حين تخرس أصوات العالم

اين أصوات العالم تعلو لإنقاذ شعب يغرق؟ سؤال يطرح كل عقد أو عقدين حين يصل الاجتماع اللبناني الى طريق مسدود، ويفضل كل فريق (ولنقل كل طائفة) حليفة الخارجي على شريكه في الوطن، بغض النظر عن طبيعة موقفه حقا أو باطلا، وحين تصير الأمور كلها نسبية فيتساوى الخير والشر على صفيح ساخن يحرق اقدام العابرين.

سؤال يهرب منه الجميع: من أعطى الأمر بفتح جبهة في جنوب لبنان أدت، حتى الآن، الى تهجير حوالي مليون واربعمئة الف مواطن وتهديم معظم مدنهم وقراهم؟ سؤال يجرح الضمائر مثل سكين يحمله قاتل أعمى.

لا مكان يلجأ اليه لبنانيون فقدوا بيوتهم وأرض الآباء والأجداد، تلك حال لم يختبر لبنان مثيلا لها قبل ولادة كيانهم السياسي وخلال عمر هذا الكيان. لا مكان للجوء الأجساد ولا للجوء الأفكار التي تتصادم في الرأس حتى تكاد تحطمه، ولبنان هذه الأيام واقع في فم التنين، أو أنه قبضته مياه تفلت من بين الأصابع. ولا صوت يعلو لنصرة شعب لم يتعلم من التجارب. لقد ملّ منا العالم وصار يرانا أغبياء ولكن، يتقنون لغات أجنبية ويلبسون أحدث الثياب ويدندنون بأشهر أغاني العالم.

لا حكمة حين تركض أمامك الكرامة، لا تستطيع اللحاق بها. لقد وقعت في فخ النخبة فاختلطت كرامتك بكرامة المجتمع، وأنت تركض فلا تستطيع القبض على ضوء الكرامة لوضعه في قلبك المطفأ.

ولا حكمة لمن يلقي على كاهله مسؤولية ليست مطلوبة منه، واقعا في وهم القيادة فيما يعجز عن قيادة نفسه. لا حكمة للنخبوي الموهوم. يمكنه العزف على الرصيف مستعيداً ما تعلم في مدرسة الطفولة، عزفا يسمعه عابرون من دون تركيز ولا تعليق، أو انه يتجول في ما تبقى من حدائق، أو يبتعد عن رفاق اغتسلوا من غبار النخبة لئلا يحرج نفسه أو يحرجهم، أو أن يقرأ في كتب مرمية على الطريق يحسن كتابة ما هو أفضل منها.

لا حكمة لمن ينهي حياته شبه متشرد لأنه، في غير محطة من حياته، لم يكن واقعياً واستسلم لزمن يعلي وينخفض ولا يستطيع أحد مجابهته.

ولا وجه واحدا في الرؤية لأن الوجوه محكومة بالتكسر و ترى نصف وجه في نصف النافذة المفتوحة، يكتمل بنصفه الآخر أم أنك تكمله من خيالك ذاهبا الى تركيب مزدوج يتفق مع حب امرأتين؟ شيء من لعبة فيلم “برسونا” لانغمار برغمان، ولكن على طريقتك أنت: هل يؤلف مونتاج الصور وجها واحدا لحبيبتين؟

-وجه في القطار يبتسم من نافذة العربة، تركض متلهفا لمزيد من الرؤية أو لتبادل الكلام. تركض لكن القطار يفوتك ويقتحم الأفق. الوجه في نافذة القطار لوحة باقية، تستطيع إعادة رسمها كل يوم. وجه مستحيل لكنه مثل نقش في الروح حتى آخر العمر.

عينا المرأة المهاجرة مأساويتان، لأن المرأة رمز الإقامة المستحيلة في وطن اسمه لبنان.

على وقع الحرب يتأنث المجتمع، تغيب الذكورة في غياب الوضوح، والأنوثة غامضة مفتوحة على الاحتمالات، وأولها الحرب.

اللبناني متعجل هذه الأيام بلا سقف وفي وهم وطن، يسمع صرخات للحذر من احتلال إسرائيلي لكنه يرى ويلمس سلطة احتلال تطبق على أنفاسه وتتألف من قادة ميليشيا تحولوا الى زعماء طوائف.

