المسرح يطرح الهمّ الفكري بأسلوب هزلي وفني

بيروت ـ  لارا ملاك

مسرحيّة الفنّان والمخرج المسرحيّ سليمان زيدان »أنا مبسوط إنّي ميّت« مثّلت لبنان في أسبوع المسرح للشباب العربيّ في المغرب.

سليمان زيدان: المسرح هو الفنّ الّذي يستطيع طرح الهمّ الفكريّ بهزليّةٍ وفنيّةٍ جميلة.

فنّان متعدّد المواهب، هو شابٌ عربيٌّ لبنانيّ. حاصلٌ على إجازةٍ في الفنون المسرحيّة من الجامعة اللبنانيّة، وهو يتابع تحصيله العلميّ الأكاديميّ في هذا المجال لحيازة شهادة الدّراسات العليا. لديه خبرته الموسيقيّة في الغناء والتأليف والعزف على أكثر من آلةٍ موسيقيّة. شارك في العديد من المسرحيّات والأعمال الثقافيّة إخراجا وتمثيلا، غناء وتلحينا. عمل مع أعلامٍ في هذا المجال مثل السيّدة نضال الأشقر والفنّان القدير منير كسرواني.  له مساهماته في تطوير آلة العود، وفي استخدام الموسيقى في علاج الّذين يعانون من التلوّث الضجيجيّ في مناطق النزاعات المسلّحة.

أسّس عدّة فرقٍ موسيقيّةٍ تضمّ شبابا موهوبين منها فرقة »معنا«، وساهم في تفعيل دور بيروت الثقافيّ من خلال أكثر من حفلٍ موسيقيٍّ نظّمه ووضع فيه من خبرته الموسيقيّة والمسرحيّة. لا تغيب صفة البحث عن أعماله، تراه جاهدا يبحث في الفكر الإنسانيّ، وفي الفكر الإلهيّ والوجود الأكبر، له لذلك العديد من الأغنيات الصوفيّة.

نشاطه الفنيّ تعبيرٌ عن التجربة الإنسانيّة ومحاولةٌ حثيثةٌ للدخول في عمق الهموم الفكريّة والمعرفيّة الّتي تثقل كاهل كلّ مثقّفٍ وكلّ باحثٍ شغوف.

لنسلّط الضوء على هذه الموهبة الفنيّة الشاملة والشابّة، وعلى حدث المشاركة في أسبوع المسرح للشباب العربيّ لهذا العام، كان للحصاد لقاءٌ بسليمان زيدان.

»الحصاد«: أنت شابٌ متعدّد المواهب، إلى أيّ مدى يرضي المسرح هذا التنوّع لديك؟

01
سليمان زيدان مخرج مسرحي وموسيقي

سليمان زيدان: المسرح جامعٌ للفنون الّتي أتقنها، ولأنّني شغوفٌ بالموسيقى والتّمثيل والتأليف والإخراج، يمثّل لي المسرح التكامل الّذي أبحث عنه في سبيل إرضاء شخصيّتي الفنيّة وتطوير ما أنا عليه. من يتابع عملي يراني على المسر

ح ممثّلا ومخرجا وكاتبا للنصّ، كما يتعرّف بموهبتي الموسيقيّة لأنّني وفي الإطار المشهديّ أغنّي أحيانا، ويكون التأليف الموسيقيّ مهمّتي وحدي.

»الحصاد«: أليس لهذا التنوّع في العمل الفنيّ جانبٌ سلبيٌّ أو تأثيرٌ يتعبك أحيانا؟

سليمان زيدان: لا أعتقد أنّ لهذا التنوّع جانبا سلبيّا، لكنّ التأثير العكسيّ يتمثّل في الوقت المضاعف الّذي يحتاجه العمل الفنيّ حتّى يتمّ ويبصر النور. أمضي أكثر من سنتين في إتمام عملٍ مسرحيٍّ واحد، لأنّ التكامل بين كلّ المهام والأدوار الّتي أقوم بها أساسيٌّ لنجاح العمل. كما لا بدّ أن التفاصيل حقّها كي لا أقع في أيّ خللٍ أو هفوة.

»الحصاد«: لمَ هذا الهمّ الوجوديّ الفكريّ في تعبيرك الفنيّ؟

سليمان زيدان: الفنّ يخدم إنسانيّة الفرد، وهو خدمةٌ للفنّان الّذي يبحث في العالم وفي أعماق نفسه. كلّما زاد البحث كبر الهمّ الفكريّ، لذلك طرحتُ مثلا موضوعاتٍ كالحياة والموت والفكر في مسرحيّتي الأخيرة »أنا مبسوط إنّي ميت«، بطريقةٍ فنيّةٍ مسلية.

