من العسير نظرياً وواقعياً عزل موضوع المعارضة العراقية عما ساد تاريخياً على المستوين الآديولوجي والسياسي العالمي في حقبة الحربين العالميتين الأولى والثانية , ليس على الصعيد العسكري إنما على المستوى الصراع الآديولوجي ما بين الرأسمالية في القطب الأمريكي والماركسية في القطب السوفييتي ودولته وأتباعه من الأنظمة الشيوعية . كانتا أمريكا اللاتينية والمنطقة العربية مجالاً حيوياً لتلك النشاطات الفكرية والآديولوجية والعسكرية .
الحزب الشيوعي العراقي كان واحداً من أهم الأحزاب العراقية بل أسبقها في الوجود التنظيمي في المناطق العراقية الفقيرة بالجنوب والوسط . مع هذا الاستقطاب المهم والغطاء الذي تقدم العامل الدولي لكن النتائج لم تكن إيجابية حيث ظروف قضية فلسطين التي أغتصبها المحتل الإسرائيلي واعتراف الاتحاد السوفييتي بدولته ترك آثاراً سلبية كبيرة على انحسار جمهور هذا الحزب داخل العراق لحساب التنظيمات القومية العروبية في مقدمتها حزب البعث والاستقلال وغيرهما .
من الطبيعي أن سادت تلك الحقبة الصورة الآديولوجية المتقابلة ما بين القومي والوطني الديمقراطي داخل العراق وأن تطبع هذه الحالة فترة زمنية غير قليلة في الحياة السياسية العراقية . كانت معارضة تلك الأحزاب للنظام السياسي الملكي قبل عام 1958 تتركز على عمالة ذلك النظام للاستعمار قبل مطالبات الحياة المعاشية التي كانت بسيطة وليست بذلك الزخم والتوتر الذي حصل في المراحل اللاحقة بعد القضاء على ذلك النظام بانقلاب دموي قتل ظلماً العائلة المالكة حيث أخذت الآراء العامة بعد إسقاطه دموياً تصف صانعيه بالابتعاد عن الروح الوطنية .
كانت هناك تقاليد وأخلاقيات صارمة للعمل الوطني السياسي، والبرامج السياسية الواضحة لأي حزب أو حركة تدفعه إلى التحالف الجبهوي مع حزب آخر، وهكذا نشأت الجبهة الوطنية العراقية عام 1954 بين حزب البعث وحزب الاستقلال والحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني ضد النظام الملكي العراقي الذي استند على أول انتخابات تشريعية ديمقراطية عام 1923، كما تشكلت الجبهة الوطنية التقدمية لدعم حكم البعث عام 1973 وكان الحزب الشيوعي أبرز أطرافها برعاية سوفييتية .
التطور المهم والصراع ما ببن الأحزاب الشيوعية والقومية دعا الى انحسار نشاطاتها العامة استمر هذا الحال لحين انقلاب يوليو 1968 حيث انفرد حزب البعث بالحكم على حساب الحزب الشيوعي الذي دخل معه معركة طويلة انضمت اليه فيما بعض الأحزاب المتضررة .
هذا السياق التاريخي مهم توضيحه لكي تكون الصورة العامة للمعارضة العراقية تمثل الواقع الحقيقي . قبل القفز على ما سمي ” معارضة عراقية ” صنعتها أجهزة مخابرات إقليمية ودولية خلال الحرب العراقية 1980-1988 وما بعدها ركبت مشروعها فيما بعد في التسعينيات واشنطن حين تبور برنامجها لتغيير نظام الحكم في العراق , كانت تلك المعارضة العراقية واجهة سياسية وإعلامية لذلك الهدف الذي لم يلتق مع تطلعات شعب العراق .
ساعدت بصورة غير مباشرة سياسة نظام صدام حسين على قيام معارضة عميلة لطهران نفذت العمليات الانتحارية بالتفجير والتخريب خلال سنوات الحرب العراقية – الإيرانية، في أول تسويق لهذا النمط الإرهابي في العراق والمنطقة، الذي واصله في ما بعد تنظيما القاعدة وداعش. وبرر النظام السابق عدم استجابته لدعوات الوطنيين العراقيين بقيام نظام ديمقراطي تعددي بحالة الحرب الاستثنائية وعمالة أحزاب الإسلام السياسي وبعض القادة الكرد لطهران. لو تحققت خطوة التعددية لما سمعنا اليوم بحزب الدعوة أو المجلس الأعلى وسلسلة العناوين التي تجاوزت أعدادها المئة.
