نضيء في هذه السلسلة على عدد من سيَر الشعراء العرب، الذين كان لهم أثرًا أدبيًا متمايزًا، تذكيرًا وتدليلًا على ما سطّروه من أمجادٍ مقفّاة مصاغة بالبلاغة الفنيّة .
اتصف أسلوبه بالخيالي يلتقط الألوان والأصوات، أبدع في الوصف هو رجل البلاغة والفصاحة حتى كان حكمًا بين الشعراء في عكاظ، مكّنه دهاءه من صحبة الملوك، مدح النعمان ابن المنذر بالشكر والامتنان والاعتراف بالجميل، هو شاعر القبليّات حيث نظم قصائده في مناسبات شتى، “في اعتذارياته أظهر التحسر والألم في تصوير حسّي وتهويلي بليغ، راجح العقل والقول، رجل تأن وإمعان وانضباط واعٍ في صناعة الصورة”.
المرءُ يأمل أن يعيش وطول عيش قد يَضرُّه
تفنى بشــــاشته ويبقى بعد حلوّ العيـــش مُرُّه
عاش النابغة في زمن الجاهليّة، كان سيَّدًا من أشراف قومه بني ذبيان، نشأ نشأةً بدوية، بما في البداوة من جلافة الطبع وقسوة العيش، ولكن طموحه لم يقف عند حدود الصحراء، فقصد الممالك من الغساسنة في الشام والمناذرة في الحيرة –العراق. اللتان كانتا على احتكاك بالحضارتين البيزنطية والفارسية، فاكتسب صفات اللين والسياسة، أنعم عليهم بمدحه وتنعّم بعطاياهم، وكان أوّل من تكسّب بالشعر كما ذكرت الروايات.
أبو إمامة زياد بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيط بن مرّة الذٌّبياني المعروف بالنابغة الذٌّبياني . لم تأتِ الروايات على ذكرتاريخ مولده، ولكنها أجمعت على سنة وفاته: (؟ – 605 م)، قيل أنّه لقّب بالنابغة لنبوغه في الشعر، وقيل لأنه لم يقل شعرًا إلّا بعدما أصبح رجلًا، قال ابن قتيبة: “ونبغ بالشعر قاله بعدما احتنك وهلك قبل أن يهتر”.
بحسب تصنيف الشعراء لابن سلام الجمحي وقد رتّب الشعراء على عشرة طبقات، ذكر في الطبقة الأولى النابغة الذبياني.
اتصف أسلوبه بالخيالي يلتقط الألوان والأصوات، أبدع في الوصف هو رجل البلاغة والفصاحة حتى كان حكمًا بين الشعراء في عكاظ، مكّنه دهاءه من صحبة الملوك، مدح النعمان ابن المنذر بالشكر والامتنان والاعتراف بالجميل، هو شاعر القبليّات حيث نظم قصائده في مناسبات شتى، “في اعتذارياته أظهر التحسر والألم في تصوير حسّي وتهويلي بليغ، راجح العقل والقول، رجل تأن وإمعان وانضباط واعٍ في صناعة الصورة”.
بين البادية والحضر
كان من سادة قومه بني ذبيان، ودبلوماسيًا أدى دور الوساطة بين قومه والغساسنة، عاش معززًا في البلاط ومكرّما في قومه. في شعره حيوات الزمن السالف، أساطيرهم وخرافاتهم، ملوكهم وأصنامهم، عاداتهم وأحداثهم. جمع النابغة في نفسه بين أسلوبي العيش، البداوة والحضريّة، وقد ظهر ذلك في شعره، نشأ نشأة بدوية في بادية بني ذبيان، وقد عني منذ نشأته بشؤون قبيلته، تنقل بين البادية حيث قبيلته وبلاط الملوك الحضر ( الغساسنة والمناذرة) بين بلاد الشام والحيرة .
كان بنو ذبيان أعرابًا إذا أُعدموا يغيرون على جيرانهم، ولذلك كانوا على عداوة مع الغساسنة. وكان النابغة سفير قومه إلى الغساسنة، يحسن الوساطة واستطاع بدبلوماسيته أن يحمي قومه ويذود المخاطر عنهم. وقد حصلت حرب بين الغساسنة ملوك الشام وقبيلة ذبيان، وقد انهزمت ذبيان وقُتل منها رجال وأُسر آخرون وسبيت النساء، ورأى النابغة أن يمدح الغساسنة لإنقاذ قبيلته فأقام لديهم وفيهم قال قصيدته: “كليني لهم يا أميمة ناصب\ وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب\ عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة\ لوالده ليست بذات عقارب” ويصف بأسهم في الحرب: ” إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقهم \ عصائب طيرٍ تهتدي بعصائبِ” ويسترضيهم مادحًا: ” لهم شيمةٌ لم يعطها الله غيرهم \ من الجود والأحلام غير عوازبِ”.
