشكل إلى ما قبل عام 2016 حين كانت سفارات البلدين تعمل في العاصمتين من دون أن يكون ذلك حينها مؤشرا على ودّ ووفاق، فإن ذلك يعني أن الأمر لا يعدو كونه إدارة جديدة للخلافات بين البلدين وليس تجاوزاً لها. أما تبادل السفراء فقد يساهم وقد يكون خطوة لتحسين شروط التوصل يوماً إلى اتفاق، سواء على المستوى الاستراتيجي العالم أو على مستوى الخلافات في ملفات تفصيلية أهمها اليمن وليس أقلّها لبنان وسوريا وميادين الدفاع والأمن والاقتصاد.
وإذا ما يورد بيان الاتفاق مهلة شهرين كحدّ أقصى لإعادة فتح السفارات، فإن شهورا كثيرة قد تمرّ قبل تحقيق تقدم
نوعي يتجاوز البروتوكولات الدبلوماسية، وربما سنين عدّة قبل استعادة مستوى من العلاقات يعادل بالكاد ذلك الذي تحقق في عهدي الرئيسين الإيرانيين، علي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي. فما زالت عصبية رائجة لدى الطبقة الحاكمة في طهران تنهل من العداء للسعودية شرعية وجود وبقاء.
والواضح أنه سيصعب الثقة بإمكانات التطبيع الكامل والحقيقي للعلاقات بين البلدين من خلال ما أورده بيان الاتفاق في بكين. وصحيح أن زعيم حزب الله في لبنان السيّد حسن نصر الله مثلاً قد رحّب بالاتفاق، غير أن ذلك يعبّر فقط عن إرادة طهران الآنية والتي قد تتبدل إذا ما ارتأت الأجندات ذلك. وحريّ التذكير بأن الحملات التي كان يشنّها نصر الله ضد السعودية وبقية دول الخليج كانت تتمّ في ظل وجود سفارات لتلك البلدان في طهران والرياض وعلاقات “طبيعية” بين البلدين.
ومع ذلك فإن ما جرى في بكين يتوّج مساراً طويلاً من الحوار بين السعودية وإيران، على الأقل في جولاته في بغداد منذ نيسان (أبريل) 2021. ويتّسق الاتفاق أيضاً مع خطاب سياسي داعم لعلاقات طيبة بين البلدين كرر التعبير عنها وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع صحيفة “أتلانتيك” الأميركية في آذار (مارس) 2022 قائلاً: “إنهم جيراننا، وسيبقون جيراننا للأبد، ليس بإمكاننا التخلص منهم، وليس بإمكانهم التخلص منا، لذا فإنه من الأفضل أن نحلّ الأمور، وأن نبحث عن سبل لنتمكن من التعايش”. وكرر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي من جهته مراراً الدعوة إلى علاقات جيدة باعتبارها “مفيدة وتخدم أمن المنطقة”. لكن هذه الإيجابية لم تمنع المرشد علي خامنئي مؤخراً من مهاجمة السعودية واتهامها والولايات المتحدة بالتخطيط للاضطرابات في إيران.
ملفات الحذر
وجب تأمل الحدث بعناية من دون التعجّل في البناء عليه. فالتطبيع الحقيقي لعلاقات البلدين يتطلّب تحوّلا جذريا لم يتحقق في إيران مقارنة بما تحقق في السعودية منذ تبوء الملك سلمان بن عبد العزيز عرش المملكة عام 2015 وما أُنجز من إصلاحات بدفع من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وما أُبرم في بكين يتطلّب التعبير عنه في القول
والعمل والسلوك في طهران. ومع ذلك فإن ما قد يُلزم الحاكم الإيراني باحترام روح الاتفاق هو موقع السعودية الجديد في الدائرتين الإقليمية والدولية وأهميتها الجيوستراتيجية بالنسبة للصين، الدولة الراعية للاتفاق، وروسيا التي جمعتهما تجربة ناجحة داخل مجموعة “أوبك+” وكان وزير الخارجية فيصل بن فرحان زائراً لعاصمتها عشية حدث بكين.