ليس غدا ولا بعد غد، لقد وقعت واقعة الحرب على الطريقة اللبنانية أي بتحالف اضداد الداخل مع اضداد الخارج. اللبناني متعجل هذه الأيام، يأكل جيدا، يتحرك بسرعة، يحب ليوم واحد، الحرب اليوم وقد كانت بالأمس وستكون غدا وبعد غد وبعده.

تحمل التاريخ على ظهرك لا تستطيع رميه، هل ترمي نفسك؟ أنت التاريخ ولا عزلة لك، لن تخلو بالأنا المحفوظة على جداريات رسمها الآخرون ورسموا غيرها.

لن تكون وحيدا تأخذك الموسيقى الى نفسك، الى الحب الأول في ربيع لا يتكرر، الإحباط الأول في خريف مقيم، ذلك النمش على الأنف وأعلى الخدين لم يأت الحبيبة من شمس حامية، بل من سلالة أوروبية أخطأت طريقها الى بلادنا، أجبرت على سلوك الطريق الخطأ. قالت انها تتذكر ما لم تتذكر جدتها، المركب المتهالك باتجاه صيدا، كانت جزيرة كريت وراءها هناك في أيدي يونانيين مثلهم لكنهم مسيحيون (حين الأديان تفرق وتهجر لا تقرب ولا تعزز إقامة الانسان)،تتذكر ان المركب كان يحمل عقيدة دينية لا بشرا الى أرض اللجوء التي سماها أهلها دار الإسلام. تتذكر بالنيابة عن جدتها، والى الآن النمش على الأنف وفي أعلى الخدين يقول انها في غير دارها، لم تجد دار الأهل هنا لا في الصديق ولا في الحبيب ولا في الزوج.

لن تكون وحيدا، تحاول تكوين شجرة العزلة من أغصان الصداقات الضائعة. آخر لقائكما حين مرت بالمقهى في آخر إحدى الحروب، لا تذكر، وليتها لم تمر. كانت حاملا بطفلها الثالث، هكذا قالت، وكان انتباهك الى النمش على الأنف وفي أعلى الخدين، بالكاد كنت تراه، بل كنت تتخيله. صار وجهها شمعيا وانضمت الى جدتها في محو الذاكرة أو في فقدانها. مرت سريعا في ما يشبه الوداع. قالت ان زوجها،والد أبنائها الثلاثة يوناني، وسترحل بعائلتها الى أثينا حيث يقيم أهل الزوج.

كانت بيروت تفقد جالياتها المتوسطية وتنضم الى الداخل العربي المفاخر بالنقاء والأصالة.

الى أثينا يا رفيقة اليقظة الأولى ترحلين بوجهك الشمعي المستجد، ولن تزوري كريت لأنك فقدت النمش على الأنف وفي أعلى الخدين، ستكونين غريبة هناك، من غربة الى غربة مسار الحبيبة الأولى حين لا يكتمل حبها الأول.

في ما قبل الكتابة دائما، في السطر الأول أو الثاني أو الثالث على الأكثر وأنهي بالنقطة قبل أن ينتهي الكلام. وكم يبدو العالم كبيرا وعميقا وبعيد المدى، لا أستطيع موازنته ولن أستطيع. كم المدينة كبيرة أيضا، إذ تتراجع طموحاتك اليها، فمن يدعي احتضان مدينة.

تعيش المدن بسلام حين يلزم الأفراد حدودهم، يتكلمون على حيزهم الخاص مكانا وزمانا، وتتهدد المدن بالدمار حين ينسب البعض الى نفسه النطق باسمها أو القبض عليها، على ما يظنه نبضها السري.

والكتابة مدينة، تسقط أنت في الامتحان حين تدعي القبض عليها، تدخلها الأبدية، تدفعها الى الدمار حين تعتبرها رسالتك الخالدة. الكتابة الباقية تواضع. خطوط محفورة على عمود. حكاية شخصية جدا في مكان الآخرين المفتوح.

أما الكتابة الرسولية فمعناها الوحيد موت المدينة طلبا لبعث لن يكون.