مقابلة الوزير زياد بارود لـ الحصاد

كيف للدولة العميقة والعقيمة أن تقبل ببناء دولة مدنية؟

هو زياد بارود… المحامي والباحث الاكاديمي الناشط والحاضر سياسياً وقضائياً ودستورياً وثقافياً وفي المنتديات والجمعيات الاهلية، عاملاً على الاصلاح والتغيير بالوسائل الديمقراطية لا العنفية، قبل ان يُصبح وزيراً للداخلية والبلديات في عهد رئيس الجمهورية الاسبق ميشال سليمان في حكومة الرئيس فؤاد  السنيورة (2008- 2009)، وعندما شُكّلت حكومة الرئيس سعد الدين الحريري احتفظ فيها بمنصب وزير الداخلية والبلديات، وظل في المنصب حتى 13حزيران (يونيو) 2011.

    كانت له مبادرات تغييرية في الوزارة وخارجها، منها المساهمة في اقتراح قوانين انتخابية عصرية واصلاحية، وليس اقلها التجوال ليلاً في بيروت والمناطق الاخرى للتأكد من التزام المواطنين بشارات السير وبإداء قوى الامن

الوزيرزياد بارود

 والشرطة، وصولاً الى طرح مشاريع قوانين تغييرية وإصلاحية لم يلتفت اليها احد فاستقال من الوزارة إنسجاماً مع قناعاته.

  لا ينتمي زياد بارود إلى عائلة سياسية، ولا إلى حزب، ولا يملك ثروة، ولم يُسمع له يوماً خطاب يستثير الغرائز الطائفية. والمرة الأخيرة التي انخرط فيها في السياسة، بمعناها “المهني- التقني”، كانت “الدعسة الناقصة”- كما يصفها- بترشحه إلى الانتخابات النيابية عام 2018 على لائحة “التيارالوطني الحر” حيث لم يحالفه الحظ فخسر الانتخابات نتيجة عدم التصويت له بكثافة لانه ليس ممن يمتهنون النيابة للوجاهة او للخدمات الصغيرة.واحجم عن الترشح في انتخابات 2022 لأن مثله لا يجد له مكاناً بين لوائح القوى التقليدية ولا بين لوائح “حديثي النعمة” بالعمل السياسي والتشريعي وهو صاحب الباع الطويل في التشريع.

ولمن لا يعرف سيرة بارود،هذا جزء من سيرته الواسعة هو:

 مستشار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ عام 2001.

مستشار قانوني لعدد من المنظمات الدولية في بيروت.

المستشار القانوني لوحدة دعم المنظمات غير الحكومية في وزارة الشؤون الاجتماعية.

عضو لجنة تحديث القوانين في وزارة العدل بالفترة بين 1997 – 2005.

عضو لجنة تأليف كتاب التربية المدنية للصف الثانوي الثالث.

باحث في المركز اللبناني للدراسات.

تولى رئاسة الأمانة العامة للجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات في الفترة بين 2004 – 2005.

عضو بمجلس إدارة الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية – لا فساد، وعضو مجلس أمناء جمعية بيروت ماراثون.

اختير في المنتدى الاقتصادي العالمي من بين 250 قياديًا شاباً عام 2007.

شارك في مؤتمر “سان كلو” الحواري السياسي بين المجموعات اللبنانية في فرنسا بدعوة من الخارجية الفرنسية كأحد ممثلي المجتمع المدني.

عضو اللجنة الوطنية للأونيسكو.

عضو الهيئة الوطنية لقانون الانتخاب برئاسة الوزير السابق فؤاد بطرس.

له العديد من المؤلفات القانونية والأوراق البحثية في مسائل دستورية وانتخابية، وحول اللا مركزية الإدارية وقوانين الجمعيات والأحزاب وقطاع التربية والتعليم والشباب.

لهذه الاسباب ولغيرها ممّا نعرفه شخصياً عن الرجل بالإداء والممارسة والتوجه والمشروع، كان هذا الحوار لـ “الحصاد” مع زياد بارود الاصلاحي – التغييري، حول اسباب الانهيار الكبير الذي حصل في لبنان، وسبل الخروج منه وصولاً الى بناء الدولة المدنية العادلة القوية، لادولة المحاصصة الطائفية والزبائنية والفساد.