غالبية هذه التنظيمات كانت بنادق قتل مأجورة تتعارض عملياتها الإرهابية مع أبسط حقوق الإنسان. يتذكر المعاصرون لفترة الثمانينات سلسلة التفجيرات الانتحارية لمقرات إعلامية ودبلوماسية بينها تفجير سفارة العراق في بيروت عام 1981، التي نفذها حزب الدعوة وقيل المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة محمد باقر الحكيم قتل في السلعات الأولى من الاحتلال العسكري للعراق .في عملية بيروت الإرهابية قتل 60 موظفا مدنيا، بينهم السفير عبدالرزاق لفتة والمستشار الصحافي حارث طاقة وبلقيس الراوي زوجة الشاعر نزار قباني، التي رثاها في قصيدة مؤثرة:
بلقيس.. كانت أجمل المَلِكات في تاريخ بابل
بلقيس.. كانت أطول النَخْلات في أرض العراق
يا امرأة تُجسّد كلّ أمجادِ العصور السومرية
قتلوكِ في بيروت مثل أيةِ غزالة من بعدما.. قتلوا الكلام
عام 2003 لمنع قيام معارضة مدنية جدية كان مرشحاً لها فاقد السلطة حزب البعث تم اجتثاث أعضائه وقنن ذلك الاجتثاث دستوريا، وفرضت معايير وضوابط حزبية وطائفية للمساهمة في العملية السياسية ودخول الانتخابات، وبدلاً من ترحيب الحكام الجدد بمقاومي الاحتلال ومنحهم فرصة بناء العراق الجديد إلى جانبهم، تم التضييق عليهم ومطاردتهم تحت شعارات سوّقها الاحتلال تصفهم بالإرهابيين. سبق أن ضاعت، وبوقت مبكر، فرصة قيام مصالحة وطنية عراقية خلال مؤتمر القاهرة المنعقد في نوفمبر 2005 وانفردت الأحزاب الطائفية الشيعية بالحكم تساندها الكتل الانتخابية النفعية من العرب السنة، حيث لعب هؤلاء السنة لعبة مزدوجة؛ فأمام جمهورهم يدعون معارضتهم للعملية السياسية، ويخضعون من ناحية أخرى لمشيئة الحكام من الأحزاب الشيعية ومن وراءها، وهذه اللعبة خلطت الأوراق، وأدت إلى زج الكثيرين من الأبرياء في السجون والمعتقلات.
لم يكترث المعارضون السابقون الموالون لطهران للوثة العمالة التي تغلفوا بها، بل رحّبوا وشجعوا مشروع الاحتلال الأميركي رغم علمهم بما نُفذ من قتل وتدمير في واقعتي عاصفة الصحراء وثعلب الصحراء عامي 1991 و1998، وانبهروا بلقاء القادة الأميركان صاغرين مرحبين. كبيرهم وصغيرهم مُعَمَميهم وملتحيهم و”أفنديتهم”.
أطراف المعارضة العراقية الإسلامية الشيعية وجدت في المشروع الأميركي خلاصها الوحيد من الضياع والتشتت والإحباط في مقاهي وحسينيات لندن . دمشق ومذلة اللجوء في طهران. لم يتوقعوا حتى في أحلامهم أنهم سيصبحون حكاما للعراق. ليصبح في ما بعد، من كان يتقاضى معونات الإعاقة النفسية من بلدية لندن، رئيسا لوزراء العراق، كان المطلوب أميركيا استبعاد الكفاءات وإحلال الجهلة في إدارة مسيرة الهدم والتدمير.
كان من الطبيعي أن يُنتِج هذا المعمل البضاعة الفاسدة خلال سنوات الحكم العشرين التي تحمل العراقيون ببطولة أوزارها، مع عدم تبريرنا لحالة الخَدَر وعدم الاكتراث لتفصيلاتها اليومية. لأن مثل هذا النوع من العملاء والفاسدين يحتاجون إلى ردود بمستواه بعد الاحتلال العسكري للعراق عام 2003 .
كان من الطبيعي تحول النقمة الشعبية العامة الى أنماط أولية لمعارضة وطنية عراقية غير منظمة كرد فعل مباشر تمثلت بالفعاليات والاحتجاجات الشعبية ضد أساليب القتل والتغييب لآلاف الشباب على خلفية خطابات طائفية كانت هي الشعار العام للحكم الجديد في العراق بدلاً من قيام نظام الهوية الوطنية العراقية .