وإذا ما اعتبرنا أن الاتفاق يعيد حال العلاقة بين السعودية وإيران إلى ما قبل عام 2016 أي قبل قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما، غير أن ذلك لا يعيد وضع البلدين إلى ما كان عليه. فقد تغيّر العالم وتغيرت السعودية إلى الأفضل وبات موقعها الدولي مفصليا وأساسيا وحراكها أكثر حيوية وقوة واستقلالا عن القوى الكبرى. بالمقابل تغيّرت إيران نحو مستويات متراجعة بسبب العقوبات الأميركية القاسية منذ عام 2018، مرورا بتدهور مستوياتها الاقتصادية، انتهاء بالحراك الداخلي الذي بات يقلق أصحاب القرار إلى درجة شيطنته واعتباره صناعة خارجية.
وإذا ما جرى الحدث في بكين فإنه سيسيل حبر كثير بشأن تداعياته على مستقبل التحوّلات في بلدان عديدة مثل اليمن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق… إلخ، كما مستقبل علاقات إيران مع كل المنطقة العربية، من دون التقليل من أثر الأمر على مستقبل المفاوضات حول البرنامج النووي في فيينا. والأمر سينعكس على إسرائيل وطموحاتها في الشرق الأوسط. سيربك الحدث المقاربة الشاملة للولايات المتحدة للمنطقة. صحيح أن واشنطن رحبت بالأمر، لكنها ستدرس بضيق ونزق وعناية معانيه في خرائطها الاستراتيجية الكبرى. بالمحصلة بإمكان هذا الاتفاق أن يكون نواة لشرق أوسط جديد، وإذا لم تحتمل طهران مفاعيله فأنه لن يكون إلا حبرا صينيا على ورق.
تعطّل فيينا
أثارت الزيارة التي قام بها مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي إلى طهران في الأول من آذار (مارس) الماضي لغطاً وأسئلة لا تُطمئن القلقين من خططّ البرنامج النووي الإيراني. تحدث الرجل عن ودّ وتعاون وموافقة السلطات الإيرانية على ترتيبات تتعلق بالمراقبة والرصد داخل بعض المفاعلات، لكن طهران نفت ذلك. وعلى الرغم مما قيل عن استعداد مجلس المحافظين في الوكالة لتوجيه لوم إلى طهران يهوّل بنقل الملف إلى مجلس الأمن، لكن الأمر تأجّل إلى اجتماع حزيران المقبل.
بموازاة الأمر، وعلى الرغم من تكرار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان تصريحاته بشأن العودة إلى المفاوضات في فيينا وقرب التوصل إلى اتفاق نهائي، بقيت واشنطن تشكّك في ذلك وتنفي رياح التفاؤل التي تنفخها طهران وتستبعد العودة القريبة إلى المفاوضات مستلهمة ما سبق أن تحدّث به الرئيس الأميركي جو بايدن في 20 كانون الأول (ديسمبر) 2022 عن “موت الاتفاق.”
وفق هذا الغموض غير البناء في المواقف المرتبكة لغروسي وتلك المتناقضة الصادرة عن طهران واشنطن، زار واشنطن وفد أمني إسرائيلي في 8 آذار (مارس) الماضي لـ “مزيد من التشاور”. وفي خلفية هذا التشاور بدء مناورات عسكرية جوية أميركية إسرائيلية في نيفادا في 12 من الشهر نفسه توحي بالاستعداد لأمر ما في وقت ما. فيما ما برحت منابر إسرائيل من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو انتهاء بجنرالات الأمن والعسكر تلوّح بالدفع باتجاه الخيار العسكري ضد إيران بصفته الحلّ الذي عجزت عنه الدبلوماسية لإبعاد الخطر النووي عن إسرائيل.
وسط ما يشبه الفوضى في المعلومات بشأن المستوى الذي وصل إليه البرنامج النووي، تدفقت تقارير جديدة تتحدث عن قدرة إيران على إنتاج قنبلة نووية خلال أسابيع أو خلال أيام. قبل ذلك كانت جُلّ التقديرات المتشائمة تتحدث عن أشهر أو حتى سنوات. ولئن تحتاج إيران إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 90 بالمئة لإنتاج قنبلة نووية، فإن إيران التي رفعت نسب التخصيب من مستوى 3.67 بالمئة وفق ما يسمح به اتفاق فيينا لعام 2015 إلى مستوى 20 ثم 60 بالمئة منذ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب بلاده من الاتفاق عام 2018، اعترفت بحقيقة العيّنة التي عثر عليها مفتشو الوكالة في منشأة فوردو في 21 كانون الثاني والتي تكشف عن نسبة تخصيب وصلت إلى 83.7 بالمئة.
