النظام السياسي الدولي وديمومة الصراع والحرب

ابتداء، تجدر الإشارة إلى أن السياسة الخارجية لكل دولة إنما تتأثر بمجموعة متغيرات تختلف طبيعتها باختلاف طبيعة البيئة التي تنبع منها. فبينما ينبع بعضها من البيئة الداخلية للدولة، ينجم بعضها الآخر من بيئتها الخارجية الإقليمية والعالمية. وفي الوقت الذي تشكل الأولى أساس قدرة كل دولة على الفعل السياسي الخارجي، تفرز الثاني ثمة فرص و/أو تحديات تكون مخرجاتها أما داعمة أو كابحة للفعل السياسي الخارجي لهذه الدولة أو تلك.

وعلى الرغم من أن الآراء تتباين بشأن تفاصيل البيئة الخارجية للدول، إلا إنها، مع ذلك، تلتقي في تأكيدها على أن النظام السياسي الدولي (International Political System) هو البيئة العامة والشاملة، التي تتفاعل بداخلها السياسات الخارجية للدول كافة، وبمخرجات، يتعذر على هذه الدول تجنب تأثيرها، سلبا أو أيجابا، في مصالحها.

وتأثرا بالمعنى المجرد لمفهوم النظام الذي تأخذ به مدرسة التحليل النظمي في علم السياسة، انطلق باحثون في السياسة الدولية منه لتعريف النظام السياسي الدولي. فمثلا قال أستاذ السياسة الدولية، جوزيف فرانكل، أنه “… الهيكل الذي يعبر عن وحدات سياسية دولية تتفاعل مع بعض في ضوء عمليات مؤثرة، منسقة وشبه مستمرة.” ويذهب أخرون إلى الآخذ برؤية مماثلة وإن بصياغات لغوية مختلفة.

وتفيد تجربة تاريخ النظام السياسي الدولي أنه كان، منذ معاهدة وستفاليا عام 1648 صعودا، حصيلة لنوعية التوزيع العمودي أو الأفقي للقوة بين الدول الكبرى في وقته. فبينما يفيد التوزيع العمودي باحتكار، أو شبه احتكار، دولة واحدة للنفوذ الدولي، ومن ثم انفرادها بالهيمنة على العالم ونظامه الدولي. ولنتذكر، كأمثلة، النفوذ البريطاني في القرن التاسع عشر، والنفوذ الأمريكي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 , يفيد التوزيع الأفقي بتوزيع القوة بين مجموعة دول كبرى ذات قدرات تأثيرية عالية ومتماثلة نسبيا. وهذا التوزيع قد يكون ثنائيا، كالذي كان سائدا خلال فترة الحرب الباردة (1991-1947)، أو يكون متعدد الأقطاب، ومثاله الذي كان خلال الحقبة التاريخية بين (1945-1815) .

كما أن هذه التجربة تؤكد أيضا أن عملية تحول النظام الدولي من شكل إلى أخر كان دائما مسبوقا بأفعال محددة وبالغة التأثير كالحروب، أو حدوث تغيرات داخلية أساسية في إحدى الدول الكبرى أو أكثر، أو جراء قانون تبادل القوى الصعود إلى قمة الهرم الدولي والهبوط منه. وكذلك تؤكد عملية التحول هذه أنها كانت تفضي بعد مرحلة انتقالية، قصيرة أو طويلة، الى بروز هيكلية جديدة لنظام سياسي دولي مختلف. والشيء ذاته ينسحب على الواقع الدولي الراهن. وبدون الدخول في التفاصيل، نرى أن هذا الواقع يتجه إلى أن يقترن بالتعددية القطبية.

وبالمقابل يقصد بالصراع الدولي International Conflict) (كل علاقة تفاعل منسق بين دولتين تسعيان إلى تحقيق مصالح عليا شديدة التناقض عبر أدوات تعكس نوعية القدرات المتاحة لكل منهما على الفعل الدولي، وبمخرجات قد تقترن حصيلتها، في العموم، بربح أحدهما وخسارة الآخر، أو بربحهما أو خسارتهما معا في أن. ومن هنا ينبني الصراع على أساس التناقض في المصالح، ويُعد تطبيقا عمليا للعبة الصفرية أو للعبة غير الصفرية.

وأما بالحرب The War)) فهو يفيد بالاستخدام المنظم والمباشر للقوة العسكرية تأمينا لمصالح سياسية منشودة. وتفيد التجربة التاريخية أن لجوء ثمة دول إلى توظيف القوة العسكرية كان حصيلة لإدراكها المسبق إنها لا تستطيع فض صراعاتها مع غيرها بالوسائل السلمية. وبهذا المعنى تُعد الحرب، وعلى وفق راي المفكر الإستراتيجي الألماني، كارل فون كلاوزفيتز Klausewitz) Karl Von) امتدادا للسياسة، ولكن بوسائل أخرى. والشيء ذاته عندنا ينسحب على مفهوم الصراع الدولي. فهو، الآخر، يُعد امتدادا للسياسة بأدوات متعددة منها أداة الحرب.