»الحصاد«:  »أنا مبسوط إنّي ميت« عملٌ مسرحيٌّ لك، عُرض للمرّة الأولى منذ سنتين في بيروت وسيُعاد عرضه في آخر هذه السنة في لبنان أيضا، حدّثنا في مضمون هذا العمل وفي القضيّة المطروحة فيه.

سليمان زيدان: هذه المسرحيّة من الأعمال الأحبّ إليّ، لأنّها تمثّل الكثير من الأفكار ذات الأهميّة في الطّرح. اقتبستها عن الكاتب الفرنسيّ موريس دو كوبرا.  الحياة والموت مسألةٌ مصيريّةٌ يطرحها الكاتب دو كوبرا في عمله، أضفتُ إليها قضايا فكريّة مختلفة وجديدة تعبّر عنّي وعن رؤيتي. يتمحور العرض حول بروفيسور يتوصّل إلى اكتشافٍ طبيّ، ويعيد الحياة إلى عددٍ من الموتى. كلُّ واحدٍ منهم يتمنّى العيش مرّة جديدة ليتمّ ما لم يستطع أن يكمله قبل موته. لكن في النهاية يكتشف كلٌّ منهم أنّه غير راضٍ عن نفسه وعن واقعه في الحياة وفي الموت. يُلقى اللّوم على البروفيسور، تصبح تهمته الحياة ويُعاقَب عليها بالموت. لكنّني حمّلت المشاهد المسرحيّة مضامين جديدة، فأضفتُ شخصيّة الكاتب، وهو يؤلّف كلّ الأحداث التي تدور على الخشبة ويتفاعل معها، ويثبت في النّهاية أنّ الفكرة لا تموت وإن مات صاحبها. مؤلّف الفكرة ليس ممسكا بها إلى الأبد، ومكتشف الحقيقة ليس مالكها. الإنسان فردٌ زائل، لكنّ الفكر مستمرٌّ أبدا.

»الحصاد«: إلى أيّ مدى تستخدم الرّموز في العمل المسرحيّ للتعبير عن الفكرة النهائيّة المجرّدة؟

سليمان زيدان: نعتمد في المسرح السيميائيّة، فالرموز والدلالات ضروراتٌ معنويّةٌ وشكليّةٌ جماليّة. القبر في مسرحيّتي رمز، والحياة رمز، والموت أيضا. الموت مثلا هو الموت المعرفيّ والفكريّ. وإعادة الحياة للناس لا تعني خلاصنا من موتنا، في حين أنّ الكتابة رمز الفكر الّذي لا ينتهي.

السيميائيّة تفتح دوما الآفاق لخلق ما هو جديد، وللانتقال من كلّ ما هو منظور ومدرَك إلى كلّ ما هو غير منظور، لكنّه الغاية وصاحب القيمة الأسمى والأكبر. كما أنّ التداخل المشهديّ المتعمّد يُدخل المشاهد في عمق الحبكة الفكريّة الّتي تتجسّد على المسرح وتتجلّى دوما في الحياة الواقعيّة.

»الحصاد«: يلفتنا في المسرحيّة دور المجنون »المبسوط« في موته، لمَ اخترتَ المجنون شخصيّة محوريّة، وكيف ساهم ذلك في خدمة العمل؟

سليمان زيدان: المجنون في الواقع أو من يُتّهم بالجنون هو العاقل فعليّا، أو الّذي يقارب الواقع بمنطقٍ بالغٍ وموضوعيّةٍ وشفافيّةٍ ومن دون مواربة، ليخالف بذلك طبيعة الناس الذين ينظرون إلى الحقائق بطريقةٍ تقليديّة. كلّ خروج عن النّمط التقليديّ هو جنونٌ في نظر العامّة، لهذا يُتّهم الفنّان بالجنون، لأنّ التقليد لا يُرضيه، من هنا يكون مبدعا في مجاله. نلاحظ أنّ شخصيّاتٍ كثيرة ومؤثّرة مرّت في تاريخنا اتُّهمت بالجنون، منها العبقريّ »أخوت شانيه« الّذي قدّم الحلول للكثير من الأزمات الّتي عرفها محيطه. ونلاحظ أنّ الحكم والأمثال في تراثنا الشعبيّ تمرّ على لسان شخصيّةٍ هزليّةٍ أو مجنونة تُدعى في تراثنا »جحا«، ولكلّ شعبٍ »جحا« يخصّه ويعبّر عن تاريخه وتجاربه الإنسانيّة المتراكمة.

