الكوادر الإعلامية الشابة أثبتت دوماً قدرتها على التصدّي للمآزق وتخطّي الأزمات، وتقف على أعتاب الخطوط الأمامية في المواجهات، الحروب، والكوارث. من هنا، تظهر قوة المراسل الميدانيّ أو الإعلامي أو كلّ عامل في القطاع، من خلال، مثابرته، حنكته وجرأته وبراعته في جذب المشاهد نحو القصة أو الرسالة.
هذه الصفات أظهرتها المراسلة الميدانية والكاتبة غدي فرنسيس، ابنة الكورة، مذ أن بدأت مسيرتها الإعلامية.
صحافية ومراسلة ميدانية ومعدّة برامج وكاتبة لبنانية، حائزة على إجازة في علوم الحياة من الجامعة اللبنانية. شغلت عدة مناصب في الإعلام والصحافة. اذ بدأت مسيرتها المهنية في الكتابة الصحافيّة على عمر 17 سنة، في صفحة الشباب في جريدة السفير، وعدد من الجرائد المحلية كجريدة البناء والأخبار. اشتهرت بإعداد وتقديم وثائقيات كبرنامج “ميداني”. لها برامج في قنوات ومحطات عالميّة. تعمل في مجال التدريب الإعلامي من إنتاج، حملات، استراتيجيات إعلامية، استشارات وآليات النشر.
أين باتت غدي فرنسيس اليوم؟ وكيف ترى تطوّرات للبنان وقراءتها لأحوال المنطقة والعالم العربي؟ كلّ هذه التفاصيل وأكثر، أجابتنا غدي عليها خلال حوار خاص أجريناه معها، ننقله إليكم في ما يلي.
- “الحصاد”: للظلم أشكال عديدة. الظلم ضدّ المرأة، ضدّ الطفل، أو ضدّ الشعوب. كيف يساهم موقعك الإعلامي لمحاربته؟
- الإعلام مفهوم واسع جداً. خصيصاً في هذا الزمن، اذ لم يعد محدوداً بالإعلام السياسي أو الأخبار والوثائقيّات. فلكلّ صورة، طرح إعلاني، أو فيديو هو من أنواع الإعلام. فعدا عن كونه جزءاً كبيراً من الحياة البشرية، يصنع الإعلام واقعاً للشعوب ويشارك في صنع القرار والرأي في الحروب.
يرتفع صوت الإعلام بوجه أشكال الظلم حين ينطلق من الحقيقة المجرّدة، التي تنبثق من الواقع، بلا تفرقة أو ارتهان، ويعكس هذا الواقع بدون أجندة. من واجب كل مَن يعمل في القطاع الإعلامي مرئياً كان أم مسموعاً أو مكتوباً، أن يضع في حسبانه نقل الحقيقة دون تزييف أو تحريف. أسعى دوماً خلال عملي، إلى فضح الظلم ومواجهته، لا أتوارى عنه مهما كان الثمن.
بالنسبة إليّ، تبيان الحقيقة ونقل صورة المظلومين والمضطهدين على هذه الأرض ورفع صوت الحق عالياً من أسمى مبادئ المهنة، ويُستخدم لتنوير الناس عن ماهيّات الظلم وأبعاده.
- “الحصاد”: تتخذ الحروب، أنماطاً متشعبة جديدة، اذ نشهد طرائق شنيعة في أدوات القتل والتجويع والتخويف. ما هي الآليات الإعلامية المناسبة لمواجهة ذلك؟
- ثمة آليات عديدة لمواجهة أنماط الحروب اللاإنسانية، وأهمها التركيز على الحقائق الإنسانيّة، أي الإظهار الدائم أن البشر هم خلف العناوين السياسية والمشاريع الكبرى. فالمشاريع السياسية الخطرة تعتمد على تسييس الحروب، مثلاً من خلال إبراز الطفل على أنه جناح عسكري ويشكّل خطراً، ويحاولون نزع إنسانيته عنه. هنا، تكمن المشكلة الأساسية، ألا وهي نزع الإنسانية من مجتمع ما، كأن الأفراد هم مجرد أرقام، وموتهم أمر عادي، وأرقام الشهداء تحصى بالمئات وأكثر، أو استهداف المستشفيات والأطباء، دون أي رحمة. يواجه الإعلام هذا النمط من الحروب من خلال عكس الحكاية الحقيقيّة وتردادها على مسامع العالم، من خلال نقل الجانب الثقافي والحضاري والتاريخي للمنطقة وتسليط الضوء على الأسباب الحقيقية والأهداف الكامنة وراء هذه الحروب. وهي دائماً منذ بدء التاريخ، تكون الأسباب الحقيقيّة وراء الحروب تجليّات للأطماع.
وإن طرحنا سؤالاً: لماذا يُحارب شعب ما؟ تتم محاربته للاستيلاء عليه، وإخضاعه، لسرقة خيرات بلاده الغنية وتجريد أهلها من حريتهم وجعل أرضهم سوقاً للأجندات. هذه قوانين ممنهجة.
- “الحصاد”: في ظلّ العدوان على غزة، شهدنا النفاق والتهويل الإسرائيلي يسقط تباعاً. برأيك كيف ولماذا سقطت لعبة أكاذيبه؟
- سبب سقوط لعبة أكاذيب العدو الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر الماضي، هو اختلاف العصر اليوم، فحرب المعلومات لم تعد بإدارة قيادة واحدة مجنّدة نحو هدف واحد. الأساليب الذكيّة من الذكاء الاصطناعي والشاشات الصغيرة والكبيرة وقدرة مواقع التواصل الاجتماعي على ربط العواصم بالعواصم، والأشخاص بالأشخاص، آلت إلى تغيير النمط المعتاد في توجيه الرسالة والمعلومة، اذ لم تعد الحكومات تحتكر وتتحكّم بالمعلومات التي تصل إلى الشعوب، بذلك سقطت لعبة الأكاذيب.
إضافةً إلى ذلك، فلسطين باتت أقوى، منذ 7 عقود وأكثر، عانت من هذا الاحتلال المجرّد من الإنسانية، لكن اليوم اختلفت موازين القوة، والشعب الفلسطينيّ بات أكثر خبرة في مجابهة ومواجهة هذا العدوان.
“فقدت الحكومات احتكار الرواية والإعلام فسقطت لعبة الأكاذيب والرواية المزيّفة”.
- “الحصاد”: ينازع قطاع غزة تحت وطأة الحصار الشامل لا كهرباء، لا طعام، لا ماء ولا غاز منذ بدء العدوان الإسرائيلي. كيف تقرئين الأشهر المقبلة لغزة؟
- كلّما نقول غزة نقول آلام، وكذلك نقول كم تترافق مع غزة وشعبها استعدادات وأفعال هائلة من الصمود والثبات والإصرار على الحياة. فلدى أهل غزة قدرة أبهرت العالم في الإصرار على الحياة والمواجهة، والإصرار على الدفاع عن الإرث والعِرض والأرض والبلاد والبحر! هذه هي غزة التي أراها صامدة وشامخة.
أمّا المشهد السياسي، فالعدو مجرم ومتوحّش ولا يخشى جريمة الإيادة الجماعيّة، لذلك أنا لا أستطيع توقّع سوى الأسوأ.
- “الحصاد”: وللبنان؟
- لبنان جزء من هذه المواجهة بغض النظر عن كيفية تغليفها. فنحن جزء منها لأن العدو واحد، أطماعه في غزة تتشابه إلى حدٍّ كبير مع أطماعه في لبنان. نحن جزء من هذه الأمة، والاحتلال يعمد إلى قتلنا بالهوادة والطريقة نفسهما. لذلك، فلسطين ولبنان في الخندق عينه للمواجهة، لكن تختلف آليات الدفاع والمواجهة، كما تختلف مقوّمات إدارة الحرب على لبنان.
لبنان يواجه هذه الحرب إلى جانب أهلنا في غزة انطلاقاً من هويته القتالية، والسياسية، وتجربته على مرّ العقود مع العدو.
- تجسّدت بأهالي غزة كلّ معالم الإيمان، في الرضا والصبر والثبات والعزة. ماذا تقولين لأهالي غزة من نساء ورجال وأطفال؟
- روحي لهم الفداء، يا ليت لو أنني معهم، لا أشاهدهم من الشاشة، ليتني أموت معهم ولا أرى موتهم. أتمنى لو أني ذهبت إلى غزة ولم أعد، ولم أعش لأرى ما يحصل اليوم وما تشهده غزة الحبيبة.
عشت بينهم 6 أيام في 2013، تلمّست الطيبة والعزة في تعاملهم. أهل غزة مدرسة في العنفوان والكرامة، تعلّمت منهم الكثير. أكثر ما يحزنني أنّ كل ما ومَن رأيته يوماً، لم يعد كما كان، مشهد حزين. من الصعب استيعاب ما يحدث على أرض غزة وما يعيشه أهلها. هذه ملحمة مؤلمة لم يشهد مثلها التاريخ!
- وللجنوبيين في لبنان، ماذا تقولين؟
- للجنوبيين أقول، شكراً. شكراً لكم لأنكم براءة لبنان من تهمة اللاإنسانيّة. أهل جنوب لبنان هم “الحجّة” أننا لم نترك فلسطين تعاني وحدها، وهم عزّتنا أن لبنان لم يبع ولم يتخلّ.
“أتمنى لو ذهبت إلى غزة ولم أعد، ولم أعش لأرى إبادتها وأهل جنوب لبنان هم “الحجّة” أننا لم نترك فلسطين وحدَها، وهم عزّتنا أن لبنان لم يبع ولم يتخلّ”.
- “الحصاد”: في سياق منفصل، أخبرينا عن موقف، أو قصة حدثت لك أثناء العمل الميداني كمراسلة ولا تزال عالقة في ذهنك.
- ثمّة الكثير من المواقف والأحداث التي أتذكرها وتتردّد إلى بالي مراراً، لكن غالباً ما تُذكر المواقف الخطيرة والإنجازات الكبيرة.
أتذكر غزة، في مثل هذه الأيام، التي أمضيتها في فيها. أتذكر كلّ الوجوه، صورهم ما زالت عالقة في ذاكرتي، الأصوات، رائحة الأرض، المسجد، سوق الذهب، البحر، سوق الخضار في مخيم جباليا، مزارعي الفراولة.
غالباً ما يتذكّر المراسل كلّ ما يؤلمه، وأنا كلّ ما نقلته خلال تغطيتي في غزة يوجعني ويؤلمني!
- ما سبب ابتعادك عن الإعلام المحلي؟ وهل من عودة قريبة؟
- خلال مسيرتي في الإعلام لم أطمح يوماً للعمل وفق برنامجٍ أو هدف معينين، لطالما كانت خطواتي تنبع من قناعتي، أعيش التجارب بشفافية. وفي الإعلام المحلي كان لذلك أصداء جيدة، لكن التطور أمر محتوم على كلّ فرد. أنجزت طيلة فترة عملي في الإعلام اللبناني كل ما طمحت لإنجازه، واليوم أرى أن العمل الإقليمي أوسع وأشمل ومحطّ اهتمامي.
- “الحصاد”: اختلفت معايير المهنة اليوم عن السابق. ما هي برأيك أهم المعايير التي تتلاءم مع السوشيل ميديا؟
- السوشيل ميديا بلا معايير! تتشابه مع الواقع المجتمعي اليومي العادي البسيط. فمن يطمح لشهرة يمكنه ذلك عبر اختيار أي مجال يبرع فيه.
- “الحصاد”: أطلقت منصة بالمباشر، ببرنامج بالشخصي، أخبرينا عنه.
- انطلاقاً، من مبدأ أن لا معايير لمنصات ومواقع التواصل الاجتماعي أو أطر تقليدية للمهنة الإعلاميّة ونستطيع إجراء حوارات بأي صيغة ممكنة، ارتأيت أن طرح منصة بالمباشر الآن!
البرنامج عبارة عن لقاءات ونقاشات مع شخصيات بارزة في مجالاتهم السياسية والجغرافية والدولية.