ترامب أمام عالم متحوّل

ما بين حرب أوكرانيا وحروب الشرق الأوسط .. ما هي حلول الرئيس العائد؟

هل تغيّر ترامب
هل تغيّر ترامب

عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد أربع سنوات اعتبر أنها سرقت منه بسبب “تزوير” شاب الانتخابات السابقة ودفعت خصمه، جو بايدن، إلى تبوأ منصب الرئاسة. عاد الرجل محمّلا بنفس الوعود لإعادة “أميركا عظيمة” مستعينا بنفس الأنماط في التعامل مع القضايا والخصوم والمناصرين. بدا أن الرجل يجيد عبور الصعاب، وانتشال نفسه من مصائر دراماتيكية، ويفرض ظاهرته من جديد، ليس فقط على أميركا، بل على العالم أجمع. عاد ترامب وراح العالم يتموّضع وفق هذه العودة.

غير أنه لا يعود إلى نفس العالم الذي عرفه منذ 8 سنوات. يطلّ على تحوّلات كبرى غيّرت العالم، منذ الحرب التي شنّها “صديقه” الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ضد أوكرانيا في شباط / فبراير 2022، قبل 20 شهرا من اندلاع حروب “طوفان الأقصى” المنفجرة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبرر 2023. تبدّل المشهد الدولي بسبب هذه الحروب. انقلبت خرائط توزيع الطاقة. تحرّكت الاصطفافات الدولية. وظهر أن العالم برمّته دخل نفق أنذر البعض أنه قد يطلق حربا عاملية ثالثة. يصل ترامب إلى هذا العالم واعدا بإنهاء حروبه، فيما هذا العالم يتساءل عما يملكه الرجل من ترياق لتحقيق ذلك.

لماذا العودة؟

فاز دونالد ترامب. بات الرئيس الـ 47، متأبطا ما يفيض من الوعود لداخل البيت الأميركي، وما قلّ منها، يمكن الاستناد عليه، لنفهم شكل وحركية العالم في السنوات الأربع المقبلة. شوهد بنيامين نتنياهو وفلاديمير بوتين يبتسمان بحبور. ابتلعت كثير من عواصم أوروبا ريقها قلقا. قلبت بكين بصمت وبرود صفحة راهن لم تحبه وفتحت صفحة من عرفته

كيف سينفذ ترامب وعدة بإنهاء حرب أوكرانيا

وخبرته، من جديد. قيل إن وجوما ساد وجوه قادة الحكم في طهران، وأن كافة عواصم المنطقة استقبلت الحدث بارتياح، ليس بالضرورة هياما بالفائز، بل لأن ما تشهده المنطقة من فوضى وعبث دموي يجعلها متعلّقة بأي فائز يجوز أن يضع مخارج ما لأنفاق لا مخارج لها.

يحب ترامب الملاحم الدرامية الكبرى. تراه يخرج من نصوص شكسبيرية، فيحلّ ضيفا ثقيلا على نخبة واشنطن، ويفرض نفسه، بسوقية تاجر العقارات، على الحزب الجمهوري. يطرد الكهنة من معبد العاصمة، فيُسقط منافسيه داخل الحزب العريق واحد وحدا، قبل أن “يرفس”، عام 2016، هيلاري كلينتون، بنت الأصول واختصاصية القانون وزوجة رئيس متمكَن، خارج الحلبة، ويتربّع متنمرا على “عرش” الولايات المتحدة لولاية لم ينسها العالم أجمع.

نزل خبر انسحاب الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، من السباق، كالصاعقة على قلب دونالد. ظهرا مرتبكا، مرتجلا شتم المرشحّة البديلة، كامالا هاريس. فقد في لحظة عدّة الشغل. ماذا سيقول عن إمرأة من أصول أفروآسيوية شابة مقارنة بكهولته. صار برمشة عين أكبر المرشحين سنّا في تاريخ الولايات المتحدة. كان الفارق بين تقدمها في الاستطلاعات وتراجعه يتّسع وكأنه إعلان لقدر محتوم.