 إن هذا التماثل الجزئي بين الحرب والصراع أدى بثمة رؤى إلى ادراكهما بدالة واحدة.  إن مثل هذا الإدراك يُعد خاطئا علميا. ومرد ذلك تباينهما الواضح ليس فقط من حيث المفهوم، وانما أيضا من حيث التوقيت والامتداد الزماني، وكذلك الأدوات المستخدمة.

فأما من حيث المفهوم، فدلالة كل منهما أعلاه تفيد بتباينهما الواضح. وأما من حيث التوقيت والامتداد الزماني، فالصراعات تسبق عادة اندلاع الحروب من حيث الزمان. وهذه هي القاعدة. بيد أن بعض الصراعات قد يستمر ممتدا إلى ما بعد تحولها إلى حروب. فمثلا لم تُود الحروب العربية-الإسرائيلية المتكررة منذ عام 1948 إلى تسوية دائمة للصراع العربي-الإسرائيلي. وكذلك لم تحل الحروب بين الهند وباكستان، أو بين الهند والصين مثلا دون استمرار صراعهما الكامن.

وإضافة إلى ما تقدم، يكمن الفرق بين الحرب والصراع في أن الحرب تكون عادة لصيقة بتوظيف أداة واحدة فقط، هي القوة العسكرية. وبالمقابل تتعدد الأدوات السلمية والإكراهية المستخدمة في إدارة الصراع الدولي، هذا فضلا عن توافر أطرافه، في مرحلة ما قبل اندلاع الصراع على حرية الاختيار بين العديد من البدائل التي تتراوح مخرجاتها بين أما تجنب اندلاعه أو دفعه إلى التصاعد.

والحرب، كظاهرة ممتدة من حيث الزمان، لا تنبع بداهة من فراغ، وإنما من مدخلات/ بمعنى أسباب/ سابقة عليها تكون عادة غير معلنة.  فمثلا لم تكن حرب احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق في عام 2003 بسبب ما قيل في وقته: أي “حيازة العراق للسلاح النووي والتهديد الذي يشكله على العالم” وإنما لأسباب لها علاقة بمخرجات النهوض العراقي، والانتصار العراقي/العربي في حرب إيران على العراق عام 1980, والخشية من ابعادهما العربية.

 على أن الاتجاه نحو ربط الحروب بتبريرات كاذبة لا يلغي واقعيا أن كثيرا من الحروب كانت حصيلة لتفاعل ثمة مدخلات نبعت من تأثير تفاعل ثلاثة مستويات في أن، هي: أولا، مستوى الفرد (صانع القرار)، كخصائص شخصية ومدركات وتجارب. وثانيا، مستوى الدولة، كقدرات وأهداف ونوعية علاقات. وثالثا، مستوى النظام السياسي الدولي: احادي أو ثنائي، أو متعدد الأقطاب.

 لذا يُعد تفسير هذه الحرب انطلاقا من هذا المستوى أو ذاك، نهجا خاطئا علميا. فالحروب، كسواها من الأحداث بالغة الأهمية، لا يصح تحليلها علميا انطلاقا من تأثير أحد هذه المستويات ومتغيراته فقط، وإنما من تأثير مجموعة تلك المتغيرات النابعة من تفاعل ثلاثية المستويات أعلاه في أن: أي الفرد، والدولة، والنظام الدولي السائد. بيد أن ما تقدم لا يلغي امكانية تناول العلاقة بين أحد هذه المستويات والحرب لأغراض الفهم النظري ولا غير.

غني عن القول، أن الحرب ظاهرة مستمرة اقترن بها التاريخ الإنساني منذ ما قبل معاهدة وستفاليا عام 1648, التي أسست لميلاد الدول القومية ( (Nations Statesفي أوربا أولا والعالم لاحقا. فعلى وفق الباحث العسكري المعروف، كوينسي ورايت (Quincy Wright),  شهدت مثلا المرحلة التاريخية الممتدة بين الأعوام (1941-1480) اندلاع (278) حربا. وعلى الرغم من أن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية شهد تراجعا طفيفا في عدد الحروب بين الدول، بيد أن تكرار اللجوء إلى القوة العسكرية استمر عاليا. فالفترة الزمانية الممتدة بين عام 1945 وعام 1992 شهدت اندلاع (75) حربا نجم عنها عدد من القتلى تجاوز مجموع قتلى حروب أربعة قرون بأكملها، كما يؤكد أستاذ السياسة الدولية تشارلز كيكلي ((Charles W.Kegley,Jr.,.