وبغضّ النظر عما ساقته إيران من أعذار تتعلق بخطأ تقني ارتكبته أجهزة التخصيب لم يكن مقصودا، وعلى الرغم من احتمال أن سلطات طهران قد تقصّدت ترك المفتشين يكتشفون هذا “الإثم” للاستثمار به سياسيا، فإن الثابت أن إيران التي تمتلك التكنولوجيا النووية واكتسبت معرفة وراكمت خبرة تتيح لها الذهاب بعيدا في تخصيب اليورانيوم، باتت جاهزة لإنتاج القنبلة وفق توقيتها، وأن العالم قد يستفيق يوما على أخبار التجربة النووية الإيرانية كما استفاق على أنباء تلك التي نفّذتها كوريا الشمالية عام 2006.
اتفاق بكين ونووي إيران
لا يمكن إغفال هذا الواقع عن ظروف رعاية الصين للاتفاق الذي أبرمته السعودية وإيران في بكين. لا نعرف عن هذا الاتفاق حتى الآن إلا السطور المقتضبة التي حددت العناوين الكبرى التي تؤسّس لمرحلة جديدة واعدة في علاقات طهران والرياض، لكن أيضا في علاقات إيران والعالم العربي. وما الجولة التي قام بها علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، والذي رأس وفد بلاده في بكين، إلى أبوظبي وبغداد والزيارات التي قد سيقوم بها وزير الخارجية الإيراني إلى هذه العاصمة أو تلك، إلا تأسيس للبنى التحتية الدبلوماسية والاقتصادية وربما الأمنية التي ستتحول وفقها سياسة إيران الإقليمية.
وإذا ما فاجأ الاتفاق العالم، وخصوصا الولايات المتحدة لا سيما لجهة رعاية الصين له وما يعنيه ذلك من عصر صيني في الشرق الأوسط، إلا أن الجانب المتعلّق ببرنامج إيران النووي وقنبلتها النووية المفترضة غاب تماما عن النقاش العام. ولا ندري ما إذا كان أُثير هذا الملف بين المتفاوضين في بكين ما بين 6 و 10 آذار (مارس) قبل خروج النصّ المعلن للاتفاق. ثم أن تداعيات الاتفاق الإيجابية والجدية لدى طرفي الاتفاق والتزامهما تهدئة مدروسة وصلت إلى حدّ دعوة الرياض الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة السعودية، تغفل، وربما عن قصد، إثارة موضوع خطير وحرج من هذا النوع يحدد بشكل جدي طبيعة العلاقة التي ستقيمها إيران مع السعودية والخليج والعرب.
وإذا ما استثنينا إسرائيل التي ما برحت تتوعد بضربة عسكرية تدمّر برنامج إيران النووي، فإن الصمت الدولي الذي يحيط بالمفاوضات في فيينا وغياب تقارير دولية ذات مصداقية عن حقيقة أخطار البرنامج النووي وشقّه العسكري في وقت باتت فيه إيران، وفق اتهامات غربية، شريكة في حرب أوكرانيا داعمة لروسيا، يطرح كثير من الأسئلة بشأن دقّة اقتراب إيران من تفجيرها النووي الأول. ثم أن جسامة هذا الملف يطرح أسئلة أخرى على الصين، عرابة “اتفاق بكين” وضامنة أطرافه، بشأن ما تعرفه عن خطط إيران النووية وما وصل إليه برنامجها وعما سيكون عليه “اتفاقها” في حال دخلت إيران النادي النووي.
وكأن انخراط المجتمع الدولي في فرض اتفاق جديد على إيران في فيينا بات حاجة لصيانة الاتفاق السعودي الإيراني في بكين. وكأن إيران أيضا، في إبرامها الاتفاق مع الرياض ومباشرة سياسة انفتاح مع دول الجوار تمضي نحو مرحلة استراتيجية جديدة فيما برنامجها النووي متخلّص من أي قيود لا يلجمه اتفاق ولا شيء يمنعه من الذهاب إلى مبتغاه الأقصى. وإذا ما كانت دول خليجية قد طالبت في السابق بأن تكون شريكة في المفاوضات النووية وتلك المتعلقة بملفات أخرى، فإنه حريّ بإيران نفسها إذا ما كانت حريصة فعلا على فتح صفحة جديدة مع المنطقة، أن تشترط أن تكون دول المنطقة جزءا وشريكا في أي اتفاق دولي في فيينا سيحدد مسار المنطقة وأمنها في المستقبل.