دونالد ترامب آلة ضخمة لحصد الأصوات. عقله يعمل وفق قواعد البزنس. الأفكار والأيديولوجيا مضيعة للوقت والجهد والأصوات. يهمّه مزاج العامة ولا يكترث لتقويم النخب. جاب الولايات يوزّع الوعود ويعِد بالخلاص. من يسمع الرجل يخال الولايات المتحدة في قعر التاريخ تقبع على ضفاف العدم والاندثار تنتظر أميرها المنقذ. كان شاعرنا عنترة بن شدّاد

ما ترياق لترامب لوقف حروب “الطوفان”

يضخّم في أبياته من شأن خصمه قبل أن يعلن القضاء عليه. والأرجّح أن الناس تريد “بطلا” حتى لو كان صنيعة أوهام، وحتى لو أيقنوا أنه لن ينفذ العهود والوعود.

هزيمة الديمقراطيين

صدرت في الولايات المتحدة تقييمات تتعلق بأسباب فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، ووجوه تبدّل سلوكه، وما يمكن أن يغيّره في بلاده، وحدود تدخله لوقف حرب أوكرانيا وحروب الشرق الأوسط. في التقييم أيضا، مجهر على إخفاقات الحزب الديمقراطي، وهجر كتل ناخبة تصوّت تاريخيا لصالح الديمقراطيين للمرشحة كامالا هاريس لصالح منافسها. غير أنه لفهم دروس تلك الانتخابات نعرّض للملاحظات التالية:

يرى باحثون أن الانتخابات تمثل هزيمة ساحقة للحزب الديمقراطي قد تشبه ما منيّ به الحزب الجمهوري أمام باراك أوباما لمرتين. ويدعو هؤلاء إلى أن يتمثّل الديمقراطيون بنقاشات جرت داخل الحزب الجمهوري آنذاك لاستنتاج أسباب هذه الهزيمة، وأن يراجع الحزب الديمقراطي أخطاءه (الكثيرة حسب وصفهم) والتي أدت إلى خسارة في السلطتين التنفيذية والتشريعية معطوفا على ميل المحكمة العليا إلى التيار المحافظ. ولفت مراقبون إلى ظاهرة ذهاب “اتحاد العمال”، الذي كان تقليديا تحت سقف الديمقراطيين، باتجاه الحزب الجمهوري، ليس تأييدا لعقائدهم، بل دعما لترامب كبديل عن الإدارة الديمقراطية. فسّر هؤلاء هذا التحوّل إلى أولوية القوة الشرائية والاقتصاد في تحديد حوافز الطبقة العاملة وابتعادها عن الثوابت الايديولوجية السابقة.

ويعتقد خبراء في شؤون الحزب أن الحزب الديمقراطي شكّل نخبة تزعم التموضع في موقع اليسار الوسط، لكنها فرضت سياسات لم تعد تشبه الحزب وقيمه. واستنتج هؤلاء فرض نخبة الحزب، كامالا هاريس، كمرشحة أمر واقع لم تخضع لعملية انتخابية ديمقراطية تقليدية وحقيقية بين متنافسين. ويلاحظون أيض أهمية الجدل بشأن قضايا الجندر والأقليات الجنسية والتحوّل الجنسي على هجر الحزب الديمقراطي، وذلك احتجاجا على تدخل الدولة (برعاية من الديمقراطيين) في شؤون العلاقة داخل الأسرة، ما يهدد حرية مكوّن العائلة واستقلال قرارها،  ما يعتبر خطا أحمر. وهو أمر يعمل المحافظون، مدعمين بمواقف الكنيسة، على حمايته.

هل تغير ترامب؟

يؤكد بعض المعلقين أن دونالد ترامب بات أقل توترا مما كان عليه في ولايته الأولى بسبب ما اكتسبه من خبرة، وسيطرته خلال الأعوام الأخيرة على الحزب الجمهوري، وانضمام شخصيات كبرى من خارج فضاء الحزب، مثل ايلون

لماذا هزيمة الديمقراطيين؟

ماسك وروبرت كينيدي، إلى حملته الانتخابية. ويعتقدون أنه بات أكثر استعدادا للتخفيف من حدّة الانقسام المجتمعي. ويعتبرون أن تطوير “خطاب النصر” الذي ألقاه بعد الفوز يمكن أن يكون أساسا لسلوكه المقبل في البيت الأبيض. تلفت بعض الآراء إلى أن فوز دونالد ترامب يؤكد عدم وجود “دولة عميقة” تعمل ضده وأجهضت فوزه قبل 4 سنوات، وفق ما ردد دائما.