دافع في شعره عن قبيلته، واسترضى خصومها كي يحميها من بأسهم. “ألا أبْلِغا ذُبْيانَ عَنّى رِسالَةً\ فقد أصبْحتْ، عن منَهجِ الحقّ، جائرهْ\ أجِدَّكُمُ لن تَزْجُرُوا عن ظُلامَةٍ\ سَفيهاً، ولن تَرْعوا لذي الوُدّ آصرَهْ”.
ومن أمثلة الروح الحضرية عند النابغة هو اتصاله بالمناذرة في الحيرة. وكان ينادم النعمان ملك الحيرة، وبعد خلاف معه لجأ إلى الغساسنة وظل يمهّد لعودته إلى النعمان بقصائد اعتذارية. وقد انقطع النابغة لمدح الملوك وقيل أنه أوّل من تكسّب في شعره، وسلك في المديح طرقا شتى.
قاضي الشعر
ترأس سوق عكاظ وفيه يقول الأصمعي: ” كان النابغة يضرب لهم قبة من أدم في سوق عكاظ، فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها. ومما روي عن أبي عبيدة: هو أوضحهم كلاما وأقلهم سقطًا وحشوًا وأجودهم مقاطع، وأحسنهم مطالع ولشعره ديباجة…” عرف عنه نبوغه وشاعريته في مخاطبة الملوك وكسب مودتهم والاعتذار إليهم حتى قيل “أشعر الناس النابغة إذا رهب”
اعترف الشعراء له بفضله ومكانته فحكموه في سوق عكاظ وكان قوله الفصل، كانت تُضربُ له قبة من أدم أحمر اللون في سوق عكاظ، وهو من أكثر أسواق العرب شهرة في الجاهليّة، يأتونه من كلّ حدب وصوب للمتاجرة والمفاخرة ومناشدة الشعر ويتحاكمون في ذلك لعمالقة الشعراء ومنهم النابغة الذبياني وهو الحاكم بين المتنافسين والحكيم في تفضيلاته.
ومن إحدى المشاهد في النقد قصّة دخول حسان بن ثابت على النابغة لعرض شعره، وكان الأعشى قد أنشد شعره، ثم حضرت الخنساء وأنشدت قصيدتها ” قذًى بعينك أم بالعين عُوّار \ أم ذرَفت إذا خلت من أهلها الدارُ”، فقال النابغة لولا أبا بصير (ويقصد الأعشى) أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس، فاعترض حسان بن ثابت محتدًا : أنا والله أشعر منك ومنها، واستشهد بمقطع من شعره: “لنا الجنفات الغُرّ يلمعن بالضحى \ وأسيافنا يقطرن من نجدة دما \ ولدنا بني العنقاء وابني محرق \ فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما” ومن جملة ردود النابغة: إنك لشاعر لولا أنك أقللت عدد جفانك (أوعية ضخمة للطعام)، وقلت يلمعن بالدجي ولو قلت يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا. وقلت يقطرن من نجدة دما فدللت عل قلة القتل، ولو قلت “يجرين” لكان أكثر لانصباب الدم.. وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك…” والقصة مذكورة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.
فالنابغة انتقد الناحية الفنيّة وأشار إلى الألفاظ التي قلّلت من قوّة المعاني في شعره وهي معان تعكس الحياة في الصحراء وقيم البداوة، بأدوات نقديّة بسيطة وفطرة سليمة وذائقة فنيّة قوامها البلاغة وحسن الإشارة استطاع أن يعكس وجهة نظره النقديّة دون تقليل من أهمية الشاعر أو تضليل.