02
سليمان زيدان مع عدد من فريقه في مشهد مسرحي

»الحصاد«: الهزل من أهمّ الوسائل الفنيّة في هذا العمل إضافة إلى الموسيقى، كيف جمعتَ بين قضيّةٍ وجوديّة وبين الهزل والمرح؟

سليمان زيدان: الموت والحقيقة والفكر موضوعاتٌ صعبة الفهم، وقد تكون ثقيلة على ذهن المشاهد ووعيه. لذلك من الضروريّ إحداث دهشةٍ فنيّةٍ تشدّه لمتابعة الأحداث، وليصير أكثر قدرة على تلقّف الفكرة الّتي أسعى إلى إيصالها. اللّحظة الكوميديّة هي لحظة الصّدمة أو لحظة المفارقة الّتي يتحيّر العقل في التفاعل معها فلا يكون أمامه إلّا أن يضحك. من غير الممكن أن أقترح فكرة جديدة من دون المفارقات الّتي تصنع الحدث على المسرح وتثير الدّهشة والضحك. وتنعكس الهزليّة في العنوان، وهي عبارةٌ تتردّد على لسان المجنون، وهو الأكثر قدرة على صنع المفارقات التي تأتي من التقاطع بين المنطق الصّارم الثابت، والواقع المتقلّب. أمّا بالنسبة إلى الموسيقى فهي عنصرٌ مكمّلٌ للفنيّة وللعمل ككل، لأنّها تُسهم في زيادة التفاعل بين الممثّلين والجمهور، وتزيد من الإحساس والرّهافة في الحركة.

»الحصاد«: »أنا مبسوط إنّي ميت« مثّلت لبنان في أسبوع المسرح العربيّ للشباب الّذي نظّمته جامعة الدول العربيّة في المغرب مؤخّرا، كيف تلقّى الجمهور العربيّ هذا العرض، وكيف تفاعل معه؟

سليمان زيدان: كانت تجربة عربيّة مشتركة ساهمت في التلاقي بين شبّانٍ وشابّات من عدّة دولٍ عربيّة. تابعنا عروض بعضنا، تبادلنا الخبرات والآراء. وقد ناقشنا  العروض في جلسة مناقشةٍ نقديّة، وأفدنا من جميع الآراء. أحبّ المشاركون وكذلك اللجنة عملنا من ناحية النصّ والموضوع والموسيقى. وحاز العمل على جائزة أفضل سينوغرافيا مسرحيّة، مع العلم أنّنا ابتكرنا عناصر الديكور مباشرة قبل العرض لغياب الدعم التقنيّ. لكنّني استطعتُ توظيف كلّ عنصرٍ على الخشبة في مكانه الصّحيح. وحازت كلٌّ من الممثلة مروة دندن  والممثلة إليسار نافع على جائزةٍ تقديرا لتمثيلهما الجميل وموهبتهما.

»الحصاد«: ما هي الحواجز والصعوبات التي تقف اليوم في طريق عملك؟

سليمان زيدان: الصعوبات الأساسيّة الّتي يعاني منها الفنّانون بالإجمال في مجتمعنا، هي بالدرجة الأولى المحاربة الممنهجة للفكر والفنّ. الدعم غائبٌ عن القطاع المسرحيّ، فالدولة اللبنانيّة لم تؤمّن لنا أدنى ما كنّا نحتاجه لإتمام عرضنا في المغرب مثلا. لم تقدّم لنا الوزارات المعنيّة حتّى مكانا لائقا لنتمرّن فيه. ولم يرافقنا فريقٌ من التقنيّين، بعكس كلّ الوفود العربيّة المشاركة الّتي كانت حالها أفضل. كنّا نحن التقنيّين والمنظّمين ومصمّمي الدّيكور ومعدّلي الإضاءة، ممّا شتّت تركيزنا على النصّ. لعلّ هذا يندرج في السياسة القائمة لقتل الفكر، ولخلق ثقافة الفراغ وصولا إلى الانحدار والاضمحلال. لكن يبقى لنا كفنّانين فنّنا ورسالتنا، وإيماننا بالفكر وبأنفسنا وبدورنا الثّقافيّ.