يضيف هؤلاء أن الأمر يتعلق أيضا بعدم وجود “دولة عميقة” بالمعنى المتعارف عليه في دول أخرى. وينصح خبراء بالانتباه إلى حقيقة وجود مجتمعيْن منفصلين في الولايات المتحدة متناقضي العقائد والمصالح باتا أقرب إلى التصادم. ويعتبرون أن ترامب لعب على وتر تفاوت ثقافتي المجتمعين، واستفاد منه وعمق من مساحاته، وأن الأمر يحتاج إلى فضاءات نقاش تصادرها وسائل الإعلام الاجتماعي. ويضيف هؤلا أن ترامب لم يعد معنيّا بهذا الانقسام، ولم يعد مفيدا له بعد انتخابه، وأنه قد يلجأ إلى خطاب آخر باتجاه رأب الانقسام أو محاولة إظهار شكل من أشكال الوحدة الوطنية.

أولويات ترامب

توقّع خبراء في السياسة الخارجية الأميركية أن تكون أولوية ترامب هي أوكرانيا قبل الشرق الأوسط، واعتبروا أنه سيحاول الاستثمار في علاقته مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للتوصل على الأقل إلى وقف إطلاق، والشروع بعد ذلك في ورشة لانتاج تسوية. ولفتوا إلى أن الأولوية الاستراتيجية للولايات المتحدة منذ ولاية أوباما الأولى هي الصين، وأنه من الأهمية بالنسبة لواشنطن فك ارتباط روسيا بالصين، وهو أمر يأخذه ترامب، في عدائه للصين، بعين الاعتبار جيداً. وكان لافتا في هذا الصدد ما صدر عن أمين عام الناتو، مارك روته، في تصريح قال فيه إنه يتطلع إلى الجلوس مع الرئيس الأميركي المنتخب ورؤية كيف سنضمن بشكل جماعي مواجهة التحديات، ومن بينها التهديد الروسي والكوري الشمالي.

وتنقسم الآراء بشأن قدرة ترامب على وقف حروب الشرق الأوسط. يلفت البعض إلى الفترة الفاصلة لتسلم منصبه، في 20 يناير، والتي ستعيق قدرة واشنطن على ممارسة الضغوط على الحكومة الإسرائيلية، ما يعطي رئيسها، بنيامين

هل يستطيع ترامب توحيد أميركا؟

نتنياهو، مهلة لتصليب مواقفه وفرض أمر واقع عسكري على الإدارة الجديدة والمنطقة. تلفت آراء أخرى إلى أن الدول العربية، لا سيما المعنيّة بشؤون الحرب في المنطقة، لا سيما مصر ودول الخليج، قد تستقوي بحسن علاقاتها مع ترامب للضغط باتجاه ترتيب شروط وقف الحرب وترتيب اليوم التالي لها وهو أمر يدركه نتنياهو. بالمقابل تعتقد بعض المصادر المراقبة أن أمر الحروب التي تخوضها إسرائيل خاضع لما يتجاوز غزّة ولبنان، وقد يكون من الصعب التعويل على مزاج ترامب لإنهاء تلك الحروب. تدعو أيضا إلى عدم تبسيط الأمر، وإلى ربطه بقضية “أمن إسرائيل” للعقود المقبلة، كما بعوامل أخرى تتعلق بحرب أوكرانيا ومستقبل علاقة واشنطن مع كل من روسيا والصين وإيران.

البناء على الغموض

يراقب المعنيون بالملفات الساخنة في العالم ما يمكن أن يحمله دونالد ترامب في ولايته الثانية من تحوّلات نوعية في سياسة الولايات المتحدة حيال صراعات اشتدت خلال ولاية جو بايدن. وفيما لا يمكن الركون إلى برامج ممنهجة، مكتوبة، عميقة، يعتمدها ترامب لمقاربة شؤون العالم، فإن الباحث يلجأ إلى ما تيسّر من مواقف وتصريحات صدرت عن ترامب رئيسا ثم مرشحا في محاولة لاستشراف ما يمكن أن ينتهجه من سياسات “جديدة” تختلف فعلا عن السائد في واشنطن في التعامل مع حروب الشرق الأوسط واوكرانيا وملفات الصراع مع روسيا والصين وإيران، ناهيك من إدارة العلاقة مع الحلفاء.