ويفيد استخدام القوة العسكرية، تهديدا أو توظيفا عمليا، بتطلع دولي اختلفت أهدافه باختلاف الزمان. ففي أوقات السلام اريد به دعم الأدوات السلمية المستخدمة من قبل إحدى الدول لتحقيق ثمة هدف منشود. أما في أوقات الحرب، فالتجربة تفيد أن بهذا الاستخدام اريد كسر أرادة مقاومة الطرف الخصم سبيلا أما للمحافظة على الآمر الواقع، ومن ثم تضحى القوة كأداة للدفاع، أو أما لتغيير الآمر الواقع. وهنا تكون القوة كأداة للهجوم. وسواء تم توظيف القوة العسكرية لهذا الهدف أو ذاك، إلا أنه لم يكن يوما بمعزل عن تأثير ثمة مدخلات مساعدة ويكمن أبرزها في اقتران العلاقة بين دولتين بواقع الآزمة ومن ثم تصاعد صراعهما، هذا فضلا عن غياب وحدة قرارية دولية فوق قومية قادرة على فرض ارادتها السياسية بالإكراه على الأطراف المتصارعة. ولا يُشكل مجلس الآمن الدولي مثل هذه الوحدة. إن استمرار غياب مثل هذا الكابح الدولي الفاعل هو الذي أدى، عبر الزمان, إلى تحول الصراعات الدولية إلى حروب بين الدول وكذلك داخل الدول.

وتفيد التجربة الدولية لاستخدام القوة العسكرية، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، بثمة معطيات أبرزها اثنان رئيسيان: فأما عن الآول، فهو محدودية توظيفها من قبل الدول العظمى وأو الكبرى بعضها ضد البعض الآخر. فمثلا بين (86) حربا دولية اندلعت خلال الفترة الممتدة بين أعوام (1975-1919) كانت حصة هذه الدول (15) حربا فقط. أما بقية الحروب فقد كانت أما بين هذه الدول ودول في عالم الجنوب، أو في العالم الثالث كما كان يسمى خلال زمان الحرب الباردة، وبعدد (38) حربا، أو بين دول في عالم الجنوب، وبعدد (33) حربا.

وقد أدت مخرجات سياسة الوفاق الأمريكي-السوفيتي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي مدعومة بمخرجات انتهاء الحرب الباردة بعد تفكك دولة الاتحاد السوفيتي، دونما حرب، في 26 أيلول عام 1991 أدت إلى أن يصبح الردع بالسلاح النووي بمثابة البديل لاستخدام هذا السلاح.  ويُرد هذا التطور المهم إلى أثر الأسلحة النووية في التفكير الإستراتيجي لصناع القرار في الدول النووية. فخطر الدمار النووي المؤكد وشبه الشامل والمتبادل أفضى إلى أن يكون الردع النووي المتبادل ( هو المحور الأساس لإستراتيجيات تعامل هذه الدول بعضها مع البعض الآخر ولأغير. ومما ساعد على ذلك التطور المستمر قي القدرة التدميرية للأسلحة النووية. ففي وقت سابق بلغت الشحنة التفجيرية لصاروخ واحد عابر للقارات ومتعدد الرؤوس النووية نحو (3.6) طن من مادة ( ( T.N.T  مقارنة بالقنبلة الذرية الامريكية الملقاة على مدينة هيروشيما اليابانية في عام 1945,والتي كان حجمها يساوي نحو (1.5) كيلو من هذه المادة ذاتها. كما أن الخسائر البشرية لمثل هذا الصاروخ الواحد تقدر بأكثر من (188 ) الف شخص, فضلا عن الاثار بعيدة المدى الناجمة عن الاشعاع الناجم عن الانفجار. واذا تذكرنا الترسانة الضخمة لكل من روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأمريكية فقط, البالغة نحو (13000) راس نووي, عندها يضحى واضحا: لماذا تم اسقاط الحرب النووية كأداة لخدمة اهداف السياسة منذ أزمة كوبا عام 1962 في الآقل. لذا لا يعدو الحديث عن استخدام السلاح النووي في الحرب الأوكرانية عن كونه حديثا يقصد به الترهيب النفسي

بيد أن عدم توظيف القوة العسكرية سبيلا لفض الصراعات المباشرة بين الدول العظمى أو الكبرى خصوصا، ومن ثم تفضيل التسوية السلمية لها، لا يعني أن مجمل الصراعات الدولية قد صارت ظاهرة تنتمي الى زمان مضى. وبهذا الصدد يقول أستاذ الصراعات الدولية فالنشتاين: ” …من الصعب الجزم بما إذا كانت الصراعات الدولية قد أخذت منحنى متناقصا أم لا.” وبهذا الصدد، نرى أن الدول طالما ستستمر في السعي نحو تحقيق مصالح متناقضة، فإن هذا السعي سيجعل صراعاتها ممتدة زمانا بالضرورة، خصوصا أن الدول القومية، ولاسيما الفاعلة، عالميا وإقليميا، ستستمر بمثابة اللاعب الدولي الأكثر تأثيرا في مخرجات التفاعلات الدولية.

