لم يكن موضوع الموسوعية والتخصص في العلم وليد لحظة أو موضوعا طارئا. فلقد تعرّض له الكثير من النقاد وأصحاب الرأي واختلفوا في تحديد القيمة الحقيقية لكل منهما؛ فالتخصص هو في حقيقته التمكن من علم من العلوم والإحاطة بجوانبه وخفاياه وضوابطه وأسسه وفروعه وأجزائه. أما الموسوعية فهي التمكن من عموميات أغلب العلوم المطروحة دون انعقاد تكاملية محترمة بأجزاء وضوابط ومفاصل تلك العلوم. وبالتالي فالموسوعي هو ذلك الذي مد جسوراً طويلة لأغلب أنواع العلوم. إلا انه لم يتخصص فيها.
ونحن اذا ما أردنا الخوض في هذا الموضوع وجب علينا أولا ان نبين أمرين أساسيين؛ الأول ان التخصص لا يتعارض مع الموسوعية في العلم. والثاني ان الموسوعية لا تنفي التخصص. وهناك الكثير من العلماء المتخصصين موسوعيون. كما ان هناك الكثير من الموسوعيين متخصصون.
خذ على سبيل المثال لا الحصر الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ صاحب معجم العين؛ فقد أجمع مؤرّخو اللغة على أنّه أوّل معجم عربيّ اعتمد منهجاً رياضيّاً في إحصاء الكلمات العربيّة وجمعها إلّا أنّ المنية حالت بينه وبين إتمامه وهو من أشهر وأهم معاجم اللغة العربية. وقد سماه العين نسبة الى ان هذا الحرف في علم الصوت يخرج من أسفل الحلق وهو بذلك أعمق الأصوات الصادرة من الحنجرة.كما كان له الفضل في تطوير نقط الاعجام والافصاح التي أحدثت ثورة هائلة على مستوى قراءة النصوص العربية؛ وقد ابتكر الحركات الإعرابية كالضمّة والكسرة والفتحة التي تستعمل اليوم للتمييز بين الحالات الإعرابية.
ولا يمكن أن نتغاضى عن علم النحو الذي كان له قدم السبق فيه . وفي حين كان أول من كتب كتابا في النحو هو سيبويه فلا ننسى أنه تلميذه وقد أخذ على يديه علم النحو كله. فقد نقل المؤرخون أن الخليل أملى على تلميذه سيبويه أهم ما جاء في الكتاب.
ومن أهم ابتكارات الخليل علم العروض. فقد ساعده علمه بالموسيقى والأنغام في ابتكار هذا العلم الذي يعد الضابطة الرئيسة للشعراء.وقد شق الخليل فيه خمسةَ عشر بحرا مثبتا قواعدها وأجزاءها وتقطيعاتها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد ابتكر أيضا علم التعمية؛ حيث ألف كتابا بهذا العنوان وهو يدور حول تحليل الصوت وتشفيره.
وينقل المؤرخون ان هذا الأمر سهل للكندي اكتشاف طريقة لتحليل الشفرات عن طريق تحليل التكرار.
ويمكن أن نأخذ مثالا آخر للشخصيات العلمية الموسوعية هو ابن سينا الذي كان غزير المؤلفات والأعمال؛ فقد كتب في الفلسفة الإسلامية المبكرة وموضوعات المنطق والأخلاق والميتافيزيقا. فيما أصبح كتابه الشفاء في الطب مرجعا أساسيا للدارسين والأطباء، كما أصبح مرجعا طبيا رئيساً في أوروبا إذ ترجم الى اللاتينية بعد خمسين عاما فقط من تأليفه.
أما عينيته المشهورة في سبر أغوار النفس البشرية فتعد أول محاولة فلسفية ميتافيزيقية من نوعها كونه طرح فيها نظرية تتماشى مع الفكر الإسلامي والمنطق الميتافيزيقي. وذهب فيها الى ان النفس هي محور الوجود الإنساني. تتسم بالشفافية والحرية ومنزلها السمو وانها تكبلت بهذا الجسد الذي أصبح سجنا لها تقضي فيه ما يتوجب عليها من مدة لكنها بعد ذلك ترجع الى محلها السامي فيقول:
هبطت إليك من المحل الأرفعِ
ورقاء ذاتِ تعززٍ وتمنِع.