وقد يكون مفيدا التعرّف على سياسات ترامب السابقة والمحتملة من خلال المعطيّات والخلفيات التالية:

أبدى ترامب خلال ولايته الأولى دعما مفرطا لإسرائيل ولنتنياهو بالذات. كان أول رئيس أميركي ينفّذ قانونا صدر عن الكونغرس الأميركي عام 1995 يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وينقل السفارة الأميركية إليها، كما اعترف بضمّ إسرائيل هضبة الجولان السورية المحتلة منذ عام 1967.

وعد بتسوية سياسية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال اتفاق أطلق عليه اسم “صفقة القرن”. وقد كلّف صهره ومستشاره، جاريد كوشنر، بقيادة فريق لإنتاج هذه التسوية. وصدر عن هذا الفريق خرائط لهذه التسوية تجهض أي آمال لقيام دولة فلسطينية من خلال تجزئة المناطق الفلسطينية إلى مناطق أمنية واقتصادية غير متواصلة.

هل تنسحب واشنطن من حروب العالم؟

أظهر ترامب دعما مفرطا لإسرائيل ونتنياهو في حرب غزّة، واتهم إدارة بايدن في تقييد يد إسرائيل، منتقدا أي ضغوط لوقف إطلاق النار من دون أن تحقق إسرائيل أهدافها. وصدرت عن ترامب مؤخرا دعوات لنتنياهو لتسريع إيقاع الحرب والعمل على إنهائها، حتى قبل  دخوله البيت الأبيض في 20 يناير 2025.

لم يظهر ترامب مواقف معينة من الحرب في لبنان غير تلك التي وعدت بإنهائها قريبا. وكما في الموقف من حرب غزّة، لم يوضح ترامب أية خريطة طريق لإنهاء هذه الحرب ووسائل ذلك إسرائيليا وأميركيا. وظهر كلام ترامب في هذا الصدد عرضيا ولم يكن في متن حملته الانتخابية.

في الموقف من حرب أوكرانيا، ردد ترامب أنه لو كان رئيسا لما نشبت الحرب هناك، معتبرا أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يحترمه ويتهيّب اتخاذ خطوة الحرب، في حين لا يحترم بايدن بما شجعه على خوضها. يعد ترامب بوقف هذه الحرب من خلال التحدث إلى بوتين والرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلنسكي. وكان زيلنسكي قد طالب ترامب بالكشف عن خطته لوقف الحرب في أوكرانيا.

يتساءل المراقبون عن الكيفية التي سيوقف بها ترامب الحرب في ظل مطالبة كييف بانسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014 أي قبل 8 سنوات من بدء الحرب الراهنة عام 2022، وفي ظل تلويح روسيا بحلّ سياسي يضمن الاعتراف بقرارها ضم اربع أقاليم في شرق أوكرانيا.

عقدة الشرق الأوسط

وعد ترامب بالعودة إلى سياسة التشدد مع إيران على منوال ما فعل حين قرر عام 2018 سحب الولايات المتحدة من اتفاق فيينا لعام 2015 المتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. وعلى الرغم من جولات مفاوضات غير مباشرة جرت بين

انتعاش اليمين المتطرف في أوروبا

واشنطن وطهران، شملت تبادل سجناء والإفراج عن بعض الأصول المالية الإيرانية في الخارج، إلا أن العلاقات بقيت متوتّرة ولم يتوصلا إلى اتفاق نووي معدّل.

في وقت يعد فيه ترامب بعدم الانخراط في حروب جديدة ووقف الحروب الراهنة، ليس واضحا ما إذا كان سيدعم خطط إسرائيل، ونتنياهو، لتسديد ضربات استراتيجية ضد إيران استطاعت إدارة بايدن حتى الآن ضبط سقوفها.