*ما هي برأيك الاسباب الحقيقية للإنهيار الذي اصاب لبنان على كل المستويات السياسية والاقتصادية والمالية والمعيشية والقضائية والتربوية والصحية:

–        تركيبة النظام السياسي –الطائفي – النفعي الريعي

–        أم ممارسات الطبقة السياسية قبل وبعد اتفاق الطائف ودستوره؟

–        ام هناك اسباب اخرى غير منظورة؟

  • يُخطئ من يعتبر أن الانهيار كان إبن ساعته. هي تراكمات على مدى عقود وليس سنوات أدّت إلى انهيار تسارعت تعابيره على نحو “دومينو”، نظراً للترابط بين السياسة والاقتصاد. في أساس المشكلة، أزمة نظام سياسي- طائفي فاقم دستوره هذه الأزمة، فإذا به وجهة نظر، لا كتاباً مرجعياً لحل الخلافات. وما زاد الطين بلّة هو حجب صلاحية تفسير الدستور عن المجلس الدستوري حال إنشائه عام 1990، وكأن المقصود هو استمرار التخبّط في تفسيرات متناقضة بدل الركون إلى مرجعية الدستور كحَكَم موضوعي.

*هل التعديلات التي أُدخلت على الدستور بعد اتفاق الطائف ساهمت في هذا الاتجاه؟

  • أميل إلى الاعتقاد بأن سوء تنفيذ الاتفاق من البعض، من جهة، وعدم تطبيقه في جزء من بنوده كاللامركزية وتشكيل مجلس الشيوخ، من جهة أخرى، جعلاه يفقد جزءاً من أهميته، والأمر لم يكن بريئاً، بل إمعانا في التعطيل. هذا التعطيل هو سمة المرحلة التي سبقت الانهيار، حيث لا شيء يحصل فعلاً، وحيث الفساد مستشرٍ، وحيث الطبقة السياسية بمجملها في غربة تامة عن هموم الناس ومصاعبهم، بل حتى عن طموحاتهم وأحلامهم.

*نظرية المؤامرة تأخذ البعض إلى الاعتقاد بأن الانهيار هو خطة مدبّرة ذات أبعاد دولية؟

  • لا أستبعد التقاطع بين الداخل والخارج، وإنما لا نستطيع أن نبرّئ أنفسنا من تراكمات تقع مسؤوليتها علينا أيضا.

*معاليك كنت وزيراً للداخلية وعشت تركيبة النظام وممارساته وادائه. ماهي ملاحظاتك عليه. وما هي ابرز اخطاء هذه التركيبة؟

  • قطعا ليست المشكلة في التنوّع الطائفي، ولا في التركيبة المعقّدة تكويناً، المشكلة هي في سوء إدارة هذا التنوّع في الدستور وفي الممارسة السياسية. “التركيبة” التي ضربت إستقرار لبنان في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن بكل تعابيره هي تركيبة سلطة تعرف تماما كيف تختلف وكيف تتفق على البلد. تركيبة مصلحية، زبائنية، فاسدة، أمعنت في تعزيز شوائب النظام وإعطائه هوامش واسعة في الإمساك بمفاصل البلد ومؤسساته. مجرّد المقارنة بين حال الإدارة العامة في ستينات القرن الماضي وبين حالها اليوم، تعطيك صورة واضحة عن سياسات سلطة لم ترتقِ إلى مصاف الدولة.

*هل ترى مخاطر على الكيان اللبناني في ظل هذه الظروف. ماهي  وكيف يمكن تلافيها؟

  • لقد دفعنا ثمناً لهذا الكيان بالدم والدمار والقهر وحروب الآخرين وحروبنا نحن. نهائية الكيان لا ينبغي أن تُمسّ ولا يجوز إعادة النظر في الكيان اللبناني كلّما اهتزّت أمور السياسة. لا أرى خطراً على الكيان وإنما أخاف كثيرا على ما يعنيه هذا الكيان. أخاف على لبنان الرسالة، أخاف على معنى لبنان كما نشأ تاريخياً. أخشى أن يبقى لبنان الجغرافي ويتلاشى لبنان التاريخي. بعض من لا تناسبه التجربة اللبنانية، على علاّتها، قد يسعى إلى ضربها فلا يبقى من هذا الكيان إلاّ شكليات منه. لبنان العميق هو لبنان الذي يحسن إدارة التنوّع، ليس فقط الطائفي وإنما أيضا الفكري والثقافي والسياسي، وحسن الإدارة تمرّ بآليات دستورية من شأنها تصويب اعوجاج النظام.