محجوبة عن كل مقلةِ عارفٍ
وهي التي سفرت ولم تتبرقعِ
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجعِ
أنفت وما أنست فلما واصلت
ألفت مجاورةَ الخرابِ البلقعِ
ثم يقول:
حتى اذا قرب المسير الى الحما
ودنى الرحيلُ الى العطاء الأوسعِ
سجعت وقد كشف الغطاء فأَبصرت
ما ليس يُدرك بالعيونِ الهجَّعِ
الى ان يقول:
إن كان أهبطها الإلهُ لحكمةٍ
طويت عن الفطنِ اللبيب الأروعِ
فهبوطُها لا شكَّ ضربةُ لازبٍ
لتعود سامعةً لما لم تسمعِ
وتكون عالمةً بكل خفيةٍ
في العالمين وخرقها لم يرقعِ
فكأنها برقٌ تألقَ بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمعِ
وله باع في الشعر العربي وقد ترك ديوانا هو منشور الآن؛ كما برع في الموسيقى كذلك.
وكون بعض العلماء القدامى كانوا موسوعيين فهو ليس بالأمر الغريب وفق ما يؤكد بيكيت قائلا (ان العلماء المسلمين كانوا متصوفة وإداريين وقضاة وعلماء فلك وأطباء وشعراء في الوقت نفسه).
وهذا يبرز الواقع الاجتماعي والبيئي الذي كانوا يعيشون فيه؛ فلقد رفدهم بالكيفيات والاحتياجات الضرورية للوصول للموسوعية.
وكما ان لدينا امثلة كثيرة للعلماء الموسوعيين لدينا أمثلة أيضا على العلماء المتخصصين: منهم الشريف الإدريسي الذي يعد أحد كبار الجغرافيين في التاريخ الإنساني، وهذا لا ينفي ولعه واهتمامه بالتارخ والأدب وعلم النبات والطب والفلك.وقد اضطره علم الجغرافيا الذي تخصص فيه الى السفر لبلدان متعددة ومتنوعة ولهذا كان يعاني من الغربة والابتعاد عن الوطن وقد بدا هذا الامر واضحا في أشعاره منها قوله:
ليـت شعــري أيـن قبـري
ضــاع في الغربةِ عمـري
لم أدع للعين ما تشتـــاق
فـــي بـــر وبـــحـر
والإدريسي أول من طور رسم الخرائط بطريقة أكثر دقة من الخرائط المعروفة؛ وذلك من خلاله تحديد اتجاهات الأنهار والمرتفعات والبحيرات. كما أنه ضمنها معلومات مهمة عن المدن الرئيسة وقد استخدم خطوط العرض في الكرة الارضية التي صنعها.
ويمكن أن نذكر أيضا في هذا الباب المقريزي المؤرخ المعروف
الذي اهتم بالتاريخ بكل نواحيه فأصبح مؤرخ الديار المصرية وهو من أعلام التاريخ كانت له دراية بمذاهب أهل الكتاب كما كان متبحراً في التاريخ على اختلاف أنواعه، ومؤلفاته تشهد له بذلك فقد احتل المقريزي مركزاً عالياً بين المؤرخين المصريين في النصف الأول من القرن التاسع الهجري.
وان يكن من أمر فان الموسوعية التخصصية هي المطلب الأول والشغل الشاغل للعلماء جميعا. فمن منهم لا يأمل أن تكون له موسوعية تخصصية في كل العلوم! وهو ما يدعو اليه القرآن الكريم لكن على كل نفس استطاعتها دون أن يثقل عليها شيئا فيقول (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها). لكنه في الجانب الآخر يرفع العلماء درجات تتلازم مع علومهم وعملهم فيقول (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). ويقول أيضا (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم).
وهناك آيات وأحاديث ترغب في طلب العلم منها قوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)، وقوله أيضا ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ). وكذا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (مَن خرَج في طَلَبِ العِلمِ، كان في سَبيلِ اللَّهِ حَتَّى يرجِعَ). وقال ايضا (طلَبُ العِلمِ فَريضةٌ علَى كلِّ مُسلِمٍ).