يرى خبراء في الشؤون الأميركية أن ترامب لم يفرج عن أي خطط جدّية ووازنه بشأن السياسة التي سيعتمدها في العلاقة مع دول العالم والملفات الساخنة. ويرجّح هؤلاء التزام ترامب بالسياسات العامة التي تعدها مؤسسات الولايات المتحدة وأنه لا يملك في كافة ملفات الصراع خططا خاصة به مغايرة على نحو جذري من المنتهج في واشنطن حاليا.

في إطار التزام الرئيس بسياسات المؤسسات في واشنطن، يذكّر الخبراء بالتزام ترامب أثناء ولايته السابقة بسياسة وزارة الخارجية في مقاربة الانقسام الخليجي الذي نشب بشأن قطر، وبسياسة وزارة الدفاع بشأن مقاربة الأزمة في سوريا ووجود القوات الأميركية هناك والتقيّد برغبتها في إبقاء هذه القوات حتى عندما أعلن قرارا بسحب القوات الأميركية من هذا البلد.

يعتقد مراقبون أن سياسة ترامب العربية، لا سيما مع مصر ودول الخليج، لن تختلف عن سياسة بايدن لجهة التشاور والتقارب والبحث عن شراكة (مع مصر وقطر خصوصا) لإنهاء الحرب في غزّة. وقد سجّل تطوّر في علاقات الإمارات مؤخرا مع واشنطن ومواصلة الإدارة الحالية السعيّ لإبرام اتفاق استراتيجي مع السعودية، حتى لو جاء متجاوزا شرط التطبيع مغ إسرائيل.

وعلى الرغم من رعاية ترامب في ولايته الأولى لـ “الاتفاقات الإبراهيمية”، غير أن تطوّرات الحرب في غزّة ولبنان باتت تحتاج إلى حوافز أخرى لأعادة إنعاش هذه الاتفاقات في تصاعد المطالبة في المنطقة بإقامة دولة فلسطينية، فيما لا يُظهر ترامب مواقف في هذا الصدد.

وفي ظل الصراع الأميركي، بأشكال مختلفة، ضد روسيا والصين وإيران، وفي ظل جمود مواقف ترامب في تناول الملفات الثلاث، سيصعب استشراف سياسة سيعتمدها الرئيس الجديد تكون بعيدة عما اعتمدته الإدارة الديمقراطية حتى الآن.

وجب الانتباه إلى أن ترامب في الولاية الجديدة يكتشف مشهدا دوليا مغايرا لما عرفه في ولايته السابقة على نحو قد لا يسمح له اتخاذ نفس المقاربات السابقة. كما أنه يفترض أن ترامب بات أكثر خبرة وتمرسا تجعله يكون أكثر حنكة في التعامل مع حلفاء بلاده وخصومها.

رعب أوروبا

لا تخفي عواصم في أوروبا قلقها من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولا يقوم ذلك القلق على شكّ بمجهول، بل بضيق من معلوم عرفه الاتحاد الأوروبي طوال ولاية ترامب الرئاسية السابقة. غير أن ما كان تبرّما بين عامي 2017-2021 في مرحلة “عادية” في تاريخ العالم، بات يرقى إلى مستوى الهلع في مرحلة شديدة الخطورة تنتشر فيها الحروب والصراعات، وأهمها في قلب أوروبا نفسها.

لن تجد زعيما أوروبيا يجاهر علنا بهذا القلق ويبدي مقتا من فوز المرشح الجمهوري. لكن رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، وعد بفتح زجاجة شمبانيا احتفالا بالنصر الموعود. فالرجل لا يخفي الدعم والتأييد وربما الولاء لترامب بما يجعله “حصان طروادة” ترامبي داخل “النادي الأوروبي” الكبير. يكشف الهمس في بروكسل، حيث مقر الاتحاد، أن ترامب حين يريد طرق أبواب أوروبا لا يتواصل مع أورسولا فاندر لاين، رئيسة المفوضية، ولا شارل ميشال، رئيس المجلس الأوروبي، ولا الرئيس الفرنسي في باريس والمستشار الألماني في برلين، بل يهاتف صديقه أوربان في بودابست.