*يعتقد البعض وربما الاكثرية بعد التجربة، ان دستور الطائف تضمن ثغرات سمحت بتجاوزه وتطبيقه المشوّه الانتقائي، هل يمكن من خلال الدستور تصحيح المسار ام هناك وسائل اخرى؟

  • تحت هذا العنوان يجب أن يتم العمل على محورين: الأول، تقييم اتفاق الطائف بصورة موضوعية لنرى لماذا لم تطبّق أجزاء أساسية منه كاللامركزية الإدارية واستحداث مجلس للشيوخ وإلغاء الطائفية السياسية… أقول تقييم لأن أي اتفاق لا بد وأن يُقيّم بعد أكثر من ثلاثة عقود على وضعه.

  المحور الثاني يتعلّق بتعديلات دستورية باتت ملحة لمعالجة ثغرات في الدستور تحول دون انتظام الحياة السياسية. تصحيح المسار يجب أن يمر عبر الآليات الدستورية، ولكن للأسف، علمتنا تجربة العقود الماضية أن سلوك هذه المسارات الدستورية لا يحصل إلا على دم وفوضى وغالب ومغلوب.

* التركيبة السياسية القائمة منذ اتفاق الطائف تجدد نفسها دائماً.ماهي برأيك وسيلة التغيير لإيصال تركيبة جديدة تتولى الاصلاحات والتغيير الحقيقي؟

  • قانون الانتخاب هو حجر الزاوية بمنطق التغيير الديمقراطي. لكن من يضع قانون الانتخاب ؟ التركيبة السياسية القائمة التي تسعى دائما إلى قانون يحمي مصالحها، بل استدامة وجودها. ما شهده لبنان بعد 10 تشرين 2019 فرمل وقاحة بعض الطبقة السياسية إلى أن حصلت انتخابات 2022 ، فإذا بالقوى السياسية التقليدية تعود إلى سابق ما كانت عليه على خلفية ما أنتجته تلك الانتخابات. ولأن قانون الانتخاب تم تخيطه على القياس، اقتصر التغيير على عدد محدود من المقاعد. ومع ذلك، حصل الخرق وهذه بداية، شرط أن تستمر.

*طموح شريحة كبيرة من اللبنانيين بناء الدولة المدنية غير الطائفية على اسس سليمة؟ كيف يتم ذلك، هل بتعديل الدستور ام بقانون الانتخاب، ام بتصحيح مسار وقانون القضاء وضمان استقلاليته ليصبح قادراعلى المساءلة والمحاسبة بعيداً عن الارتهان الطائفي والسياسي؟

  • هذا عودٌ على بدء. لن أكرّر ما قلته حول دور الدستور والقضاء وقانون الانتخاب. أود فقط أن أضيف أن الدولة المدنية هي مناخٌ تشريعي وإداري منفتح، يحترم خصوصيات لبنان وجميع مكوّناته. الدولة العميقة، بل العقيمة، التي رفضت مجرّد الزواج المدني الاختياري، أشدّد: الاختياري! كيف لها أن تقبل ببناء دولة مدنية؟ هذه الدولة هي ملك الناس، ملك الشباب في طموحاتهم، وهي لا تتعارض إطلاقا مع تكوين لبنان، بل تنقله من نظام أفسده إلى حالة تطويرية تأخذه إلى دولة الحق، لا القانون، لأن هذا الأخير على هوى البشر، أما الحق فمطلق.

*من هي الجهة المؤهلة لتحقيق الاصلاح في بنية النظام ومكافحة الفساد والفاسدين؟

  • القضاء أولاً. قضاء مستقل ومعه سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية يواكبان خطة إصلاحية شاملة. الإصلاح تشريع يجب أن يتولاّه مجلس النواب عبر إقرار قوانين باتت ملحّة، وهو سلطة تنفيذية تطبق هذه القوانين عبر مؤسساتها كالتفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة. لماذا لم يطبق نظام “وسيط الجمهورية” الذي أقر قانونه منذ 2005؟ لماذا لا تعطى المؤسسات الرقابية أكبر هوامش صلاحيات ممكنة مع الإمكانيات المناسبة؟ هل سيكتب النجاح لهيئة الشراء العام وللهيئة الوطنية لمكافحة الفساد؟ هذا كل متكامل وما يعيقه هو القرار السياسي الممانع للإصلاح لأن “رأسه بالدق”. وانا أستغرب مناقشة مطالب صندوق النقد الدولي، لأن هذه المطالب يجب أن تكون مطالب لبنانية قبل أن تكون من المجتمع الدولي. يجب لبننة عملية الإصلاح لأن كلفة الفساد فاقت كل تصوّر، ولأن الانهيار الكبير الذي أرهق لبنان واللبنانيين هو أيضا فرصة لطيّ الصفحة وكتابة صفحة جديدة ناصعة يستحقها أبناء وبنات هذا الوطن.