المثلّث المُقفل لفهم مستقبل لبنان

إذا كان “زعماء” لبنان قد أتعبوا رؤوساء العالم وسفرائه ومبعوثه، فإنّ بائع الورد الجنوبي نبيه برّي أخفق بضمّهم للتحاور حول طاولته البرلمانية المصقولة التي مدّها في البرلمان بحثاً في استراتيجيات الدفاع الوطني لتتحوّل بعدها نحو قصر بعبدا في عهد رئيس الجمهورية ميشال سليمان (2008-2014) بهدف إرساء نهج الحوار الوطني بين الأطراف اللبنانية ، والدفع باتجاه توافقات رئيسة تمسّكاُ باتفاق الطائف خصوصاً لجهة مبدأ المناصفة، والتصوّر الاستراتيجي المبدئي للدفاع عن لبنان  وفي “إعلان بعبدا” كخاتمةٍ لعهده.

ليس من الضرورة التذكير بالفساد الناخر في جسد لبنان المتهالك، ولا بجذوره المتعسّلة في أسس البنى الطائفية والمذهبية للّبنانيين المتشظين بين منظومات مغلقة سجينة خرائبها، بعدما فقد اللبنانيون عناوين الدولة بمظاهرها الثمينة وفي طليعتها الحرية والديقراطية والتنمية والإدارة التي تدمّرت أمام أحلام المواطنين والوطن.

ليس ال128 برلمانيّاً اليوم من فصائل “الزهور” على تنوعهم بألوانهم وروائحهم وتنافرهم وصراعاتهم في الشكل والمضمون وفي التوجّهات والإرتباطات، لذا فإن عقد الحوار في حدّ ذاته كان وسيبقى ثمرةً عصيّة وعقد العقدة بإمكانه ومكانه وإمكانياته ونتائجه المعقّدة التي لا حيّز لتعدادها وتنفيذها.

لماذا؟

لأنّ العقد متشابكة تبدأ في كلّ ناحية وطائفة ومذهب وحزبٍ ومسؤول في لبنان، وهي لا تنتهي في باريس وواشنطن وموسكو والسعودية وإيران وسوريا وبلدان الخليج كي لا أدرج دول العالم وعواصمه. لم يعد يعني تنسيق الزهور أو قعودها أو توضيبها في مزهرية مستديرة الشكل ضرورة وطنية تسهل ملامستها أو مصافحتها أو وتناغمها لا سيّما إن كانت أعناقهم مدججة بالشوك واللذع والجمود والتحدّيات المُزمنة. المهمّة في استحالة مطلقة. لم تعد تعني مصافحة “الزهور” وتداخل روائحها المتعددة ضرورة أن تأتي عطورها متناغمة تنعقد في رائحة واحدة يتلهّف الى استنشاقها اللبنانيون الحالمون على تنوعهم أبداً بالسلام والعيش والتناسل بهدوء، أو منعقدة في حلمٍ من إعادة بناء الوحدة الوطنية التي لطالما شرّع اللبنانيون مسام أجسادهم طمعاً بها وتطلّعاً اليها.

إنّ كميّة الحقد المؤذي والجارح في السرّ كما في العلن هو جوهر الخراب الكبير بعد الفقر الكبير، وإنّ نوعية المياه المسكوبة في المزهريات السياسية لا تحجب صفاءه أو توحّله ولا حتّى نتانة روائحه وفساده في الوطن حتّى ولو كان من صنف زجاج “اللاليك” أرقى أنواع الزجاج المصقول في العالم. الأهمّ من هذا كلّه المناخ العام الذي يتحكّم بحياة الزهور ومدى ديمومة روائحها في الأرجاء وهو مناخ يحمل العواصف والرياح والأمواج العاتية المستوردة وتدخّل السفارات التي سرعان ما تذبل وتغيب عن كل محاولات التهدئة والصفاء والروية والعقلانية والضغط، وفي كلا الحالين تبدو الجماعات اللبنانية تتقدّم بسرعة نحو الفراق الوطني وفلش لغة التهديد إيذاناً بتجديد الحروب المُخيفة المرتبطة بجاهليات الفدرالية والتقسيم والحروب.