يتهكم مسؤول فرنسي، لعب دورا محوريا في بروكسل، في ما نقله عن أوربان الذي أخبره يوما أن أوروبا تقوم على 3 ركائز كبرى: فرنسا (الدولة النووية الوحيدة في الاتحاد) وألمانيا (عمود اقتصاد المجموعة) .. والمجر! وأن يصبح أوربان، صديق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وكيلا لترامب في أوروبا، فذلك يعني أنه سيكون لهنغاريا دور أكبر من حجمها داخل أوروبا، وريما يقرر مصيرها في عهد الترامبية المحتملة. وفيما درج أن يدور الاتحاد، فكرةً وإدارةً وقيادةً، حول المؤسسيين الكبيريْن الأوليْن، فرنسا وألمانيا، فإن “المركب” قد يميل باتجاهات جديدة استجابة لرياح خبيثة قد تنفثها واشنطن الترامبية. فالبحّار المجري لن يكون وحده.

كما بوتين، لا يحب ترامب أوروبا ولا حلف شمال الأطلسي. وللصدفة، فإن كل التيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا يمقتون الاتحاد وشططه الأطلسي. تنقّل ستيف بانون، منظّر الترامبية الأميركي، في السنوات الأولى لولاية ترامب بين عواصم أوروبا يشدّ من عضد الشعبويين ويوحّد صفوفهم وبقيّ يحاضر في الترامبية وعقائدها وإن ابتعد عن ترامب والبيت الأبيض. وعليه فإن لدونالد ترامب مريدين وأتباع، ليس فقط في صفوف المعارضة الشعبوية الأوروبية، بل باتوا داخل أو على اعتاب السلطة والحكومات.

تمنّ زعيمة اليمين المتطرّف في فرنسا، مارين لوبن، النفس بعودة ظافرة لترامب وسط شعور بأنها ظافرة بالاليزيه عام 2027. لكن في تشيكيا وسلوفاكيا وسلوفينيا والسويد يمين متطرّف يحكم أو يقترب من الحكم سيجدون في الترامبية مناسبة للتوسّع والرواج. وفي قلب وعلي ضفاف تلك الظاهرة، تبرز في إيطاليا زعيمة اليمين المتطرّف رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، كحالة متميّزة ناجحة باتت تمثّل مرجعا لأحزاب اليمين المتطرّف في الحكم وأصوله. ولا تخفي السيّدة الإيطالية القوية ميولها نحو المرشح الجمهوري وتعوّل على فوزه.

التخلي عن أوكرانيا

لا تملك 27 دولة عضو داخل الاتحاد الأوروبي هامش مناورة واسع للتصدي للرياح القادمة من واشنطن. تمرَّد الجنرال شارل ديغول في فرنسا على واشنطن وغادر القيادة العسكرية الموحدة لحلف شمال الأطلسي في الستينيات. غير أن الظاهرة بقيت معزولة لم تجرّ أوروبا معها. بُحَّ صوت الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لإقناع المجموعة أن تكون موحّدة سياسيا، مستقلة عسكريا، لتشكّل كتلة اقتصادية وازنة ما بين الولايات المتحدة والصين من دون جدوى. كان ذلك قبل أن يغزو بوتين أوكرانيا، وتقترب جيوشه من أبواب الاتحاد نفسه. للمفارقة فإن الزعيم الروسي أنهى أسطورة الاستقلال الأوروبي، وربما يهدي صديقه ترامب قارة أكثر خضوعا لإرادات البيت الأبيض.

يخشى الأوروبيون من تشتت شملهم إذا ما أطلّ ترامب من البيت الأبيض. يتوقعون أن تهرع بعض الدول الأعضاء إلى إبرام اتفاقات ثنائية مباشرة مع واشنطن. دول اوروبا الشمالية، مثل فنلندا والسويد ودول البلطيق الثلاث مرعوبة من البوتينية الداهمة، ينسحب الأمر على دول أوروبا الشرقية، مثل رومانيا وبولندا ومولدافيا، التي تراقب دبابات موسكو في أوكرانيا تندفع نحو حدودها.

