المماتنات الشعرية… بين الفن الأدبي الرفيع والملح اللطيفة

المماتنة لغة تعنـي المعارضـه والجـدل والخصومة. أما اصطلاحا فهي تنازع شاعرین یقول أحدهما صدر بيت والآخر عجزه. وتسمى كذلك الممالطة من مصدر ملط  والملط في اللغة هو إتيان الشيء من غير إتمام، قولهم : أملطت الحامل أي أسقطت جنينها فلم تتم ولادته، وملطت الأم ولدها ولدته من غير تمام، وفي المصطلح (مَلَّطَ الشَّاعِرُ فَأَجَازَ شَاعِرٌ آخَرُ): قَالَ نِصْفَ بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ وَأَتَمَّهُ شَاعِرٌ آخَرُ. وعلى هذا فالممالطة الشعرية أو المماتنة هي مباراة بين شاعرين يقول أحدهما نصف بيت من الشعر ويكمله الآخر وهكذا الى ان يتغلب أحدهما. والغرض من ذلك كلّه إظهار المقدرة اللغوية والشعرية.

وقد عٌرف هذا النوع من الفنون الأدبية في عصر ما قبل الإسلام. لكن من الصعوبة تحديد الفترة الزمنية التي ظهر به. إلا أنّ هناك مماتنات شعرية قد تناقلتها كتب الأدب في ذلك العصر؛ منها مماتنة شاعر المعلقات المعروف أمرؤ القيس مع الحارث بن التوأم اليشكري، حيث أقبل امرؤ القيس ذات يوم فلقي التوأم اليشكري وهو الحارث بن قتادة ويكنى أبا شريح فقال امرؤ القيس: إن كنت شاعراً كما تقول فملّط أنصاف ما أقول.

فقال امرؤ القيس: أحار ترى بريقاً هب وهناً

فقال التوأم: كنار مجوس تستعر استعارا

فقال امرؤ القيس: أرقت له ونام أبو شريح

فقال التوأم: إذا ما قلت قد هدأ استطارا

فقال امرؤ القيس: كأن حنينه والرعد فيه

فقال التوأم: عشار وله لاقت عشارا

فقال امرؤ القيس: فلم يترك ببطن الأرض ظبياً

فقال التوأم: ولم يترك بجلهتها حمارا

فقال امرؤ القيس: فلما أن دنا لقفاً أضاحٍ

فقال التوأم: وهت أعجاز ريقه فحارا

فقال امرؤ القيس:  لا أتعنّت على أحد بعد ذلك بالشعر، فقيل إنه عز على ابن حجرٍ مماتنته ومساواته له، وآلى ألا ينازع شاعراً أبداً.  وكان أبو عبيدة يقول: هي محمولة عليه. حيث بهت امرؤ القيس مما رأى من بداهة اليشكري فأقسم ألا ينازع الشعر أحداً.

وكما نرى من خلال المماتنة فانها تلتزم القافية الواحدة والوزن والروي، كما أن ألفاظها وصورها ومنازعاتها من البديهة الارتجالية؛ وهو ما يميز هذا النوع من الفنون الشعرية عن غيره.

ويبدو أن المماتنة أنواع وأنماط فهي تبدأ بمماتنة الشاعر لنفسه؛ وهو ما يطلق عليه اصطلاحا (المماتنة الأحادية) كما فعل أمرؤ القيس حين أخذ بعض صدور قصائده وبدّل أعجازها؛ من ذلك قوله:

 مـــكَرٍّ مــِفَرٍّ مُقْبلٍ مــُدْبِرٍ َمـــــــعًا كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عل

 فماتن نفسه في صدر هذا أكثر من مرة بأن جعل له عجزا غير الأول حيث قال في موضع آخر:

 مكَرٍّ مفَرٍّ مُقْبلٍ مُدْبِرٍ مـــــــــــــــــــعًا   كَتَيْس ظِبَاءِ الـــــــــــحُلَّبِ العَدَوَانِ

وكذلك فعل في صدر بيت آخر فقال:

وقد أَغْتَدِي والطَّيْرُ في وكَنَاتِها      بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابِدِ هَيْكَلِ

