سوق التمويل الأخضر تشهد نمواً كبيراً..فهل يستمر هذا المنحى؟
لم يعد التحول إلى “الأخضر” مجرد كلمة رنانة للحكومات او للشركات التي تسعى إلى الاستفادة من الائتمان الاجتماعي، بل بات مفهوماً قائماً بذاته في ظل التحديات المتنامية التي يواجهها الاقتصاد العالمي.
ولعلّ أبرز هذه التحديات تلك المتعلقة بالكوارث الطبيعية وتغيرات المناخ وتنامي الضغوط على الموارد الطبيعية، وهو ما يولّد تكلفة وأعباء إضافية قد تؤثر سلباً على الاستقرار المالي.

بات العالم اليوم يلمس آثار تغير المناخ على العديد من القطاعات الاقتصادية، حيث أصبحت الحاجة أكثر إلحاحاً لبناء اقتصاد أخضر مستدام قادر على الصمود في وجه التحديات والتغييرات المناخية والبيئية.
وللدلالة على تنامي هذا النوع من الاقتصاد ونموه المتسارع، تظهر الأرقام ارتفاع القيمة السوقية للتمويل الأخضر في عام 2021، إلى 540.6 مليار دولار، من 5.2 مليارات دولار فقط في عام 2012، وفق بحث أعده مصرفا “سيتي بنك” و”بي أن باريبا”.
ولكن ما هو التمويل الأخضر؟
تُعرِّف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) التمويل الأخضر بأنه تمويل يستهدف تحقيق النمو الاقتصادي مع الحد من التلوث وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، بالإضافة إلى تحسين كفاءة استخدام الموارد الطبيعية.
ويقصد بالتمويل الأخضر استخدام المنتجات والخدمات المالية، مثل القروض والتأمين والأسهم والسندات والصكوك وصناديق الاستثمار وغيرها، وذلك من أجل تمويل المشاريع الخضراء أو الصديقة للبيئة. وتشمل هذه الاستثمارات كل من الطاقة المتجددة، ومعالجة النفايات وإعادة تدويرها، وتدوير مياه الصرف الصحي، وحماية التنوع البيولوجي، والتخفيف من التلوث الصناعي وغيرها.
كما يعرّف التمويل الأخضر بأنه الأموال التي تحقق التوازن الاستراتيجي المتوسط والطويل الأجل للأهداف البيئية والخدمية في القطاعات البيئية بالشكل الذي يضمن تلبية حاجات الأفراد من السلع والخدمات وبين المحافظة على البيئة ودوام مواردها.
وقد تم إلقاء الضوء على أهمية التمويل الأخضر للمرة الأولى حيث أُطلقت مباردة تمويل برنامج الامم المتحدة للبيئة في العام 1992 بانضمام برنامج البيئة الى مجموعة من المصارف التجارية لتعزيز وعي البرنامج البيئي بالصناعات المصرفية.
واليوم، بات المفهوم الأخضر ملازماً لكل الخدمات والأدوات تقريباً. فهناك القروض الخضراء والتمويل للشركات، والودائع الخضراء والاستثمار الأخضر، والسيارات والبنية التحتية الخضراء، والرهون والقروض العقارية الخضراء،
منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
يشير تقرير لـ”آرثر دي ليتل”، شركة الاستشارات الإدارية الرائدة على مستوى العالم، إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سجلت تقدماً ملحوظاً على صعيد التمويل المستدام والأخضر. إذ بلغت الاستثمارات في هذا المجال 24.55 مليار دولار خلال العام 2021، مقارنة بـ3.8 مليارات دولار عام 2020، محققة نمواً ملحوظاً بنسبة 532 في المئة على أساس سنوي.

وبحسب التقرير، فإن “دولة الإمارات العربية المتحدة تستكمل رحلتها لتعزيز زخم الممارسات البيئية والمجتمعية وحوكمة الشركات عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بناء على النمو الاستثنائي الذي شهدته بنسبة 32 في المئة على أساس سنوي في مجالات التمويل الأخضر والمستدام خلال العام 2022”.
من هنا، فان الممارسات البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (SDG) شهدت اهتماماً متزايداً من جانب المؤسسات العاملة في قطاع الخدمات المالية في الفترة الأخيرة في المنطقة. ويتجسد هذا الامر على نحو ملحوظ في المنتجات والخدمات التي توفرها المصارف، والتي هي مطالبة أكثر اليوم بالعمل على نحو متسارع لوضع استراتيجياتها وتنفيذ تطلعاتها المستقبلية عبر كافة المجالات، لتلبية الاحتياجات الطارئة والتوافق مع المعايير الجديدة لتأمين التمويل الأخضر.
سوق السندات الخضراء
تشير “آلايد ماركت ريسرتش” إلى أن قطاع السندات الخضراء حقّق أعلى نمو في صناعة التمويل المستدام. ويعزى ذلك إلى حقيقة أن السندات الخضراء يمكن أن توفر العديد من الفوائد لكل من المصدّرين والمستثمرين، وتوسيع قاعدة المستثمرين ومزايا السمعة. إضافة إلى ذلك، اجتذب نمو سوق السندات الخضراء قاعدة مستثمرين متنوعة وأكثر انتشاراً.
