لاحظ المفكر اللبناني منح الصلح في احدى مشافهاته ان الترجمة البروتستانتية (الاميركية) للكتاب المقدس (التوراة والأنجيل)، وهي الأكثر انتشاراً، تفضل غيرها من الترجمات لأنها تتميز بالركاكة (بالمعنى الايجابي للكلمة، أي انها قريبة من كلام الناس من دون أن تحيد عن صحيح اللغة)، وبذلك اصبحت هذه الترجمة في موقع وسط بين الكلام اليومي وفصيح اللغة العربية.
أما المفكر خليل رامز سركيس وهو أحد أعلام البروتستانتيين (الانجيليين) في لبنان فقال لي انه يصلي بصفته مسيحياً بترجمة ابراهيم اليازجي الكاثوليكية لأنها اقرب الى مزاجه اللغوي العربي الأصيل.
ويروي امين البرت الريحاني حكاية ترجمات الكتاب المقدس الى اللغة العربية في كتابه الجديد “الترجمات العربية للكتاب المقدس وأثرها في عصر النهضة” الصادر عن دار نلسن للنشر في بيروت والسويد التي أسسها يوسف سلامة (1925-2000). وهو يخوض هنا في بحر يعرفه جيداً إذ سبق له أن ترجم الأناجيل في مطلع سبعينيات القرن الماضي وأصدرتها “منشورات العالم العربي” في طبعات متتالية بلغت ما يقارب نصف مليون نسخة، وعرفت بالطبعة الشعبية، وقد اعتمد فيها “لغة عربية مبسطة محاولاً توحيد المصطلحات المذهبية قدر المستطاع، فلا تعرف بترجمة بروتستانتية أو كاثوليكية أو أرثوذكسية، بل ترجمة مسيحية واحدة تتحدث عن المسيح الواحد وحياته الواحدة ورسالته الواحدة”.
ويشير الريحاني الى ترجمات عربية قديمة للأناجيل، بينها ترجمة في العصر العباسي ذكرها ابن عبد ربه في “العقد الفريد” ولم يحدد مصدرها، لكن نص الترجمة يستشهد بأقوال المسيح بأسلوب قرآني ونفس اسلامي، ومنها: “ويلكم يا عبيد الدنيا، كيف تخالف فروعكم اصولكم، وأهواؤكم عقولكم. قولكم شفاء يبرئ الداء، وفعلكم داء لا يقبل الدواء. لستم كالكرمة التي حسن ورقها وطاب ثمرها وسهل مرتقاها، ولكنكم كالثمرة التي قلّ ورقها وكثر شوكها وصعب مرتقاها”. وذكرت المراجع ترجمة للتوراة الى اللغة العربية في زمن المأمون، وهناك نسخة عربية للتوراة كانت موجودة في طرابلس – لبنان، وهي مأخوذة عن نسخة دمشق عام 1238 التي بدورها نسخت عن نسخة انطاكية عام 1021. ومن الترجمات القديمة ما يعود الى ترجمة سعيد بن يعقوب الفيومي لكتب موسى الخمسة وسفري اشعيا ويعقوب من الأصل العبراني. وقد طبعت عام 1546 بالأحرف العبرانية والسياق اللغوي العربي. والواقع أن نسبة ترجمات تلك المرحلة من العهد القديم هي أضعاف نسبة الترجمات لمختارات من العهد الجديد، وهذه تتميز بلغة عربية بليغة وكأنك تقرأ لغة الانجيل بنفس قرآني أو نفس الانجيل بلغة قرآنية.
أما الترجمات الحديثة فبدأت منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر واستمرت لاحقاً على نحو متقطع، ومن ابرزها الترجمة الارثوذكسية بعناية البطريرك اثناسيوس الدباس في حلب، وقد شكل لجنة من اللاهوتيين من مختلف الطوائف لتوحيد النص المعرب، ووردت في مقدمة الترجمة عبارات اسلامية مثل التنزيل والمصحف الشريف (اشارة الى الانجيل) وكلمة التلاوة بدل كلمة القراءة. ولم تحظ هذه الترجمة الرائدة باهتمام تستحقه لكن الكنائس الشرقية اعتمدتها لحوالى قرن ونصف قرن منذ صدورها عام 1706. وهناك ترجمة أحمد فارس الشدياق التي انجزها قبل اعتناقه الدين الاسلامي، وذلك بطلب من “الجمعية الانكليزية لترقية المعارف المسيحية” واستغرق الانجاز ست سنوات بين عامي 1851 و1857، وفضل الترجمة عما سبقها هو الارتقاء بلغتها العربية الى المستوى الذي دفع، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، القائمين على الترجمة البروتستانتية (اللاحقة والأكثر انتشاراً) الى العناية بلغة الترجمة العربية عناية خاصة لا تعرضهم الى الانتقاد او تسيء الى مشروعهم من ناحية المستوى اللغوي.