فماتن نفسه فقال:

وقَدْ أَغْتَدِي والطَّيْرُ في وكَنَاتِهَا    وَمَاءُ النَّدَى يَجرْي على كُلِّ مِذْنَبِ

كما ماتن نفسه أيضا بنفس الصدر فقال في موضع آخر:

وقد أَغْتَدِي والطَّيْرُ في وكَنَاتِها   بمُنْـــجَرِدٍ عَبْلِ اليَــــــدَيْنِ قَبِيْضِ

أما ما يسمى بـ(المماتنة الغيرية) فهي عندما يماتن شاعر شاعرا غيره في مباراة من أجل الفوز والغلبة كما رأينا آنفا مماتنة أمرئ القيس واليشكري.

ومن أجمل ما روي من المماتنات الشعرية أن رجلا التقى الفرزدق وكان قادما من اليمامة، فسأله الفرزدق هل التقى بجرير الشاعر، فقال الرجل نعم. فقال الفرزدق هل عَلِقْتَ من جرير شيئًا؟

فأنشده الرجل قصيدة جرير، لكنه اكتفى بذكر صدور الأبيات فقط، لأن الفرزق أكمل أعجازها. حيث ذكر الرجل ما قاله جرير إذ أنشده :

هَاجَ الهَوَى بفــــؤادِكَ المُهْتَاجِ

فقال الفرزدق :فانْظُرْ بتُوضِحَ باكِرَ الأحَــدْاَجِ

فقال : هذا هَوًى شَغَفَ الفُـــؤادَ مُبَرِّحٌ

فقال الفرزدق :ونَوًى تَقاذفُ غَيْرُ ذاتِ خِلاجِ

فقال : لَيْتَ الغرابُ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِبـًا

فقال الفرزدق : كَانَ الغُــــــــرابُ مُقَطَّعَ الأوداجِ

فَمَا زال الرجل ينشدُهُ صدرًا صدرًا من قَوْلِ جرير وينشدُهُ الفرزدق عَجُزًا عَجُزًا حتى ظَنَّ الرجلُ أنَّ الفرزدق قالها وأنَّ جرير سَرَقَهَا.

والظاهر أن المماتنة لا تقتصر على نصف بيت من الشعر بل تتعدى ذلك الى بيت مقابل بيت باستعمال نفس الصدر من أبيات الشعر من ذلك قول مالك بن الريب:

العَبْدُ يُقْرَعُ بالعَصَا  والحُرُّ يَكْفِيْهِ الوَعِيــدْ

ماتنه فيه يزيد بن ربيعة بن مُفَرّغ، حيث قال:

العَبْدُ يُقْرَعُ بالعَصَا    والحُرُّ تَكْفِيْهِ المَلامَة

وماتنه آخر، حيث قال:

العَبْدُ يُقْرَعُ بالعَصَا    والحُرُّ تَكْفِيْهِ الإِشَارة

ان المماتنات الشعرية بهذا الرقيّ من المستوى لتشكل منعطفا بنويّا جديدا يقوم على استحداث قراءات جديدة لنفس الصور والمفاهيم الشعرية الواردة وتغييرها من أجل استخلاص قيم معنوية جديدة تتميز بإبداعية الصور والألفاظ.

ومن الجدير القول إن الشعراء العرب آنذاك يفتخرون بقدرتهم على الممالطة والمماتنة في الشعر وكانوا يرون ذلك من أسباب العزة والتميّز بل  يرون أنها من أسباب الشرف والعلو والرفعة.