وتعتبر الصين الدولة الأولى في إصدار السندات الخضراء العام الماضي، علماً ان الإصدار التراكمي للسندات العالمية حتى اليوم بلغ 2.247 تريليون دولار بحسب بيانات “مبادرة سند المناخ” (كلايمت بوند اينيشياتيف) التي تتوقع نمو هذا الرقم الى 5 تريليونات دولار في العام 2025. وأشارت الى ان حجم إصدارات السندات الخضراء بلغ 65.9 مليار دولار في أول شهرين من العام الحالي.
ويتوقع مصرف “باركليز” أن ينمو إصدار السندات الخضراء للشركات بأكثر من 30 في المئة في عام 2023، وأن يصل إلى مستويات مماثلة لتلك التي كانت موجودة في عام 2021. فوسط أسعار الفائدة المتزايدة، من المرجح أن يفضل المصدّرون السندات الخضراء على تلك المرتبطة بالاستدامة عند إضافة الملصقات البيئية والاجتماعية والحوكمة للادخار.
وماذا عن السندات الخضراء في المنطقة؟
في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تتميز سوق السندات الخضراء بمكانة رائدة، متفوقة على نظيرتها من الأسواق العالمية، بحسب “آرثر دي ليتل”.
وأظهرت بيانات من جداول أسواق رأس المال في “بلومبرغ” في يناير (كانون الثاني) أن إصدارات السندات والصكوك الخضراء من دول مجلس التعاون الخليجي سجلت رقماً قياسياً في عام 2022 عند 8.5 مليارات دولار من 15 صفقة، مقارنة بـ605 ملايين دولار من ست صفقات في عام 2021.
ويأتي هذا التوجه في منطقة الخليج في العام الماضي معاكساً لما شهدته الأسواق العالمية التي سجلت تراجعاً في مبيعات السندات والصكوك الخضراء والمستدامة الجديدة بنسبة 14 في المئة خلال عام 2022، لتنخفض من نحو 739 مليار دولار إلى 635 مليار دولار.
وتصدرت المملكة العربية السعودية قائمة جهات الإصدار في المنطقة بأكثر من 50 في المئة من إجمالي الإصدارات، بينما جاءت بقية الإصدارات من دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تركزت فيها كافة الإصدارات خلال عام 2021 على مستوى منطقة دول مجلس التعاون الخليجي.
وشهد عام 2022 عدداً من الإصدارات الأولى البارزة، بما في ذلك سندات خضراء بقيمة 3 مليارات دولار من صندوق الاستثمارات العامة في المملكة العربية السعودية، وأول صكوك مستدامة بقيمة 750 مليون دولار من بنك “دبي الإسلامي”، وأول صكوك مستدامة بقيمة 750 مليون دولار من “البنك الوطني السعودي”، فضلاً عن سندات خضراء بقيمة 500 مليون دولار من بنك “أبوظبي التجاري”.
وكان بنك “أبوظبي الأول” من أبرز الرواد في المنطقة خلال عام 2022، بفعل إطلاقه ثلاثة إصدارات للسندات الخضراء، بقيمة بلغت نحو 1.49 مليار دولار خلال هذه الفترة.
وبين عامي 2016 و2020، نما إصدار السندات الخضراء في منطقة الشرق الأوسط بنسبة 38 في المئة وفقاً لمجموعة “بوسطن” الاستشارية التي قالت إن حكومات الشرق الأوسط قادت 97 في المئة من إصدارات السندات الخضراء عام 2020 وحده، مقارنة بـ13 في المئة قبل أربع سنوات.
واقع التمويل الأخضر في 2023
سيعتمد نمو سوق السندات الخضراء هذا العام على انتعاش الاقتصاد العالمي.
ومن المتوقع أن يتباطأ النمو الاقتصادي العالمي إلى 3.2 في المئة عام 2022، و2.7 في المئة عام 2023، من 6.0 في المئة في عام 2021، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
بحسب ما ذكرته “ستاندرد آند بورز”، قد يظل بعض المُصدرين، وخصوصاً الشركات الخاصة، “على الهامش” تحسباً لمزيد من الزيادات في الأسعار، بينما قد يندفع آخرون للإصدار بالمعدلات الحالية.
ختاماً، كل الأنظار تتجه الى مؤتمر المناخ (كوب 28) المنوي عقده في دولة الامارات في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الجاري، والذي يأتي بعد الاتفاق على “الخسائر والأضرار” للبلدان المعرضة للخطر والذي تم إحرازه في شرم الشيخ العام الماضي.
العديد من قضايا تغيّر المناخ تنتظر الحسم خلال قمة “كوب 28” ويعوّل عليها في إعطاء دفعة كبيرة في مجال الحد من الانبعاثات والتكيف مع آثار التغيرات المناخية. ومن أبرز القضايا تمويل المناخ على اعتبار أن الدول الصناعية لم تلتزم بتوفير التمويل التي ألزمت نفسها به في قمة كوبنهاغن عام 2009، ما يستلزم الاتفاق على هدف عالمي جديد لتمويل المناخ في ظل الأحوال الجوية الجامحة التي تضرب الكثير من الدول النامية والأقل نمواً.
فهل سيتحقق حلم توفير التمويل لبلوغ أهداف كوكب أخضر بلا انبعاثات؟