بعد ثماني سنوات على ترجمة الشدياق صدرت الترجمة البروتستانتية الاميركية في 1865 بعد وفاة مطلقها ايلاي سميث بثماني سنوات، وأنجزت الترجمة لجنة تضم، بالاضافة الى سميث، كلاً من: كارنيليوس فاندايك استاذ الطب والرياضيات والفلك في الكلية السورية الانجيلية في بيروت (الجامعة الاميركية) وهو مؤلف كتب علمية عدة باللغة العربية. المعلم بطرس البستاني الذي ولد مارونياً ثم اعتنق البروتستانتية، ومن مؤلفاته: موسوعة دائرة المعارف ومعجم محيط المحيط. الشيخ ناصيف اليازجي استاذ العربية وأدبها في مدرسة المعلم بطرس البستاني والكلية السورية الانجيلية ومن مؤلفاته “مجمع البحرين” و”العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب”. الشيخ يوسف الأسير من مدينة صيدا وخريج الأزهر في مصر واستاذ اللغة العربية وأدبها في مدرسة الحكمة في بيروت. ولا بد هنا من الاشارة الى أن لجنة الترجمة ضمت بروتستانتيين ثلاثة وكاثوليكياً واحداً هو اليازجي ومسلماً واحداً هو الأسير.
عن هذه الترجمة كتب ايلاي سميث: انني سعيت دائماً لأبقى وفياً للغة العربية الكلاسيكية، متوخياً أن تبقى العربية الفصحى قريبة من فهم العامة غير المتعلمين. ويشرح قائلاً: عمدنا الى بساطة اللغة في النصوص السردية التاريخية، وسعينا الى رفع المستوى اللغوي للنص الأصيل في المادة الشعرية. ورأى الباحث الكاثوليكي جورج غراف “ان الترجمة البروتستانتية العربية للعهد الجديد تحديداً، جاءت بكثير من العناية الفائقة والاهتمام الخاص للحفاظ على لغة بسيطة وأسلوب شعبي، فضلاً عن أدق التراكيب اللغوية الصحيحة”.
ويبقى ضرورياً ان نشير الى الترجمة الكاثوليكية التي كان أبرز منجزيها الشيخ ابراهيم اليازجي ابن الشيخ ناصيف، وتميزت بأنها من بين الترجمات الأخرى، في نظر امين البرت الريحاني، هي الأجمل بلاغة والأغنى بياناً والأدق ضبطاً لغوياً، وذلك بشهادة معظم الذين كتبوا عنها. وكان من المقيمين الاوائل لهذه الترجمة كارنيليوس فان دايك إذ قال “انها ترجمة عادلة مع اختلافات لغوية بسيطة”، لكن اقباط مصر كرروا رأيهم بأن “ترجمة بيروت البروتستانتية اقرب الى فهم عامة الناس، في حين أن ترجمة بيروت الكاثوليكية تستوجب احياناً العودة الى المعجم لفهم بعض مفرداتها”.
والحال انه على رغم الحضور المميز للترجمة الكاثوليكية، تبقى الترجمة البروتستانتية الأكثر حضوراً وانتشاراً لدى العامة والخاصة، وهي تشكل مرجعاً قريب المنال لمن يريد قراءة التوراة والأناجيل بالعربية من اليهود والمسيحيين واتباع الديانات الأخرى، خصوصاً المسلمين اهل البلاد التي ظهرت فيها الديانات التوحيدية الثلاث. وكان لا بد بعد ترجمة التوراة والانجيل ان يتصدى مترجمون عرب وغير عرب الى نقل كتب مقدسة أو شبه مقدسة لأمم الشرق الممتدة من ايران الى أقصى الصين واليابان لتجد مكاناً لها في المكتبة العربية وفي متناول عامة القراء والمتخصصين.
وفضلاً عن الحضور المعرفي والروحي لترجمة التوراة والانجيل، فقد تركت تلك الترجمة تأثيراً في الأدب العربي الحديث، خصوصاً لدى شعراء الحداثة من مسلمين ومسيحيين، وأبرز المتأثرين هما الشاعران: اللبناني يوسف الخال والعراقي بدر شاكر السياب.