من أجل ذلك اشترط العلماء والمفسرون على مفسر القرآن أن يتقن على وجه التخصص خمسة عشر علما قبل أن يحاول تفسير القرآن الكريم.
فقال الراغب الاصفهاني ان المفسر يجب أن يتقن عشرة علوم وهي علم اللغة والاشتقاق والنحو والقراءات والسِّيَر والحديث وأصول الفقه وعلم الأحكام وعلم الكلام وعلم الموهبة. فيما جعلها شمس الدين الأصفهاني خمسة عشر علمًا وهي علم اللغة والاشتقاق والتصريف والنحو والمعاني والبيان والبديع والقراءات وأسباب النزول والآثار والأخبار والسنن وأصول الفقه والفقه والأخلاق والنظر والكلام. حيث ان تكامل هذه العلوم أشبه أن يكون شرطًا. ولأن الأمر صعب وأشبه بالتفرد فقلما تجد مفسرأ قد ألمّ بمقاصد هذه العلوم كلها. ولذا برزت لدينا مسألة الاتجاه والمنهج. فنرى المفسر لا يبدع إلا في مواضع العلم الذي تخصص فيه ليس إلا وهذ ما يسمى بالاتجاه فنجد ان بعض التفاسير على سبيل المثال اتجاهها لغوي وذلك لأن المفسر قد برع في علم اللغة فيما نجد بعض التفاسير اتجاهها فلسفي وذلك لأن أصحابها برعوا في الفلسفة وألموا بها إلماما كاملا.
وبهذا يتضح ان التخصص والموسوعية ليسا مصطلحين متضادين إطلاقا لأنهما مطلوبان كلاهما على مستوى العلم غير ان الجمع بينهما يمكن أن يكون الوسيلة الأنجع في الوصول الى مراتب العلم الأسمى وهذا العمل لا يمكن أن يقوم به فرد واحد فهو عمل مؤسسات ومجامع علمية.
ولكن ظاهرة خطيرة جدا ظهرت في العصر الحديث في ظل تطور الآلة التقنية وبروز وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات المتعددة الشخصية والجماعية. تتلخص بطرح بعض الأفراد لأنفسهم على أنهم علماء موسوعيون فيتكلمون في الطب والنحو واللغة والاقتصاد والسياسة والموسيقى والغناء وغيرها من العلوم والفنون.
وغاية ما في الأمر أنهم يرومون الشهرة وإرضاء ذواتهم المريضة التي تبين بما لا يدع مجالا الى الشك عقدة النقص التي يعانون منها. وهم يعلمون جيدا أن إدراك كليات العلم وجزئياته لا يمكن لأحد أن يحتويها مهما حاول. فما بالك بمن ادعى ذلك ادعاءً.
غير ان الأمر لا يقف عن حدود الرد عليهم وإبطال شبهاتهم. لأن هناك الكثير من الناس في مجتمعاتنا لا يملكون حظا وافرا من العلم والمعرفة فلا يستطيعون التفريق بين العالم والمدعي فيتأثرون بهم معتقدين أنهم علماء بحق. مما يزيد مشاكل المجتمع المعرفية والثقافية.
ومن أجل الوقوف بوجه هذه الظاهرة المنتشرة يجب أولا العمل على تثقيف المجتمع ليستطيع أن يفرق أفراده بين الحقيقي والمزيف وهو الحل الانجع. ومن ثم يجب سنّ قوانين معرفية تحمي بعض العقول البسيطة من التأثر بهم.
وخلاصة القول ان العالم المتخصص من وجهة النظر الأكاديمية المنهجية هو الهدف الأساس من وراء المعرفة العلمية. فالتخصص إنما هو نوع من النظر الفائق المتزايد في علم من العلوم دون النظر الى ما سواه ما يوفر مساحةً كبيرة لتطويره والإبداع فيه.
أما الموسوعية فهو بحث عام لا يخدم الوصول الى النتائج العلمية المرجوة. ومن خلال ذلك نستطيع القول ان كل عالم متخصص هو موسوعي ولا يصح أن يقول ان كل عالم موسوعي هو متخصص لأن العالم مهما بلغ من معرفته بالعلوم لا ينبغي له أن يخالف اتجاهه النفسي والعقلي.