لا يعني هذا القول التقليل من أهمية الحوار وما ينتظره اللبنانيون من العدمية التي يكابدون، بل يعني أن ثمرات الحوار هي في حصوله، إذ ليس سهلاً أن تجمع سياسيين من حقول فرنسا ومصر والسعودية واسرائيل وسوريا وقطر وايران والولايات المتحدة الأميركية والأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية والفلسطينيين حول خشبة واحدة، ولو جاهروا جميعاً بأنهم لبنانيو الهويات يبحثون عن لبنان الجديد. وليس سهلاً أن تخترع داخلاً لوطن يبدو مجدداً وكأنه مقيم بالتطلع والعزيمة بكلّ دول الخارج. إنّ معظم سياسيينا خارجيون وكأنهم مستوردون ولو جاهر رئيس برلمانهم والثنائيون والثلاثيون والألفيون منهم في حكم البلاد بأن حواراتهم محلية وستصنع  وطناً عصرياً في لبنان!

لسنا ننتظر زهراً يُعقد ثماراً عبر آذار/نيسان 2023 في لبنان أو بين اللبنانيين، بقدر ما نعيش في مواقد متجمّرة وننتظر جمرا يأخذنا أبداً منقادين الى إشارات السبابات الدولية الآمرة كما كان يحصل دوماً وعنوة، وهنا لبّ المعضلة: كنّا نُدرك جميعاً وما زلنا أن تحت الطاولة بنادق وأسلحة مشقوعة موصولة باسواق السلاح وتّجّارها بما يُعيد اللبنانيين الى ال1975!

حوار قبل الدم لحبسه أم حوار لتسريع الدم وهو لم ييبس بعد في جسد لبنان !

لن يخرج الثنائي بلبنان من سوريا ومن المقاومة لأنه لا يعود لبنان ولنعترف بأن فرنسا تعشق المقاومات ولو أنّها منسّقة موسيقى الحواريات، فإنّ تاريخها ولبنان احتفل بمئويته بمباركة فرنسية، فإن فرنسا الحنون تلك ما زالت مدموغةً بدمغة المقاومة ثقافياً وتاريخيّاً ولو أنّ منظومة الوحدة الأوروبية قد غطّت التاريخ بقماشةٍ شفّافة. لماذا؟ لأن فرنسا ماكرون وأفريقيا وأثرياء جنوب لبنان على تنوعهم يؤلفون المثلث المقفل لفهم المستقبل.

وإذا كانت المصالحات المتدفقة والمعلنة في الأرجاء من حولهم الدولية والإقليمية بين الصين وروسيا وسوريا والسعودية والإمارات ومصر وقطر وكلّها تربك اللبنانيين وتذكّرهم للحظات مفاجئة بالتواريخ الدامية والخوف المقيم حول خياراتهم، فإننا نحيل سياسيينا الذين يملأون آذار كلّه وشاشاتنا وليالينا بالكلام الإنفعالي المرتجل والمتشظّي إن لم نقل المستورد والمودع في الألسن من أصقاع الأرض كلّها، كما نحيل باحثينا ومحللينا السياسيين وطلابنا وأساتذتنا  في الجامعات اللبنانية الوطنية والخاصة لمهمّة إعادة قراءة التاريخ المعاصر منذ العام 1991 الى 2005 في أيّ صحيفةٍ تشاؤون، وحاولوا تعداد أو إحصاء البرقيات والقصائد المدحية والحبرالمندلق الذي يصبّ فقط في المصالح الشخصية في العلاقات اللبنانية السورية.

عندها فقط تنعكس على وجوهنا صور الوطن المصلحة أو الساحة أو المعبرالضيق أو الطريق المنتهي بردهات المطارات تأهّباً للمغادرة. إنّ أعداء لبنان الحقيقيين هم حفنة من التقليديبن الطائفيين، وما العلاقات اللبنانية مع سوريا أو مع البلدان العربية أو الإقليمية والأوروبية أو مع الدول العظمى سوى اجترار لعاداتٍ في الممارسة قوامها سلوك مثلّث: الإستقواء بالخارج أو استعداء الخارج أو استجداء هذا الخارج. مذ كان لبنان لم يدخل دائرة الإنتماء الى نفسه على الأقل إن لم نقل اليه كوطن له بداية ونهاية وثوابت ومتحولات.

كان لبنان وما زال يرقص بين الوردة والبندقية في ساحات الأمم!

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه-عضو الهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات