ميخائيل نعيمة : الصراع بين الروحيّ والجسديّ انتهى به إلى العزلة التّامة

كان آخر ما أملاه  ميخائيل نعيمة على ابنة شقيقه من شذرات  :” القدر هو ما تُقدّره لنفسك في أعمالك وأقوالك وأفكارك ونيّاتك وشهواتك، في هذه الحياة وفي حيوات سابقة “.

” نور الحقيقية للنفس كنور الشّمس للعينين”.

 لم  يتوقف نعيمة عن الكتابة إلّا في عمر الرابعة والتسعين، أي بعد أن خارت قواه الجسديّة، وزاد ارتجاف يديه وشحّ نظره، رغم أن ذهنه  كان على درجة عالية من التوقّد.

فارق نعيمة الروح في الثامن والعشرين من شباط من العام ١٩٨٨، غفا وهو يحمل كتبه بين يديه بسلام داخليّ، وصل إليه بإرادة التّخلي عن كل ما يُعكر صفو وحدته التي آثرها على ضوضاء عواصم العالم الصاخبة، في فيئ الصخرة التي دُفن إلى جوارها، الصخرة التي ظلّله في رحلة الحياة ولم تُفارقه خلال الغياب.

إذاً من هو كاتب “سبعون” و”الغربال”، ولماذا لم يتزوج وعاش كناسك آخر حياته مُتفرغاً للأسئلة الوجودية تاركاً لنفسه خيارات التًّوحد في الكون والطبيعة والكتابة ؟ وهل ” النهر المتجمد” جزء من مشهد التواري خلف الصخرة في الشحروب؟

يقول نعيمة :” الدّرس الذي علمّتني إيّاه الغربة، هو أن لا غربة في الكون على الإطلاق، سوى غربة الإنسان عن ربّه وغربة الإنسان عن نفسه “.

ناسك الشحروب هو اللقب الّذي أطلقه عليه توفيق يوسف عواد، بعد أن أجرى معه حواراً في صحيفة ” البرق” التي كان يرأسها الأخطل الصّغير، فصار اللقب أسبق من الإسم نفسه .

يُعتبر نعيمة من مؤسسي الرابطة القلمية التي نشأت في نيويورك ، والتي كان يرأسها الأديب جيران خليل جبران صاحب كتاب النبيّ مع مجموعة من كتّاب المهجر .

وكان نعيمة من أكثر الكُتاب صلة بالثقافات الأخرى، ولا سيّما الغربية، إضافة لاهتمامه الكبير بالأدب الروسيّ والأميركيّ. فكانت له مؤلفات بهاتين اللغتين إلى جانب كتاباته باللغة العربية،  وقد تنوعت إصداراته لتشمل جميع المجالات ومنها المسرح والفلسفة والشّعر والنثر والقصص على أنواعها .

وصف نعيمة في ” سبعون”  سيرة حياته  في مراحلها الثلاث، ظروف الحرب والسلم، غطرسة السلطة العثمانية وصولاً إلى الانتداب الفرنسيّ ومرحلة الاستقلال .

وُلد نعيمة في منطقة بسكنتا، من عائلة متواضعة تعيش من الزراعة، فلم يكن سهلاً على أب وأم لسّتة أولاد تأمين متطلبات العائلة، خاصةً في ظل فرض العثمانيين للضرائب على الفئات المغلوب على أمرها .

درسَ نعيمة المرحلة الابتدائية بصعوبة بالغة قبل أن ينتقل ليواصل تعليمه في المدرسة الأرثوذكسية الروسية في مدينة الناصرة في فلسطين، فكدّ واجتهد وابتعد عن كل ما له علاقة بالمرأة والحياة العاطفية حتى لا يواجه مصير الطرد كبعض زملائه، فارتبطت حياته سواء في لبنان أو الناصرة بالمشاكل السياسية والانكماش العاطفي حيث لم يترك نفسه لهواه، فكانت المرأة مجرد حلم بعيد، لا يسعى للوصول إليه، إذ كانت غايته القصوى تحصيل العلم وتغيير واقعه الاجتماعيّ وتغيير الذات . برع نعيمة بإتقان اللغة الروسية وتعمق في الأدب الروسيّ الذي استهواه، وقد منحه تفوقه الدّراسيّ فرصة الانتقال من خلال بعثة دبلوماسية إلى روسيا حيث أحرز شهادة عليا، وقد كتب خلال فترة إقامته قصائد وطنية تُلهم المستضعفين، التحرّر  من الفقر والعبودية والانطلاق كالنهر في الحياة. وقد دوّن نعيمة مذكراته بالّلغة الروسية وطالع معظم كتّابها، وتُعتبر فترة بوليفيا من أهم المراحل على صعيد الغنى الأدبيّ والفكريّ والفنيّ والبحث عن رؤيا جديدة للحياة.

وفي روسيا تحديداً عاش قصة حب مع ” فاريا” وهي امرأة متزوجة وقد استمرّت هذه العلاقة لسنوات قبل أن تنتهي بفشل الزواج بين العاشقين .

وكانت هذه القصة واحدة من المغامرات التي عاشها مع نساء متزوجات، على الرّغم من ادّعائه التصوف والنسك ورفضه لفكرة الزواج والإنجاب .

لم تكن حياة نعيمة في أميركا سهلة، لكنّها كانت غنيّة من الناحية العلمية والفكرية، فبعد أن تعلم اللغة الإنكليزية انتسب نعيمة إلى جامعة واشنطن حيث درس الأدب والحقوق ، وبدأ في كتابة المقالات وعمل بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى في السفارة الروسية فاستطاع إنقاذ أهله من العوز والجوع .

وفي سنته الجامعية الثالثة،استطاع نعيمة بناء نظرية فلسفية في الكون والحياة، بعد انتمائه لجمعية صوفية ، تعتقد بالتقمص والثواب والعقاب وفي التّعاليم الباطنية، وقد اندهش من التقارب القائم بين الأديان السماويّة وغير السّماوية، وقد طبعت هذه المرحلة مختلف كتاباته الّلاحقة .

أصبح نعيمة معلماً ماسونياً لفترة بعد انضمامه إليها عند تأثره بكتاب قرأه عنها، لكنّه انسحب منها تدريجياً بسبب عدم انسجامه مع أعضائها الذين يهتمون بسطح الأشياء لا بعمقها كما هو الحال معه، وهذا ما ظهر على سلوكه وأفكاره وميوله، إذ كان يتعامل مع الحياة في أعماقها الأخيرة لا في سطوحها ويرى إلى الإنسان كلغز وجوديّ، لا كمرور عابر.

وقد أخذه التأمل إلى السكينة، وبالتّالي إلى نوع من السلام الدّاخليّ، حتى أثناء الحرب العالمية الأولى التي كان فيها جندياً على الجبهة ومُتعباً من كل الاحتمالات الطارئة والتي لا تشبه أحلامه الشّعرية ولا القصصيّة.

في العام ١٩٢٠ وبهدف التجديد في الأدب العربيّ والثورة على التقليد ، ألّفت كوكبة من الأدباء الشباب في المهجر الرابطة القلمية وقد كان نعيمة أمين السّر فيها ، وكان يرأسها الأديب جبران خليل جبران، وكانت تضم أيضاً كل من عبد المسيح حداد، نسيب عريضة، ندرة الحداد وغيرهم، وقد انضم إليها فيما بعد إيليا أبو ماضي، مع استثناء أمين الريحاني بسبب خلافه العميق مع جبران .

وكانت الرابطة تُعنى بنشر مؤلفات عمّالها والكتّاب المُستحقين، وترجمة المؤلفات المهمة من الآداب الأجنبية ومنح جوائز ماليّة تشجيعاً للأدباء . لكنّها ظلّت عاجزةً عن تحقيق أهدافها .