من الحذر عدم الانخراط كثيرا في استشراف مآلات اتفاق بين السعودية وإيران يحتاج كل يوم إلى أدلة وبراهين تؤيد جديته. والواضح أن تمهل وتأنٍ تهيمين على تعاطي طهران والرياض مع الحدث، ليس بالضرورة لعدم ثقة يغزو العاصمتين بعضهما ببعض، بل حرصهما على إنجاح مسعى كان عسيرا وصعبا ومر بمخاض متعثّر طويل. ومن الحكمة مراقبة ردود فعل كافة العوامل الداخلية والإقليمية والدولية سواء تلك التي يمكن أن تكون متضررة من هذا الاتفاق أو تلك التي ترى فيه خيرا لمصالحها وتدفع لإنجاحه.
ما هو مفاجئ أن الأمر حصل في بكين برعاية الصين من دون أن يتسرّب في وسائل الإعلام قبل ذلك أي أعراض تشي بذلك. والأرجح أن كل ما تقدم في حوار السعودية وإيران لم يكن ليثمرَ اتفاقاً من دون دولة ضامنة كبرى صديقة للطرفين. ولئن لعبت بكين هذا الدور بصمت وهدوء ودأب وأقبلت الرياض وطهران على الانخراط داخل مبادرتها،
فإن في الحدث ما يقدّم واجهة جديدة للنفوذ الذي باتت الصين تمتلكه في الشرق الأوسط. بمعنى آخر فإنه إذا كانت المناسبة اتفاق سعودي-إيراني فإن الحدث يؤسسّ لمكانة مقبلة للصين في المنطقة.
إذا ما جرى الحدث في بكين فإنه سيسيل حبر كثير بشأن تداعياته على مستقبل التحوّلات في بلدان عديدة مثل اليمن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق… إلخ، كما مستقبل علاقات إيران مع كل المنطقة العربية، من دون التقليل من أثر الأمر على مستقبل المفاوضات حول البرنامج النووي في فيينا. والأمر سينعكس على إسرائيل وطموحاتها في الشرق الأوسط. سيربك الحدث المقاربة الشاملة للولايات المتحدة للمنطقة. صحيح أن واشنطن رحبت بالأمر، لكنها ستدرس بضيق ونزق وعناية معانيه في خرائطها الاستراتيجية الكبرى. بالمحصلة بإمكان هذا الاتفاق أن يكون نواة لشرق أوسط جديد، وإذا لم تحتمل طهران مفاعيله فأنه لن يكون إلا حبرا صينيا على ورق.
لبنان والاتفاق
بدأت مباحثات الوفدين السعودي والإيراني في بكين والتي أدت إلى الاتفاق الأخير في 6 آذار (مارس) 2023 . في هذا اليوم بالذات أعلن أمين عام حزب الله السيّد حسن نصر الله عن دعم الحزب لترشّح سليمان فرنجية للانتخابات الرئاسية في لبنان. فهل كان نصر الله على معرفة بما ستؤول إليه المداولات التي تجري برعاية الصين؟
إذا كان الأمر كذلك، وهو احتمال لا يقين به، فإن تصادف تعويم فرنجية في اليوم الأول لمحادثات الدولتين يعني أن حزب الله الذي استمتع في الإقامة في منطقة رمادية بشأن موقفه من مرشحيه المحتملين، عاجلَ إلى حسم الأمر في هذا اليوم بالذات قاطعاً الطريق على حليفه جبران باسيل وعلى قائد الجيش جوزيف عون الذي كان من الصعب التصديق أن الحزب لا يضع فيتو عليه.
وإذا ما كان نصر الله على علم بالحدث العتيد في بكين، فإنه، وفق ذلك أدرك أن الاتفاق السعودي الإيراني الذي سيخرج من المداخن الصينية سيُدخل لبنان في مرحلة تسويات تُسقط مرشحين وترفع من حظوظ مرشحين، فسارع إلى الإعلان عن مرشّحه رسميا، وليس إيحاءً، لجعله مادة مساومة على طاولة أي صفقة قد تؤدي إلى التنازل عن ورقته مقابل مكاسب أخرى في اختيار المرشح البديل.