في ما يخيف أوروبا أنها لم تعد الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وأن خطط ترامب باتت علنية في فرض تعريفات جمركية على منتجات الاتحاد. وفي بعض تعبيرات الرجل ما يكشف أنه يتعامل مع الحليف في أوروبا كما الخصم في الصين من وجهة نظر المنفعة والمنافسة والمصالح. غير أن الهاجس الأوروبي الداهم والعاجل يتعلّق بأمن القارة واستقرارها.

حين سيتولى ترامب منصبه على رأس الولايات المتحدة سيجد بلدا متعبا من الحرب في أوكرانيا. كان الحزب الجمهوري قد أظهر تبرّما من تكاليف حرب “بعيدة عن حدودنا”، وأظهر عنادا مضنيا في تمرير ميزانيات إدارة الديمقراطي، جو بايدن، في الكونغرس في هذا الصدد. يحمل ترامب أيضا هذا النزق، ووعد ناخبيه بإنهاء هذه الحرب، حتى قبل موعد تسلمه السلطة في 20 كانون الثاني / يناير المقبل، عبر التحدث مع صديقيه، بوتين و (الرئيس الأوكراني فلوديمير) زيلنسكي.

وحتى لو كان في حلّ ترامب تبسيطا انتخابيا أثناء حملته للرئاسة، لكن تخلي واشنطن المحتمل، في ظل إدارته، عن دعم أوكرانيا أو إجبارها على سلام بشروط بوتين، ينقل أوروبا إلى مظلة تقاطع بوتينية ترامبية ترعب حتى كير ستارمر، رئيس وزراء بريطانيا. تلك الدولة المتماهية تقليديا مع الولايات المتحدة، والتي وصفها ديغول يوما ساخطا بأنها “حاملة طائرات أميركية في قلب أوروبا”.

نعرفترامب في ولايته الأولى. مذاك لا بد أنه اكتسب خبرة ومراسا وبات يحسن الصنعة. في عهده الأول عادى الحلفاء في أوروبا فلم يفهموا الأمر وتعايشوا مع قدر اعتبروه زائلا. عادى الصين، وهو لم يفعل إلا اتباع ما رسمته “الدولة العميقة” منذ باراك أوباما. اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل منفّذا تشريعا كان صدر عن الكونغرس قبل عقود. تبرّع من عندياته بالاعتراف بهضبة الجولان جزءا من سيادة إسرائيلً، وطبع خرائط لـ “صفقة القرن” بمبضع صهره، جاريد كوشنر. لن تجد إسرائيل، ونتنياهو بالذات، حليفا صادقا كترامب الذي اكتشف في عزّ مقتلة غزّة كم أن إسرائيل صغيرة المساحة وتحتاج إلى تمدد واتساع.

في خطاب النصر الذي خرج به من فلوريدا ظهر الرجل منتشيّا بنجاح كاد يكون مستحيلا. لكنه في  خطبه التي ألقاها خلال شهور حملته الانتخابية، ظهر غاضبا حاقدا واعدا بالانتقام. لا نعرف ما إذا كان سلوكه كرئيس لكل أميركا وزعيما لأكبر دولة في العالم سيغيّر من عناوين مزاجه وسياساته. أخرج ترامب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018. يعود الرجل بعد 6 سنوات من ذلك التاريخ ليستنتج أن إيران باتت، ربما بفضله، على حافة العتبة النووية بمستويات تخصيب عالية أتاحها انهيار قيود اتفاق بات، بفضله أيضا، حبرا على ورق.

لا نعرف كيف سينهي حروب صديقه نتنياهو في المنطقة. كما لا نعرف كيف سينهي حرب صديقه بوتين في أوكرانيا. لا نصوص لا خطط لا نظريات في علم إدارة العالم  ومصالح الولايات المتحدة داخله. لطالما تفاخر بنزوعه لإخراج بلاده من حروب الآخرين. حين أخرج خلفه بايدن قوات بلاده من أفغانستان صبّ ترامب غضبا من  “انسحاب مهين”. كرر خلال الأشهر الأخيرة مقولة افتراضية لا دليل لها. قال “لو كنت رئيسا” لما نشبت حروب العالم. ثم أضاف ممعنا “حين أصبح رئيسا ستنتهي كل الحروب”. لا شيء غير الوعود، وهي زوّادة مرشح أعاد من جديد اقتحام ما اعتبره البعض أنه بات محرّما.