الاعتذاريات
اتصل بالمنذر بن ماء السماء ملك الحيرة واتصل بعدها بالنعمان بن المنذر عندما تولى عرش الحيرة، وكان النعمان محبًا للأدب وقد نال حظوة كبيرة لديه، وعن ابن قتيبة عن ابن الكلبي الراوية: ” واستبد النابغة بمودة الملك النعمان وجزيل عطائه وسابغ نعمه، فلا عجب أن يثير هذا حفيظة الشعراء ليعملوا على إفساد علاقته بالملك”. وقد مدح النابغة النعمان في أكثر من قصيدة، حتى ذكره في معلقته الشهيرة “يا دار مية بالعلياء فالسند” وهي على روي حرف الدال:
“فتلك تُبلغني النعمان، إنّ له فضلا\ على الناس في الأدنى وفي البعد\ ولا أرى فاعلًا، في الناس، يُشبهه\ ولا أٌحاشي، من الأقوام، من أحدِ”
في مدحه للنعمان كان يعمد إلى تضخيم أنا النعمان ورفعها بالصفات الحميدة والقيم العليا وبعد ذلك يأخذه بالعقل والسياسة داعيا إياه للعفو فالعفو من شيم الكرام. فهو يفهم نفسية ممدوحه، متسلحا بقوة الإقناع.
” لعمري وما عمري عليّ بهيّنٍ \ لقد نطقت بٌطلًا عليّ الأقارعُ (بنو قريع)”
اقترن اسمه بالنعمان ملك الحيرة، الذي قربه إليه لجزالة شعره، وأقام عنده مادحًا لخصاله، هاجيًا أعداءه، ومحظيًا ينال من عطاياه ونديما يشاركه القدح، ولمكانته الأثيرة تكاثر حوله الحسّاد ورموه بما وسع لهم من الوشايات، واتخذوا من قصيدة المتجردة ذريعة لإبعاده.
والمتجردة هي زوجة النعمان صادف مرورها في مجلس النعمان والنابغة وسقط الرداء عن رأسها وكانت ذات حسنٍ بليغ، ويقال أن النعمان طلب من النابغة أن يصف الموقف، فما كان من النابغة إلا أن كتب سقط النصيف وأكثر من الوصف والتفاصيل حتى أثار الشكوك، ويقال أن القصيدة ليست له إنما نُسبت إليه من قبل أبناء عوف بن قريع حيث اعتمدوا أسلوب النابغة في وصف مفاتن المتجردة، فوصلته تنبيهات غضب النعمان ففرّ هاربا إلى الغساسنة أعداء المناذرة مما زاد غضب النعمان.
مدح النابغة أمراء الغساسنة، ولكن حنينه ظلّ في قصر الحيرة وهكذا نظم النابغة اعتذارياته، والاعتذار يتطلب نفسًا كبيرة، والكثير من التنازل والتزلّف وقد يصل بصاحبه إلى الركاكة وضيق العبارة، ولكن اعتذاريات النابغة كانت قويّة المضمون تصويريّة بليغة:
“فإنّك كالليل الذي هو مدركي وإن خلتُ أنّ المنتأى عنك واسعً”
فيها الكثير من التحسّر والألم وتبرئة الذات مما لحق فيها من ظلم واتهامات باطلة:
” أتترك عبدًا لم يخُنك أمانةً\ وتترك عبدًا ظالمًا وهو ضالعُ\ وأنت ربيعٌ ينعش الناس سَيبُه\ وسيفٌ أُعيرته المنيّة قاطعُ”
وهذا لا ينفي أن النابغة أكثر من المديح حتى بالغ وتطرّف، وهو يدل على عاطفة الخوف والترجي، حتى قيل: “أشعر الشعراء النابغة إذا رهب” :
” فإنك ملك والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن أثرُ”
استطاع النابغة أن يخطّ تاريخًا من الأبيات الموشاة بالذهب، ويذهب في قصيدته مذاهب شتّى، لم تحدّه آفاق النشأة ولم يكتفِ بنسبه، فصنع لذاته مناسبات كان فيها جليس الملوك والأمراء، ولم يتنكّر لقبيلته بل ظل يدافع عنها ويُسايسُ خصومها حتى يفكّ عنها البأس. وكان بليغًا حكيما فصيح اللسان يعرف مواضع القول ويصوّب للشعراء أخطائهم، ويدلّهم على مواطن الضعف في قصائدهم حتى نُصّب حكمًا عليهم. وفي اعتذارياته تجاوز الأفكار النمطيّة عن الكبرياء والإنفة؛ ومما روي عنه قوله:
تعدو الذِئابُ عَلى مَن لا كِلابَ لَهُ وَتَتَّقي مَربَضَ المُستَنفِرِ الحامي.
الصور
2 النابغة.
3