لكن الأمر قد يكون أيضاً صدفة فرضتها معطيات داخلية وحسابات للحزب لا علاقة لها بما كان يجري في بكين على بعد أكثر من 7 آلاف كيلومتر من بيروت. فلا أدلة حسيّة تفيد بأن زعيم حزب الله قد أُبلغ سلفا بما سيصدر في بكين في 10 آذار(مارس) أي بعد 4 أيام على بداية المفاوضات وإعلانه فرنجية مرشحاً. ولأنه على ما يبدو لم يعلم، فقد نصح بثقة في يوم دعم فرنجية بعدم التعويل على اتفاق بين الرياض وطهران وأن “من ينتظر تسوية إيرانية سعودية سينتظر طويلا”.
كان يعرف أم لا لم يعد مهماً. أصبح حزب الله أمام واقع جديد وحاول استيعاب الصدمة بالاعتراف أنها مربكة، وهو أمر تعترف به المنطقة والعالم، وهي صدمة مربكة خصوصا لحزبه وتيار الممانعة الحليف. قال: “فيه ناس هيفرحوا، وناس هيزعلوا، وناس هيحكوا قرعتهم، وناس هيحكوا لحيتهم، وفيه ناس هيبلشوا يحللوا وبعدهم مش عارفين شيء من شيء”. وفي وصفه لهذه الحالات السيكولوجية صور دقيقة لما انتاب الحزب وبيئته وحلفاءه من حيرة ولبس وارتباك. فالحدث كان مباغتاً إلى درجة أن طهران لم تحتج إلى تحضير جماعاتها الموالية بما في ذلك حزبها في لبنان أو وضع أمينه العام في صورته.
واللافت أيضا أن ترحيب نصر الله بالاتفاق جاء باردا مصطنعا لا يشبه الخطاب الذي يبرع به والذي أجاده منذ سنين ضد السعودية. حتى أن في حديثه عن مصالح الشعوب والمقاومة والممانعة ما يستبطن قلقا على الرغم من مقاصده التطمينية، قال: “هذا التحوّل طيّب، ونحن سعداء لأنّه عندنا ثقة أنّ هذا لن يكون على حساب شعوب المنطقة بل لمصلحة شعوب المنطقة، ويساعد في لبنان واليمن وسوريا والمنطقة، وثقتنا مطلقة بأنّ هذا لن يكون على حسابنا، ولا على حساب الشعب اليمني، ولا على حساب سوريا، ولا على حساب المقاومة”.
على أية حال ترحيب حزب الله بالاتفاق يأتي اتّساقاً مع أجواء تسرّبت من طهران وتم التقيد بواقعها أيضاً من قبل كل الجماعات والتيارات والميليشيات الموالية لإيران في فلسطين والعراق وسوريا واليمن. وإذا ما كانت البيانات الرسمية تعبّر عن قرار بتبريد التوتر والتخفيف من الحملات الإعلامية ضد الرياض، غير أن منابر الممانعة التي أصابها تيه معجون بدهشة سارعت كالمعتاد إلى ارتجال نظريات بشأن انتصار إيران والتيار المقاوم في اتفاق بكين وخضوع الآخرين لشروطها وقواعدها ورؤيتها لمستقبل المنطقة.
والمفارقة أن “المنتصرين” في لبنان يروّجون لمعادلة سيُقدَّم وفقها لبنان على طبق ماسي إلى إيران مقابل تسويات سعودية إيرانية مقبلة تتخلى بموجبها إيران عن اليمن. صحيح أن الملف اليمني هو أولوية بالنسبة للرياض ويمثّل امتحانا حقيقيا لجدية التزام إيران باتفاق بكين، غير أن منطق التسويات خصوصا في ظروف ولادة اتفاق على هذه الأهمية برعاية صينية لا توحي بنهايات تبسيطية مثل تلك التي يتأملها الحزب ويصلي لتحقيقها.
كرر وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان التصريح عقب الاتفاق بأن “لبنان يحتاج أن يعمل على تقارب لبناني وليس تقارب لبناني إيراني سعودي”. بالمقابل ، وعلى نحو يدعو إلى التأمل، فإن السفير الإيراني في لبنان مجبتى اماني شرح موقف بلاده بشأن لبنان. قال في تغريدة: “هذه هي رؤية الجمهورية الاسلامية الايرانية: وزير الخارجية السعودي تعقيبا على إستئناف العلاقات الإيرانية السعودية: لبنان يحتاج إلى تقارب لبناني، وليس لتقارب إيراني سعودي، مشيرًا إلى أنّه على لبنان أن ينظر إلى مصلحته، وعلى السياسيين فيه أن يقدموا المصلحة اللبنانية على أي مصلحة أخرى”. تبنى الرجل كلمة كلمة كل كلمة نطق بها الوزير السعودي.