وبهذا الصدد، لنتذكر أن الصراع الدولي ظاهرة استمرت ممتدة عبر الزمان. فهذه الظاهرة قد تنكفأ، جراء تأثير ثمة مدخلات مثلما حصل بعد انتهاء الحرب الباردة مثلا، بيد إنها على الأرجح ستبقى تشكل أحد أضلاع السياسة الدولية، كما كانت دوما. فالسياسة الدولية استمرت تتشكل عبر الزمان على وفق ثلاثية مثلث: التعاون، التنافس، الصراع. لذا من غير المحتمل أن تتغير هذه الثلاثية في قادم الزمان، ومن ثم سيبقى الصراع لصيقا بالعلاقات بين الدول كافة. وقد سبق، لمحمد حسنين هيكل، أن عبر وبدقة عن ديمومة هذه الظاهرة قائلا: “… لا يحق لنا أن نغفل لحظة واحدة عن حقيقة أن الصراع بين الامم سوف تظل قائمة ودائمة حتى تتغير الدنيا وسكانها فتصبح أرضها هي الجنة وناسها هم الملائكة، ولكن حتى يحدث ذلك فإن صراعات المصالح والآمن تؤدي لا محالة إلى الحرب.” وقد قيل أيضا:” …لا يمكن الادعاء بحدوث تغيير جذري لواقع ظاهرة الصراع في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. فعلى الرغم من أن الفواعل/ الوحدات/ من غير الدول قد زادت من درجة اندماجها في ممارسة الصراع، ولكن هذا لا يعني أن الدول القومية لم تعد مرتبطة بالظاهرة (أي ظاهرة الصراع) …”.

وعليه نرى أن القول، الذي يفترض أن الخصائص التي يتسم بها عالم اليوم لم تعد تسمح باندلاع الصراعات بين الدول، يتميز بتسرعه في الاقل. ومما يدعم ذلك أن المرحلة الانتقالية، التي اعقبت الانهيار السوفيتي في عام 1991 ومن ثم انتهاء الحرب الباردة، لم تقترن بخاصية المتاهة فحسب، وإنما شهدت كذلك استمرار الصراع، ضمنا أو صراحة، بين الدول الكبرى- الكبرى بنوعيه المباشر أوبالإنابة، أو بين الدول الكبرى-الصغيرة، أوبين الدول الصغيرة-الصغيرة، أو بين الدول الصغيرة-الصغرى  ، هذا فضلا عن نمو الصراعات الداخلية ذات الأبعاد الدولية،

 لذا مهما كان شكل الوحدة الإنسانية، التي تمارس فعل الصراع ابتداءٌ من الفرد ذاته، مرورا بالجماعات الداخلية، وانتهاءً بالدولة القومية، فإنها تبقى محكومة بقانون تاريخي هو قانون الصراع. لذا قيل: “إن الامر المؤكد هو أن عالم المستقبل لن يكون عالما بلا صراعات…” ولنتذكر بهذا الصدد ان المصالح التي تسعى الدول إلى إنجازها، والتي تشكل أساس وجودها، تتماثل في أحيان، ولكنها أيضا تختلف في أحيان اخرى، هذا جراء تماثل او تناقض هذه المصالح. ويشير الواقع الدولي إلى ان تماثل أو اقتراب المصالح يفضي بالدول في العموم إلى التعاون. والعكس كذلك صحيح. فتناقض المصالح يدفعها إلى الصراع أيضا.

لذا ذهب الواقعيون الجدد The New Realists)) إلى القول: “إن البنية الفوضوية للنظام الدولي ترفع من درجات عدم الثقة والشك بين الدول، ومن ثم من احتمالات الحرب، التي استمرت إحدى السمات الدائمة للسياسة الدولية”. وجراء مخرجات هذه البنية الفوضوية ستبقى ظاهرة الصراع الدولي، ومن ثم الحرب، لصيقة بالنظام الدولي ومهما كان شكله. ولا يلغي هذا الواقع المرجح الزيادة الواضحة في عدد الصراعات والحروب الداخلية منذ نهاية الحرب الباردة.

  • أستاذ العلوم السياسية / السياسة الدولية ودراسات المستقبلات