روى ابن الكلبي أن غلاما من بني جنب يقال له رفاعة أو المحترش نبغ في الشعر وماتن شعراء قومه حتى تفوّق عليهم، فلما وثق من نفسه بذلك قال لأبيه: لأخرجن في قبائل اليمن، فإن وجدت أحداً يماتنني رجعت إلى بلادي، وإن لم أصادف من يماتنني تقرّيت قبائل العرب. وقد أورد أنه قال دفعت إلى صرم من جرم، فإذا صبيان على غدير يرتجزون، فدعوت غلاماً منهم من أبشرهم.  فقلت:  يا غلام. هل في صرمكم من يماتنني؟ فإني قد برّزت على شعراء العرب، فقال:  أنا.  فقلت:  أنت أيها الفصيل! فقال : قل ودع عنك ما لا يجدي:

فقلت : أوابد كالجزع الظفاري أربع

فقال: حماهن جون الطرتين مولع

فقلت: يرود بهن الروض في الأمن جاره

فقال: وأحلى لهن المنتضى والمودع

فقلت: فلما اشتكت أمّات قردانه السفا

فقال: وحب على البيد السفير الممذع

فقلت: وشبت على الأكباد نار من الصدى

فقال: تظل لنا بين الحيازيم تسفع

فقلت: أولى لك! وامتطيت راحلتي.

إنّ المماتنة في واقعها جـزء مـن حركـة الـشعر العربـي وربما تكمن علّتها وأهدافها بعدة أمور منها  قیاس الشاعریة والتباري ومدى القدرة على التضمين والتشطير وتوجيه المعنى. وقد ذكر جواد علي في كتابة (المفصل في تاريخ العرب) ان الغرض من المماتنة الشعرية هو التفاخر والتنافر والتعجيز وإظهار النفس بالتغلب على المنافس.

ومن أشهر وأجمل المماتنات الأحادية المروية في كتب الأدب مماتنة ديك الجن لبيت من الشعر يردده ويتنوع فيه عل مستوى اللفظ والمعنى والصورة حيث قال:

قولي لطيفِك ينثني عن مضجعي وقت الرقاد

كي أستريحَ وتنطفي نار تأجج في الفؤاد

مضنىً تقلّبه الأكُفُ على فراشٍ من سُهاد

أما أنا فكما علِمتِ فهل لوصلِكِ من معاد ؟

قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت الوسن

كي أستريح وتنطفي نار تأجج في البدن

دنف تقلبه الأكف على بساط من شجن

أما أنا فكما علمت فهل لوصلك من ثمن؟

قولي لطيفِك ينثني عن مضجعي وقت الهجوع

كي أستريحَ وتنطفي نارٌ تأجج في الضلوع

مضنىً تقلّبه الأكُفُ على فراشٍ من دموع

أما أنا فكما علِمتِ فهل لوصلِكِ من رجوع ؟

قولي لطيفِك ينثني عن مضجعي وقت المنام

كي أستريحَ وتنطفي نار تأجج في العظام

مضنىً تقلّبه الأكُفُ على فراشٍ من سقام

أما أنا فكما علِمتِ فهل لوصلِكِ من مرام ؟

ولا تقتصر المماتنة على المباراة من أجل الغلبة؛ فلقد ورد في الشعر ما كان منها لأجل الملح والاستظراف وحتى تكملة الشاعر لقرينه على سبيل المشاركة في الموضوع نفسه وللدلالة على الشعور والأحاسيس نفسها. من ذلك ما روي عن النابغة الذبياني يريد سوق بني قينقاع، فلحق الربيع بن أبي الحقيق نازلاً من أطمه فلما أشرفا على السوق سمعا ضجة، وكانت سوقاً عظيمة، فحاصت بالنابغة ناقته:

 فقال: كادت تهلل من الأصوات راحلتي

ثم قال:  يا ربيع أجز.

فقال :والنفر منها إذا ما أوجست حلق

فقال:  ما رأيت كاليوم شعراً! ثم قال: أجز:

لو لا أنهنهها بالزجر لاجتذبت

فقال: متى الزمام وإني راكب لبق

فقال النابغة: قد ملّت الحبس في الآطام واشتعفت

فقال: إلى مناهلها لو أنها طلق

فقال النابغة:  يا ربيع أنت أشعر الناس.

ومن الملح أن أعرابيا اسمه عتبة  يقول الشعر وكان ظريفاً من الأعراب، فضمه الحسن بن وهب إليه، فاجتمع الحسن يوماً وإبراهيم بن العباس، فقال لهما عتبة هذا:  إن كنتما تقولان الشعر بالعجلة، فاهجواني:

فقال الحسن: لمن طلل في رأس عتبة مقمل

فقال إبراهيم:عفته رياح الصفع تعلو وتسفل

فقال الحسن:شكا ما يلاقيه من الصفع رأسه

فقال إبراهيم :تناوبه منه جنوب وشمأل

فقال الأعرابي:  والله لئن لم تمسكا لأخرجن من البلد.