أمّا عن كتابات أدباء الرابطة في مجلة الفنون ومن بعدها السائح،  فقد لقيت استحساناً في الأوساط الأدبية في المهجر .

أرهقت الغربة ميخائيل نعيمة، فأخذه الحنين إلى لبنان وتحديداً إلى قريته، فغادر أميركا في نيسان من العام ١٩٣٢بعد أن أمضى فيها عشرين عاماً من عمره .

بدأ نعيمة باستعادة ذكرياته في بسكنتا والهروب إلى المستقبل كجزء من صوت الماضي، وإثر عودته وخلال حفلٍ تكريميّ استهلّ كلمته مُخاطباً أبناء بلدته بالقول :” يا أبناء بسكنتا ، يا لحمي ودمي ، منذ عشرين سنة أدَرتُ وجهي إلى البحر وظهري إلى صنين ، واليوم صنين أمامي والبحر ورائي، وأنا بين الاثنين في عالم جديد، كأنّني وُلدتُ ولادة ثانية”.

لم يمتهن نعيمة منذ عودته إلى لبنان سوى الكتابة وحدها، إضافةً إلى التأمل والتّفكير، واستطاع في خلوته في” فلك نوح” ، إصدار ” البيادر” و” مرداد” و” جبران خليل جبران” ومن بعدها ” كان ياً ماكان”، ونشر كتاب ” الغربال”  في القاهرة وهو عبارة عن مقالات نقدية، وقد وضع المقدمة عباس محمود العقاد.

إضافةً إلى مجموعة شعرية هي” همس الجفون ” وقد ضمّت قصائد بالعربية والإنكليزية، فضلاً عن ” النّهر المتجمد ” التي كتبها بالروسيّة، وقد لاقت رواجاً في المهجر والبلدان العربية ، إضافة إلى مجموعة قصصية تحت عنوان ” لقاء” تبرز فيها معتقداته الصوفيّة بما فيها التقمص .  و” صوت العالم ” والتي تظهر فيها محنة الإنسان في العالم المعاصر .

أمّا الجزء الأول من كتابه ” سبعون “، والذي أصدره تزامناً مع بلوغه عمر السبعين فهو يؤرخ للمرحلة الأولى من حياته، ومن ثم أصدر الجزء الثّاني والثالث ليؤرخ من خلالهما باقي حياته . إضافة إلى عشرات الكتب الأخرى .

ولعلّ أجمل ما قاله نعيمة بعد اندلاع الحرب العالمية الثّانية : ” غداً تضع الحرب أوزارها القديمة ، وفي مكان من بلاد ما يجتمع جمهرة من زعماء الأرض .. فيضعون معاهدات للسلام ويُصبح للنّاس معاهدات سلم ولا سلم”.

لم يُغادر نعيمة لبنان بعد عودته إليه، إلّا في مناسبات قليلة وفترات وجيزة، وذلك بهدف إلقاء محاضرات أو الاشتراك في مؤتمرات، وقد أقيمت له العديد من حفلات التكريم في لبنان والخارج، ونال دكتوراه فخرية أيضاً من جامعة واشنطن ، إضافةً إلى نيله جائزة ” جواد بولس” قبل وفاته .

إستطاع نعيمة أن يجد الحب داخله ويحصده في نفوس الآخرين، ولعلّ أجمل ما قاله : ” أنّه كان يتحتم عليه التوفيق بين نظرته إلى الإنسان كبذار الٓهي ينمو ويتطوّر نحو الكمال الربّانيّ، وبين البشاعات والجرائم التي يرتكبها في هذه الفترة من نمّوه وتطوره”.

من هنا قراره اعتزال الصخب والزواج والإنجاب والتفرغ للأسئلة الوجودية والتسابق مع الذات للوصول إلى السّماء دون تبعات تُذكر سوى كلمات تُحلق كالمصابيح لتُضيئ عتم الأرض وشقاء الإنسان .