لكن كان وما زال من غير المتوقع أن نشهد خارطة للمعارضة العراقية ضد هذا النظم المدعوم من واشنطن وطهران رغم عدم فعالية هذه النظرية في ظل حالة القمع والاستبداد والنهب الأسطوري الملياري لثروات العراق من قبل الحكام , من الطبيعي تبلور معارضة وطنية عراقية لكن ليس من المتوقع تمتعها بعناصر التأثير المباشر لتغيير النظام لسباب كثيرة ومتداخلة ذاتية وموضوعية للحالة العراقية .
في منهج الحكام الحاليين لا يجوز قيام معارضة عراقية , فهم من وجهة نظرهم نهاية المطاف ” هم حكام اليوم وغداً ” مفهوم غير منطقي ولا يتعاطى مع ابسط مقومات الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة .
نشأت بعض محاولات لنشاطات معارضية خارج العراق لعراقيين لديهم رؤية وطنية لإنقاذ العراق لإنتفاء قيامها في الداخل إن كانت جادة وحقيقية وليست شعارات تخدم مشروع السلطة القائمة , ما حصل من معارضة للفساد قدمها الزعيم الشيعي مقتدى الصدر تحمل الكثير من التفسيرات في الدوافع والأهداف .
واحداً من تلك المبادرات التي أشرت عام 2016 مؤتمر باريس الذي نظمه جمال الضاري وهو من ضمن عائلة الراحل الوطني حارث الضاري وهيئة علماء المسلمين التي لا تسمى تنظيماً سياسياً تقليدياً . وضع الضاري أهدافاً وطنية عراقية كبيرة لمشروعه لكنه بمرور الأيام لم يكن بمستوى ذلك الضخ والدعم الإعلامي والسياسي من دول مثل فرنسا وبعض دول الخليج الداعمة . الآن تحول مشروع جمال الضاري للتغيير الى شعار وتشكيل يعمل داخل العملية السياسية وليس خارجها .
التطور المهم الذي يرفد قصة المعارضة الوطنية للنظام القائم ولم يصل الى مرحلة التطور التنظيمي القادر على التغيير حتى بصورة تدريجية هو ثورة شباب تشرين ” أكتوبر ” رغم ما قدموه من ثمن بالدماء باهضاً لكن ناشطي هذه الثورة الشبابية لا يوصفون بالمعارضين الممتلكين لتنظيمات قد تتوحد لتشكل قوة معارضية مؤثرة لأسباب عديدة من بينها قلة تجربتهم السياسية بهذا النمط من العمل السياسي الوطني كذلك النشاط المحموم لقادة الحكم وأحزابه وميليشياته الولائية في القمع الدموي من جهة وطرح أساليب الاغراءات لعدد من الشباب بعد قبولهم قصة الانتخابات المبكرة ودخولهم العملية السياسية واصبحوا فعلياً غير معارضين حقيقيين .
من الطبيعي أن تنشأ على مستوى الاعلام بعض ما تسمى فعاليات معارضية تحمل شعارات نارية لكنها فقاعات تثير السخرية في بعض الأحيان , مثل ما تسمى ” حكومات منفى أو غيرها بعضها يوصف بأنه مدعوم من جهات استخبارية وهي حالة متوقعة لمنع قيام معارضة وطنية عراقية جادة . مثال ذلك شخص يقوم بتوزيع دعوات دعم لما يسمى حكومة منفى مدفوعة الثمن على مواقع التواصل الاجتماعي، أو يظهر جالسا وخلفه واجهة لقصر فخم يستفز العراقيين يطلب الانضمام إليه وإلى حكومته الكارتونية.
الظاهرة الأخرى من المعارضة هي التشكيلات الوطنية التي ظهر بعضها منذ عام 2003 في الخارج وخلال هذه السنوات ظهرت عناوين لمنتديات أو لجان علاقات عامة شعبية أوروبية – أميركية، أو تنظيمات داخل العراق لم تختلف جديّا مع النظام القائم رغم نقدها لسياساته العامة هذه الأصناف رغم نزاهتها لم ترتق إلى المستوى السياسي الجدّي الذي يثير قلق مجموعة الفساد الحاكمة في بغداد.
لا شك أن الطريق الجدّي لمعارضة مجموعة الفساد والاستبداد وإزاحتها وإقامة البديل الديمقراطي ليس سهلا، يحتاج إلى إرادة قوية فردية وجماعية. يجب ألا يتوقع المعارضون من الصنف الوطني الصادق أن تُمدّ لهم أيادي العون، فالقوى الإقليمية، وبينها عربية ودولية، لم تعد مُكترثة بدعم معارضة جادة، بعد أن كانت تنفذ أجندات تدمير العراق. وقد حصل ذلك.