ومن أروع ما نقل من المشاركة بموضوع واحد ما روي أن المعتمد بن عباد ركب في يوم قاصداً الجامع، والوزير أبو بكر بن عمّار يسايره، فسمع أذان المؤذن.

فقال المعتمد: هذا المؤذن قد بدا بأذانه

فقال ابن عمار: يرجو بذاك العفو من رحمانه

فقال المعتمد: طوبى له من شاهدٍ بحقيقةٍ

فقال ابن عمار:إن كان عقد ضميره كلسانه

وروي ان رجلا من التجار بمصر يعرف بأبي الفضل ابن فتوح المصري انه قال: سكنت بدار في الخطة المعروفة بدويرة خلف، فرأيت جميع جدران المنزل مكتوبةً بأخبار بديعة وأشعار مستحسنة السبك، ووجدت في جملتها: اجتزت في بعض الأيام بصديق لي من المعلمين وهو في مكتبه، وصبيانه قد حفّوا به، فأحضر صبياً منهم، وقال لي: اختبره فإنه يقول الشعر الجيد:

فقلت له: أجز:

وشادنٍ ذي شطاط

فقال: حجي له ورباطي

فقلت:موكل بضميري

فقال:معلق بنياطي

فعجبت من سرعة بديهته مع صغر سنه، ثم تمادى الأمر، فاشتهر بقول الشعر، فنمّي إلى السلطان تميم بن المعز أنه هجاه، وأنه قال فيه:

بلد مظلم وملك ظلوم             وهما فيح حمةً وتميم

هو فيها كمالك والمقيمون بها المجرمون وهي الجحيم

فاستحضره السلطان، واستخبره عما قال فيه، فأنكره وقال: إنما قلت:

عرّجا بي فذا مناخ كريم  هذه حمنة وهذا تميم

هذه الجنة التي وعد اللهـ وهذا صراطه المستقيم

فاستظرفه تميم واستلطفه وأكرمه ثم صرفه.

وقد نقل أيضا من ملح المماتنة أن المعتمد على الله بن عباد قصد؛ وهو بسبتة أيام جوازه للقاء ابن تاشفين للاستنجاد به، فوصف له، فحضر، فأنشده، فقال: هذا يصلح لمنادمتنا الليلة، وأمر بإمساكه، فسقي، وجرى في المجلس حديث فرس أدهم كان مشهوراً بالأندلس، وعزيز المحل عند المعتمد. واتفق أن الرجل سكر ونام، فخرج منه ريح بصوت شديد:

فقال المعتمد ارتجالاً:

فيا عجباً من ضعيف القوى    تزلزلت الأرض من ضرطته

ثم قال لندمائه: لا يشعره أحد بما جرى، واستيقظ الرجل فقال كالمعتذر من نومه: إن هذا النوم سلطان.  فقال بعض الندماء الحاضرين:  صدقت، قد سمعنا طبله؛ فجعل الرجل يقول: رأيت في منامي كأن السلطان أعزّه الله قد حملني على فرس أدهم؛ من صفته كذا ومن صفته كذا.

فقال المعتمد: صدقت، قد سمعنا تحتك صهيله.

ثم قال المعتمد:  قولوا في هذا شيئاً:

فقال بعض الحاضرين: وضرطةٍ كالجرس

فقال المعتمد:أو كصهيل الفرس

فقال الشاعر: أفلتها صاحبنا

فقال المعتمد:عند انصرام الغلس

فقال الشاعر: سمعتها من سبتةٍ

فقال المعتمد: وأصلها من تنس (وتنس مدينة غرب الجزائر).

سيبقى الشعر بفنونه المتنوعة جيّاشا بالإبداع والمؤانسة كونه ينطق عن لغة اختارها الله سبحانه وتعالى لفظا لقرآنه ورسالته الخاتمة.